مقدمة المركز
إن دراسة سيرة الأئمة المعصومين عليهمالسلام تعتبر من الاسس القويمة للبناء الفكري والمنهج السلوكي لديننا الحنيف ، لأنهم الامتداد الحقيقي لنهج النبوة وسيرتها المعطاء ، والحُماة الاُمناء لمفاهيم الرسالة وعقائدها من حالة التردي والتحريف والضلال.
إننا في رحاب سيرتهم نتواصل مع القدوة الحسنة بكلّ تجلياتها الروحيه والفكرية والعلمية ، وامتداداتها التي تستغرق كلّ مفردات الحياة وتسير نحو سُلّم الكمال المطلوب على صعيد الفرد والمجتمع.
من هنا فاننا بحاجة إلى دراسة متأملة وقراءة متأنية تلمّ بأطراف تلك السيرة المشرقة بالعطاء ، لنجعلها نصب أعيننا فنستجلي مواطن العبرة فيها ، ونستلهم دروس العظمة منها ، ونتعاطى مع دلالتها المتناغمة مع مسيرة الحياة بما تحمله من متطلبات ومستجدات على كافة مستويات الفكر والمنهج والسلوك.
ولعل في تنوع ادوار تلك السيرة بحسب طبيعة المرحلة والظروف السياسية المحيطة بقادتنا المعصومين عليهالسلام ما يزيل الرتابة منها ويجعلها تتواصل مع مختلف المواقف والظروف نحو هدفٍ اسمى وهمّ مشترك ، وذلك هو حفظ الكتاب الكريم وسنة النبي المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وطلب الاصلاح والهداية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهذا كتاب قراءة في سيرة أحد عظماء أهل البيت عليهمالسلام ، ذلك هو إمامنا الحادي عشر أبو محمد الحسن العسكري عليهالسلام الذي قال فيه أبوه الهادي عليهالسلام : « أبو
محمد ابني أنصح آل محمد غريزة وأوثقهم حجة ».
ويبدو أن أهم ما يستوقف الباحث في حياة الإمام العسكري عليهالسلام هو كونه آخر إمامٍ ختمت به الإمامة الظاهرة ، ليبدأ بعده عصر الغيبة الذي بدأت تباشيره وأوشك زمانه ، لذلك وقع على الإمام العسكري عليهالسلام العبء الأكبر في ترسيخ مبدأ الغيبة وتأصيله في نفوس شيعته للحفاظ على خطهم الرسالي من الضياع والانهيار. وقد استطاع إمامنا العسكري عليهالسلام أن ينجز هذه المهمة الخطيرة بكلّ جدارة وقوة ، وأن يحافظ على حياة ولده المهدي عليهالسلام من ملاحقة السلطة وأدوات قمعها ، في وقت عصيب عُزل فيه الإمام عن أصحابه وشدّدت الرقابة عليه.
وفي هذا الاتجاه استطاع أن يهيء ذهنية شيعته لتقبل عصر الغيبة باتباع عين الأسلوب الذي سيتّخذه ولده المهدي عليهالسلام في عصرالغيبة ، وهو الاحتجاب عن الناس واتخاذ الوكلاء الذين يختارهم من خاصته ، والاتصال بأصحابه عن طريق المكاتبات والتواقيع التي صارت سمة بارزة في حياة الإمامين العسكريين عليهماالسلام .
وهناك صفحات اُخرى مشرقة تستوقف الباحث في سيرة هذا الإمام العظيم الملأى بالعطاء ، نتركها للقارئ الكريم وهو يتحرّاها في فصول هذا الكتاب الذي استطاع مؤلفه أن يوقفنا عند المحطات الرئيسية في سيرة هذا الإمام العظيم ، ضمن دراسة جادة موثقة بالمصادر المعتبرة.
ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق مركز الرسالة |
المُقدَّمة ُ
الحمدلله رب العالمين ، وسلامه على عباده المصطفين محمد وآله الميامين.
وبعد : إن البحث في سيرة الأئمة المعصومين عليهمالسلام باعتبارهم قادةً رساليين وقدوة حسنة تتمثل بهم خصائص العظمة والاستقامة ، يعكس دورهم الايجابي في تحريك طاقات الأمة باتجاه الوعي الرسالي للشريعة ، وتعميق حركة الإسلام الأصيل في وجدانها ، وحماية الرسالة من حالة التردي بالوقوف في وجه التيارات الفكرية المنحرفة.
ويقابل ذلك البحث في سيرة الزماعات المعاصرة لهم عليهمالسلام التي نقرأ فيها الوجه المشوّه للرسالة على المستوى النظري والتطبيقي ، على الرغم من تماهي أصحاب السلطة والصولجان في كتابه تاريخهم وإغداقهم أسخي الهبات على كتّابهم وشعرائهم.
من هنا كان نصيب السيرة الأولى الخلود والسمو والمجد رغم إقصاء رموزها المعصومين عليهمالسلام عن مركزهم في زعامة الأمة ، ورغم كونهم ملاحقين ومعزولين عن قواعدهم وشهداء في نهاية المطاف ، وكان نصيبهم أيضاً أن تمسكت بهم غالبية الأمة ومنحتهم كلّ مظاهر التبجيل والثناء والود والثقة ، لا لأنهم من أبناء الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لأن المنتسبين إليه كثيرون ، بل لما تستشعره الأمة من سيرتهم الغنية بالعطاء ودورهم المشرق في كلّ اتجاه ذلك لأن الأمة لا تمنح ثقتها وحبها اعتباطاً ، يقول الإمام الكاظم عليهالسلام لهارون الرشيد :« أنا إمام
القلوب وأنت إمام الجسوم » (1) .
ونحن مع إمامنا الحادي عشر عليهالسلام نستشعر تمسك الأمة بالإمام وعظم محبته في قلوبهم وهيبته في نفوسهم في عدة مواقف لعلّ أبرزها حينما اُشخص العسكري مع أبيه عليهماالسلام من مدينة صلىاللهعليهوآلهوسلم جدهم إلى عاصمة الملك سامراء بأمر المتوكل ، فقد روى المؤرخون والمحدثون عن يحيى بن هرثمة وهو المكلف بإشخاص الإمام عليهالسلام أنه قال : « فذهبت إلى المدينة ، فلما دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله وقامت الدنيا على ساق »(2) وحينما نعاه الناعي إبّان شهادته « صارت سامراء ضجّة واحدة : مات ابن الرضا وعطّلت الأسواق ، وركب سائر الناس إلى جنازته ، فكانت سامراء يومئذٍ شبيها بالقيامة »(3) ولم يكن ذلك إلا لشعور الأمة بعطاء الإمام عليهالسلام ودوره الفعال في حماية الرسالة ، الأمر الذي جعل حتى أعداءَه من رجال البلاط يذعنون بفضله وهديه ، ومنهم وزير المعتمد عبيد الله بن خاقان الذي قال لابنه أحمد عامل الخراج والضياع في قم في إشارة إلى الإمام العسكري عليهالسلام : « يا بني لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه »(4) .
ولا ريب أن عطاءات الإمام العسكري عليهالسلام والأدوار التي قام بها على
__________________
(1) ينابيع المودة / القندوزي 3 : 120.
(2) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : 322 ـ مؤسسة أهل البيت عليهمالسلام ـ بيروت.
(3) إكمال الدين / الشيخ الصدوق : 43 ـ المقدمه ـ جماعة المدرسين ـ قم.
(4) إكمال الدين : 41 ـ المقدمه.
مستوى الرسالة ، تمتاز بالخصوصية والاستثناء نظراً للمقطع الزماني الخطير الذي عاشه عليهالسلام والذي يمتثل في شدة السلطان وإمعانه في عزل الإمام ومراقبة حركاته وسكناته ، بل ولجوئه إلى شتى وسائل القمع لانهائه والاجهاز عليه والحاقه بمن سبقه من سلالة هذا البيت الكرام عليهمالسلام ، وذلك لكونه والد الإمام الحجة عليهماالسلام الذي عرفوا بما أثر عندهم من الأحاديث والآثار انه يقيم دولة الحق ويقوّض اُسس الباطل ، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما ملئت جوراً وظلماً.
قال الإمام العسكري عليهالسلام :« زعموا انهم يريدون قتلي ليقطعوا هذا النسل ، وقد كذّب اللهُ قولَهم ، والحمد لله » (1) لقد ظنوا أنهم يستطيعون النيل من حجة الله المودع بعين الله وحفظه ، فخيب الله ظنّهم.
ورغم الظروف السياسية الحالكة استطاع إمامنا العسكري عليهالسلام أن يقدّم للامة عطاءً واسعاً ، ويمثل دوراً فاعلاً في إيصال سنن جدّه المصطفي صلىاللهعليهوآلهوسلم وآبائه المعصومين عليهمالسلام أن يعدّ جيشاً عقائدياً وطليعة واعية تؤمن بالغيبة كمبدأ عقائدي أصيل يعيش في وجدانها ، وتمكن بالاشراف على شيعته عن طريق التواقيع والمراسلات الوكلاء أن يخطط لسلوكها ويحمي وجودها وينمي وعيها ويمدها بكلّ الأساليب التي تساعد على صمودها وارتقائها إلى مستوى الحاجة الاسلامية.
وتمكن الإمام العسكري عليهالسلام من إنقاذ الأمة من حالة التعثّر في مهاوي الضلال والتيه ، عن طريق مقاومة التيارات الفكرية المنحرفة عن الجادة وجسّ مواقع تأثيرها وتشخيصها وهي في بدايتها تقديراً لشدّة مضاعفاتها وتخطيطاً
__________________
(1) إكمال الدين : 407 ـ باب 38.
للقضاء عليها ، ولعلّ خير مصاديق ذلك هو اهتمام الإمام العسكري عليهالسلام بمشروع كتاب يصنفه الكندي حول متناقضات ادّعاها في القرآن الكريم ، إذا إتصل به عن طريق بعض المنتسبين إلى مدرسته ، فاحبط المحاولة وأقنع مدرسة الكندي بأنها على خطأ.(1)
وسنعيش مع فصول هذا الكتاب السبعة أدواراً اُخرى وعطاءات كثيرة امتدت منذ نشأة الإمام عليهالسلام حتى وفاته في سامراء شهيداً وشاهداً على الأمة بعد سنين من المحنة وفصولٍ من الجهاد.
ولسنا ندّعي هنا بأنّنا قد أحطنا بكلّ جوانب حياة هذا الإمام الهمام وسيرته المعطاء ، ولكنّا قدّمنا جهداً متواضعاً نرجو أن يفي بعض الحق الذي في أعناقنا لأئمتنا الهداة الميامين ، سائلين المولى العزيز أن يسدد خطانا ، ويلهمنا الصواب في القول والعمل ، ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق ، وهو من وراء القصد.
__________________
(1) راجع : المناقب / ابن شهر آشوب 4 : 457 ـ دار الأضواء ـ بيروت ـ 1421 ه.
الفصل الأوّل
الحياة السياسية
في عصر الإمام العسكري عليهالسلام ( 232 ـ 260 ه )
لا ريب أنّ الحالة السياسية السائدة في عصرٍ ما تشكّل المفصل الأساسي الذي تتحرك عليه مجمل الأوضاع الفكرية والاجتماعية والاقتصادية لذلك العصر ، وتنعكس عليه سلباً وإيجاباً ، ذلك لأن الحاكم يمتلك ـ بسلطته وسطوته وسيطرته على منابع الثروة ـ مفاتيح التغيير الاجتماعي والفكري ببسط اسباب الحرية أو الاستبداد ، ويمتلك عوامل الرخاء أو الفساد الاقتصادي بعدله أو جوره ، وكلّ ذلك منوط بنوع الجهاز الحاكم وسلوك أجهزتة التنفيذية ، وفيما يتعلق بتاريخ الإمام أبي محمد الحسن العسكري عليهالسلام الذي عاش في العصر العباسي الثاني سنقدم قراءة تاريخية للحكام الذين عاصروا الإمام عليهالسلام منذ الولادة حتى الشهادة ، ثمّ نذكر أهمّ السمات التي طبعت ذلك العصر.
ولد الإمام الحسن العسكري عليهالسلام في الثامن من الربيع الآخر سنة 232 ه على القول المشهور في ولادته عليهالسلام وذلك في آخر ملك الواثق بالله بن المعتصم ( 227 ـ 132 ه ) وبويع بعده لأخيه جعفربن المعتصم المعروف
بالمتوكل لست بقين من ذي الحجة سنة 232 ه ، وكان عمر الإمام العسكري عليهالسلام نحو ثمانية أشهر ونصف ، وقتل المتوكل سنة 247 ه ، وتولى بعده ابنه المنتصر بالله زمام السلطة العباسية لستة أشهر ويومين فقط ، ومات سنة 248 ه ، فتولى بعده المستعين بالله أحمد بن محمد المعتصم سنة 248 ه ، وخلع نفسه بعد فتنة طويلة وحروب كثيرة سنة 251 ه ، وتولى بعده المعتز بالله بن المتوكل واسمه محمد وقيل : الزبير ( 252 ـ 255 ه ) واستشهد حجة الله الإمام أبو الحسن علي الهادي عليهالسلام بعد مضي نحو سنتين ونصف من أيام حكم المعتز بالله ، وذلك في الثالث من رجب سنة 254 ه ، وتولى الإمام العسكري مهام الإمامة الإلهية.
ثم جاء إلى السلطة المهتدي بالله محمد بن الواثق بعد خلع المعتز وقتله سنة 255 ه ، وحكم نحو سنة واحدة ، ثمّ قتله الأتراك سنة 256 ه ، وتولى بعده أحمد ابن جعفر المتوكل المعروف بالمعتمد نحو ثلاث وعشرين سنة حيث قتل سنة 279 ه ، وهكذا استغرقت حياة إمامنا العسكري عليهالسلام الأيام الأخيرة من حكم الواثق ، ثم تمام حكم المتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي مع أربع سنين من حكم المعتمد ، حيث استشهد إمامنا عليهالسلام يوم الجمعة الثامن من ربيع الأول سنة 260 ه ، على القول المشهور في وفاته عليهالسلام (1) .
__________________
(1) راجع : تاريخ الخلفاء / السيوطي : 267 ـ 282 ـ دار الكتاب العربي ـ 1422 ه ، تاريخ اليعقوبي 2 : 484 ـ 507 ـ دار صادر ـ 1415 ه ، إعلام الورى / الطبرسي 2 : 111 ـ 131 ـ مؤسسة آل البيت عليهمالسلام لإحياء التراث ـ 1417 ه ، الجوهر الثمين / ابن دقماق 1 : 146 ـ 157 ـ عالم الكتب ـ 1405 ه ، دلائل الإمامة ، الطبري : 409 و 324 ـ مؤسسة البعثة ـ 1413 ه ، التتمة في
يعتبر هذا العصر بداية لضعف سلطة الدولة العباسية وسقوط هيبتها وانحلالها ، بسبب استيلاء الأتراك على عاصمة الملك ، وانتقاض أطراف الدولة واستيلاء العمال والولاة عليها ، واعتزال الخلفاء عن شؤون الحكم وانصراف غالبيتهم إلى أسباب اللهو والترف والمجون ، وقد انعكست آثار ذلك على مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بشكل مباشر ، وفيما يلي أهم خصائص هذا العصر :
تميز هذا العصر بغلبة الأتراك والفراغنه والمغاربة وغيرهم من الموالي وتدخّلهم في مقاليد الحكم ، وكان أول ذلك في عصر المعصتم الذي اعتنى منذ توليه الحكم سنة 218 ه ، باقتناء الترك ، فبعث إلى سمرقند وفرغانة والنواحي في شرائهم ، وبذل فيهم الأموال ، وألبسهم أنواع الديباج ومناطق الذهب ، فكانوا يطردون خيلهم في بغداد ويؤذون الناس ، وضاقت بهم البلد ، فاجتمع إليه أهل بغداد وقالوا : إن لم تخرج عنا بجندك حاربناك ، فكان سبب بنائه سرّ من رأى وتحوّله إليها سنة : 220 وقيل : 221 ه(1) .
وبعد ذلك ازداد نفوذ الأتراك في عاصمة العسكر سامراء وتسنّموا
__________________
تواريخ الأئمة عليهالسلام / تاج الدين العاملي : 137 و 142 ـ مؤسسة البعثة ـ 1412 ه.
(1) تاريخ الخلفاء / السيوطي : 259 ، معجم البلدان / ياقوت الحموي ـ المجلد الثالث : 10 ـ 13 ـ ( مدينة سامراء ) دار احياء التراث العربي ـ بيروت ـ 1417 ه.
مناصب هامة كولاة وعمال وقادة جيش ، ومنهم بغا الكبير ، وابناه موسى ومحمد ، وبابكيال ، وياركوج ، واذكوتكين ، وبغا الصغير الشرابي ، ووصيف بن باغر وغيرهم. وبعد عصر المتوكل ازدادت سيطرتهم على مقاليد الحكم فأهانوا الخلفاء العباسيين وسلبوا إرادتهم ، وتدخلوا في شؤون الملك ، وتلاعبوا ببيوت الأموال ، وانتكهوا مصالح الاُمة ومقدراتها ؛ فقد قتلوا المتوكل والمهتدي ، وخلعوا المعتز والمؤيد ابني المتوكل من ولاية العهد ، واستخلفوا للمستعين ، واستولوا على الأموال في عهده ، وقاتلوه حين غضب عليهم ، فاعتصم ببغداد وبايعوا للمعتز من بعده.
قال ابن طقطقا : كان الأتراك قد استولوا منذ قتل المتوكل على المملكة ، واستضعفوا الخلفاء ، فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاءوا أبقوه ، وإن شاءوا خلعوه ، وإن شاءوا قتلوه(1) .
وقد وصف بعض الشعراء الحالة التي انتهت إليها الخلافة العباسية في زمن المستعين الذي ليس له حول ولا قوة مع اُمراء الجند الأتراك ومنهم وصيف وبغا بقوله :
خليفة في قفصٍ |
بين وصيفٍ وبغا |
|
يقول ما قال لهُ |
كما تقول الببغـا(2) |
ومن مظاهر سيطرة اُمراء الأتراك على جميع أفراد الدولة بما فيهم الخليفة في زمان المعتزّ بالله ، ما ذكره اليعقوبي في تاريخه حوادث سنة 255 ه ، قال : وثب
__________________
(1) الفخري في الآداب السلطانية / ابن الطقطا : 243 ، نشر الشريف الرضي ، قم.
(2) تاريخ الخلفاء / السيوطي : 278.
صالح بن وصيف التركي على أحمد بن اسرائيل الكاتب وزير المعتز ، وعلى الحسن بن مخلد صاحب ديوان الضياع ، وعلى عيسىٰ بن إبراهيم بن نوح وعلى ابن نوح ، فحبسهم وأخذ أموالهم وضياعهم وعذّبهم بأنواع العذاب ، وغلب على الأمر ، فهمّ المعتزّ بجمع الأتراك ، ثمّ دخل إليه فأزاله من مجلسه ، وصُيّر في بيت ، وأخذ رقعته بخلع نفسه ، وتوفي بعد يومين ، وصلّى عليه المهتدي(1) .
السمة الغالبة في حياة سلاطين هذا العصر ومن سار في ركابهم من القادة والولاة والامراء والقضاء هي الاستئثار ببيت المال وتسخيره لخدمة مصالحهم الخاصه وحرمان الأغلبية الساحقة منه ، ومن مظاهر ذلك الاستئثار ان اُمّ شجاع والدة المتوكل حينما ماتت قبله بسنة خلفت أموالاً لا تُحصر ؛ من ذلك خمسة آلاف ألف دينار من العين وحده(2) . ونقل المؤرخون في أحداث سنة 249 أن المستعين أطلق يد والدته ويد أتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال ، وأباحهم فعل ما أرادوا ، فكانت الأموال التي ترد من الآفاق يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة وما يفضل من هؤلاء الثلاثة يأخذه أتامش للعباس بن المستعين فيصرفه في نفقاته(3) .
وذكروا أنه حينما خرج المستعين من سامراء وبويع للمعتز سنة 252 ه
__________________
(1) تاريخ اليعقوبي : 2 : 504 ، سير أعلام النبلاء / الذهبي 12 : 535 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1419 ه.
(2) سير أعلام النبلاء 12 : 41.
(3) الكامل في التاريخ / ابن الأثير 6 : 154 ـ دار الكتاب العلمية ـ 1415 ه ، البداية والنهاية / ابن كثير 11 : 3 ـ مكتبة المعارف ـ 1414 ه.
خلّف في بيت المال بسامراء نحو خمسائة ألف دينار ، وفي بيت مال أم المستعين ألف ألف دينار ، وفي بيت المال العباس ابنه ستمائة ألف دينار(1) .
وفي أحداث سنة 255 ه ذكروا أنه ظُفِر لقبيحة اُمّ المعتز وزوجة المتوكل بعد خلع المعتز وقتله ، بخزائن تحت الأرض فيها أموال كثيرة ، ومن جملتها دار تحت الأرض وجدوا فيها ألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار ، ووجدوا في سفط قدر مكوك زمرد لم ير الناس مثله ، وفي سفط آخر مقدار مكوك من اللؤلؤ الكبار ، وفي سفط آخر مقداركليجة من الياقوت الأحمر الذي لم يوجد مثله ، فقوّمت الأسفاط بالفي ألف دينار(2) .
أما استعراض تفاصيل أموال وضياع الامراء والولاة والقضاء وكتاب الدواوين والجواري والمغنين والشعراء وغيرهم من المقربين إلى البلاط ، فمما يخرج بنا عن الغرض ، ويكفي مثالاً على ذلك أن بغا الكبير حينما مات سنة 248 ه ترك من المتاع والضياع ما قيمته عشرة آلاف ألف دينار ، وترك عشر حبّات جوهر قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار(3) .
وكانت مؤونة أحمد بن طولون ألف دينار في اليوم وحينما مات خلّف من العين عشرة ألف دينار ، وأربعة وعشرين ألف مملوك(4) .
__________________
(1) الكامل في التاريخ 6 : 166 ، البلادية والنهاية 11 : 7.
(2) تاريخ الطبري 9 : 395 بتحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم ـ بيروت ، الكامل في التاريخ 6 : 202 ، البداية والنهاية 11 : 17 ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : 280.
(3) البداية والنهاية 11 : 2.
(4) سير أعلام النبلاء 12 : 94 ـ 95.
وكانت غُريب جارية المعتمد ذات أموال جزيلة(1) .
كان رجال الدولة وعلى رأسهم السلطان ينفقون الأموال الطائلة لشؤونهم الخاصة كاقتناء الجواري والسراري والقيان والمغنين وجميع وسائل اللهو والمجون المتاحة في ذلك العصر ، وكانوا يسرفون في الانفاق على الشعراء وبناء القصور ، بينما تعيش الأكثرية الساحقة من الناس على الكفاف وينهكها الجوع والفقر وتفتك بها الأمراض والأوبئة.
فقد كان المتوكل كثير الانفاق على الشعراء حتى قيل : ما أعطى خليفة شاعراً ما أعطى المتوكل(2) ، فأجاز مروان بن أبي الجنوب علي قصيدة في مدحه بمائة وعشرين ألف درهم ، وأعطاه حتى أثرى كثيراً فقال :
فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد |
فقد خفت أن أطغى وأن اتجبرا |
فقال : لا أمسك حتى يغرقك جودي(3) .
وقرّب المتوكل أبا شبل عاصم بن وهب البرجمي ، وكان شاعراً ماجناً ، وأنفق عليه حتى أثرى ، قال أبو الفرج : نَفَق عند المتوكل بايثاره العبث وخدمه وخُصّ به فأثرى ، وأمر له بثلاثين ألف درهم على قصيدة من ثلاثين بيتاً(4) .
وأجاز عبيد الله بن يحيى بن خاقان أبا شبل البرجمي أيضاً على قصيدة في
__________________
(1) سير أعلام النبلاء 12 : 552.
(2) تاريخ الخلفاء / السيوطي : 270.
(3) تاريخ الخلفاء / السيوطي : 270.
(4) الأغاني / ابو الفرج الاصفهاني 14 : 193 ـ دار إحياء التراث العربي.
مدحه خمسة آلاف درهم ودابة وخلع عليه(1) .
وعن أحمد بن المكي ، قال : غنيت المتوكل صوتاً شعره لأبي شبل البرجمي ، فأمر لي بعشرين ألف درهم ، فقلت : يا سيدي أسأل الله أن يبلّغك الهُنيدة. فسأل عنها الفتح ، فقال : يعني مائة سنة ، فأمر لي بعشرة آلاف اُخرى(2) .
وأجاز المتوكل الحسين بن الضحاك الخليع على أربعة أبيات أربعة آلاف دينار(3) .
وكان المتوكل مغرماً بالجواري اللاتي يجلبن من أنحاء البلاد بأموال طائلة ، فقد روي عن المسعودي أنه قال : كان المتوكل منهمكاً في اللذات والشراب ، وكان له أربعة آلاف سُرّية ووطئ الجميع(4) .
كما كان ميالاً إلى التأنّق في تشييد القصورالضخمة التي تعجّ بألوانٍ من مظاهر الترف والبذخ والعبث اللهو والمجون ، قال اليعقوبي : بني المتوكل قصوراً أنفق عليها أموالاً عظاماً منها : الشاه ، والعروس ، والشِّبندار ، والبديع ، والغريب ، والبرج ، وأنفق على البرج ألف ألف وسبعمائة ألف دينار(5) .
وقيل : أنفق على الجوسق والجعفري والهاروني أكثر من مئتي ألف ألف
__________________
(1) الأغاني 14 : 199.
(2) الأغاني 14 : 193 ـ 194.
(3) مروج الذهب / المسعودي 4 : 388 ـ دار إحياء التراث العربي ـ 1422 ه ، سير أعلام النبلاء 12 : 40.
(4) تاريخ الخلفاء / السيوطي : 271 ، سير أعلام النبلاء 12 : 40.
(5) تاريخ اليعقوبي 2 : 491.
درهم(1) .
أما الإسراف في مراسم البلاط الخاصه باولاد الخلفاء وغيرهم فمما يطول به الحديث ، ومن شواهد ذلك ما نقله ابن كثير عن مراسم تسليم المعتز على أبيه بالخلافة ، قال : لما جلس [ المعتزّ ] وهو صبي على المنبر وسلم على أبيه بالخلافة ، وخطب الناس ، نثرت الجواهر والذهب والدراهم على الخواص والعوام بدار الخلافة ، وكان قيمة ما نثر من الجواهر يساوي مائة ألف دينار ، ومثلها ذهباً ، وألف وألف درهم غير ما كان من خلع وأسمطة وأقمشة مما يفوت الحصر(2) .
أمّا المستعين فقد قالوا عنه : إنه كان متلافاً للمال مبذراً ، فرّق الجواهر وفاخر الثياب ، واختلّت الخلافه بولايته واضطربت الاُمور(3) .
وذكروا أنّ اُم المهتدي محمد بن الواثق ، التي ماتت قبل استخلافه ، أنّها كانت تحت المستعين ، فلمّا قُتل المستعين صيّرها المعتزّ في قصر الرصافة الذي فيه الحرم ، فلمّا ولي المهتدي الخلافة قال يوماً لجماعة من الموالي : أمّا أنا فليس لي اُمّ أحتاج لها إلى غلّة عشرة آلاف ألف في كلّ سنة لجواريها وخدمها والمتّصلين بها(4) .
وأمثلة ذلك كثيرة في التاريخ ، وهي تحكي عن حجم التبذير في بيوت
__________________
(1) سير أعلام النبلاء 12 : 40 ، وراجع : معجم البلدان / ياقوت 2 : 60 ـ دار إحياء التراث العربي ـ عند ترجمة الجعفري ، وتاريخ اليعقوبي 2 : 492 ، والبداية والنهاية 10 : 346 ، والكامل في التاريخ 6 : 130.
(2) البداية والنهاية 11 : 17.
(3) سير أعلام النبلاء 12 : 46.
(4) تاريخ الطبري 9 : 396 ، الكامل في التاريخ 6 : 203 ، البداية والنهاية 11 : 18.
الأموال والإسراف في النفقات الخاصه على حساب الأغلبية المحرومة ، وكان من نتائج ذلك أن ابتعد الخليفة عن الرعية وأهمل شؤونهم فكرهه غالبية الناس.
قال ابن كثير في حوادث سنة 249 ـ خلافة المستعين ـ : قد ضعف جانب الخلافة ، واشتغلوا بالقيان والملاهي ، فعند ذلك غضبت العوام من ذلك(1) .
اما المعتمد الذي مات بالقصر الحسني مع الندماء والمطربين وكان يكسر ويعربد على الندماء(2) ، فقد قال السيوطي وغيره : انهمك باللهو واللذات ، واشتغل عن الرعية فكرهه الناس(3) .
ولعلّ ذلك هو أحد الاسباب في تعاطف عامة الناس سيما أهل بغداد مع بعض الطالبيين الثائرين بوجه الظلم والاستئثار ، ومنهم يحيى بن عمر الشهيد سنة 250 ه فضلاً عن حسن سيرته ، قال أبو الفرج : كان هوى أهل بغداد مع يحيى ، ولم يُروَ قطّ أنّهم مالوا إلى طالبي خرج غيره(4) .
وقال ابن الأثير : تولاه العامة من أهل بغداد ، ولا يعلم أنّهم تولوا أحداً من [ أهل ] بيته سواه(5) .
كما أنكر أهل بغداد على المتوكل وكتبوا شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء ، وحينما أمر بهدم قبر الإمام الحسين عليهالسلام وهدم ما حوله من الدور
__________________
(1) البداية والنهاية 11 : 3.
(2) سير أعلام النبلاء 12 : 552.
(3) تاريخ الخلفاء / السيوطي : 282 ، سير أعلام النبلاء 12 : 540.
(4) مقاتل الطالبيين / أبو الفرج الاصفهاني : 421 ـ المكتبة الحيدرية ـ النجف.
(5) الكامل في التاريخ 6 : 157.
ومنع الناس من زيارته(1) .
كان نتيجة اضطراب السلطة وضعفها وسوء إدارتها أن تركزت الثروات بيد قلّة من أبناء الاُسرة الحاكمه والمتنفّذين في السلطة ، فتفشّى التفاوت الطبقي بين أبناء الأمة تبعاً للولاء والقرب والبعد من البلاط وحاشيته ، فهناك قلّة متخمة تستأثر برأس المال والثراء الفاحش وتبدّده في حياة البذخ والترف لاشباع شهواتهم وملاذّهم ، وغالبية مسحوقة تعيش حياة البؤس والفقر والحرمان ، وتنهكها النزاعات والحروب ، وتئن تحت وطأة الغلاء وفتك الأوبئة ومختلف الامراض والكوارث الطبيعية التي ازدادت في هذا العصر ، مما ترك آثاراً وخيمة على بنية المجتمع وسلوك أفراده.
فمن تداعيات الحروب الداخلية وعلى رأسها ثورة الزنج ( 255 ـ 270 ه ) التي أثارت الخوف والجوع واستهلكت الأموال والأنفس والثمرات ، أن ارتفعت الأسعار واشتدت المجاعة في سائر ديار الاسلام ، وقلّت البضاعة ، وهجر بعض الناس بلدانهم طلباً للقمة العيش.
فذكروا في حوادث سنة 251 ه أنه بلغ سعر الخبز في مكة ثلاثة أواقٍ بدرهم. واللحم رطل بأربعة دراهم ، وشربة الماء بثلاثة دراهم(2) .
وفي حوادث سنة 251 و 252 ه نتيجة الحرب التي دارت رحاها بين المعتز والمستعين على الكرسي الخلافة شمل أهل بغداد الحصار والغلاء بالأسعار واجتمع
__________________
(1) تاريخ الخلفاء / السيوطي : 268.
(2) الكامل في التاريخ 6 : 181 ، البداية والنهاية 11 : 10.
على الناس الخوف والجوع(1) .
وقال اليعقوبي في حوادث سنة 252 ه : وغلت الأسعار ببغداد وسرّ من رأى حتى كان القفيز بمائة درهم ، ودامت الحروب ، وانقطعت الميرة وقلّت الأموال(2) .
وذكر الطبري وغيره حوادث سنة 260 ه أنه في هذه السنة اشتدّ الغلاء في عامة بلاد الاسلام ، فانجلى عن مكة من شدّة الغلاء من كان بها مجاوراً إلى المدينة وغيرها من البلدان ، ورحل عنها عاملها الذي كان بها مقيماً وهو بُريه ، وارتفع السعر ببغداد ، فبلغ الكرّ الشعير عشرين ومائة دينار ، والحنطة خمسين ومائة ، ودام ذلك شهوراً(3) .
أما الأمراض والأوبئة التي غالباً ما تكون من إفرازات الحروب وتردي الأوضاع الاقتصادية ، فقد تحدث عنها المؤرخون كثيراً في هذا العصر. قال السيوطي مشيراً إلى أيام المعتمد ( 256 ـ 279 ) : وفي أيامه دخلت الزنج البصرة وأعمالها وأخربوها وبذلوا السيف وأحرقوا وخربوا وسبوا ، وجرى بينهم وبين عسكره عدة وقعات وأعقب ذلك الوباء الذي لا يكاد يتخلف عن الملاحم بالعراق ، فمات خلق لا يُحصون(4) .
ويبدو أنه قد بلغ التدهور أوجه في أيام المعتمد ، ففي حوادث سنة 258 ه
__________________
(1) البداية والنهاية 11 : 9.
(2) تاريخ اليعقوبي 2 : 499.
(3) تاريخ الطبري 9 : 510 ، الكامل في التاريخ 6 : 248 ، سير أعلام النبلاء 12 : 543 ، البداية والنهاية 11 : 31.
(4) تاريخ الخلفاء / السيوطي : 282.
يقول ابن كثير وغيره : وفيها وقع الناس وباء شديد وموت عريض ببغداد وسامراء وواسط وغيرها من البلاد ، وحصل للناس ببغداد داء يقال له القفاع(1) .
ويقول اليعقوبي : وقع فيها وباء بالعراق ، فمات خلق من الخلق ، وكان الرجل يخرج من منزلة فيموت قبل أن ينصرف ، فيقال أنّه مات ببغداد في يوم واحد اثنا عشر ألف انسان(2) .
سادت الكثير من مظاهر الفوضى والشغب والاضطراب في هذا المقطع التاريخي من عمر الدولة العباسية ، تتمثل في انتقاض أطرافها ، واستقلال بعض ولاياتها ، والعدوان الأجنبي على بعض أعمالها ، وكثرة الثورات الداخلية وعلى رأسها ثورة الزنج والخوارج إلى غير ذلك من مظاهر عدم الاستقرار السياسي الأمني الناجمة عن ضعف القدرة المركزية للسلطة وتلاشي هيبتها وتعدد الارادات السياسية فيها لتدخل قادة الجند الأتراك والمغاربة والفراغنة في شؤونها وإشاعتهم الظلم والقهر والاستبداد. وفيما يلي نعرض لأهم تلك المظاهر ، ونذكر بعض الأمثلة من المصادر التي أرّخت لهذا العصر :
صار أغلب العمال والولاة في هذا العصر غير مقيدين بالارتباط الوثيق بعاصمة الملك أو الموالاة للدولة ، فكان بإمكانهم الانفصال ومناجزة الآخرين
__________________
(1) البداية والنهاية 11 : 30 ، الكامل في التاريخ 6 : 238.
(2) تاريخ اليعقوبي 2 : 510.
القتال ، فكانت الحروب سجالاً بين اُمراء الجند والولاة والعمال في أطراف الدولة ، فكثر المتغلّبون فيها ، وأصبحت المدن الاسلامية تستقبل كلّ فترة عاملاً جديداً يحكمها ويدير شؤونها ويجبي خراجها.
فمثلاً كانت الأندلس تحت سيطرة الأمويين(1) ، والشمال الأفريقي تحت إمرة آل الأغلب(2) ، ومصر تحت سيطرة أحمد بن طولون التركي(3) ، كما تغلب يعقوب بن الليث الصفار على خراسان ونيسابور حتى بلغت شوكته أن حارب جيش المعتمد في دير العاقول بعد أن استولى على واسط(4) ، وسيطر الحسن بن زيد العلوي على طبرستان وأسس الدولة العلوية هناك(5) ، وتغلب على آذربيجان محمد بن البعيث في زمان المتوكل(6) ، وعلى تفليس إسحاق بن إسماعيل مولى بني أميه(7) ، كما تغلب البطارقة على أرمينية(8) ، واستحوذ محمد
__________________
(1) سير أعلام النبلاء 8 : 260 ـ 263.
(2) الكامل في التاريخ 6 : 66 و 89 و 102 و 126 و 132 و 155.
(3) الكامل في التاريخ 6 : 195 و 213 و 227 و 238 ، سير أعلام النبلاء 13 : 94 / 53.
(4) تاريخ اليعقوبي 2 : 504 ، الكامل في التاريخ 6 : 114 و 151 و 193 و 197 و 232 و 242 و 246 ، سير أعلام النبلاء 12 : 513 / 191.
(5) تاريخ الطبري 9 : 271 ، ومروج الذهب 4 : 410 ، 426 ، 431 و 542 ، والكامل في التاريخ 6 : 158 و 204 و 227 و 233 و 238 و 246 و 336 ، البداية والنهاية 11 : 6 و 15 و 24 و 30.
(6) االكامل في التاريخ 6 : 100 و 104 ، البداية والنهاية 10 : 312.
(7) تاريخ اليعقوبي 2 : 489 ، الكامل في التاريخ 6 : 116.
(8) تاريخ اليعقوبي 2 : 489.
ابن واصل التميمي على الأهواز ثم على بلاد فارس(1) ، كما خضعت مرو لشركب الحمّار وقيل : الجمّال(2) ، وقد حصل كلّ هذا في الفترة من سنة 238 إلى سنة 259 ه الأمر الذي يشير إلى تدهور السلطة في هذا العصر إلى حد بعيد.
ومن مظاهر التدهور السياسي الكبير في هذا العصر إهمال المتصدين لقيادة الدولة للثغور الاسلامية إهمالاً أدى بالنتيجة إلى تعرض أطراف الدولة إلى غزوات راح ضحيتها آلاف المسلمين ونهبت أموالهم وانتكهت أعراضهم وسبيت نساؤهم ، كما في غزو مصر من قبل الافرنج والسودان والروم مرات عديدة بما لا حاجة إلى تفصيلها(3) .
وتمثل تلك الأعمال مظهراً آخر من مظاهر عدم الاستقرار الأمني والسياسي للدولة ، وهي أعمال كثيرة في هذا العصر أدت إلى تفاقم الأوضاع وتدهورها.
فاليمامة مثلاً عات بها بنو نمير(4) وأهل أرمينية قتلوا عاملهم وأعلنوا
__________________
(1) البداية والنهاية 11 : 24 و 29.
(2) تاريخ الطبري 9 : 502 ، الكامل في التاريخ 6 : 244 ، البداية والنهاية 11 : 31.
(3) راجع في ذلك : تاريخ الطبري 9 : 509 و 511 ، وتاريخ اليعقوبي 2 : 488 ، والكامل في التاريخ 6 : 117 و 131 و 245 ، والبداية والنهاية 10 : 317 و 324 و 342 و 11 : 31 ، وتاريخ الخلفاء / السيوطي : 269 و 283.
(4) الكامل في التاريخ 6 : 90 ، البداية والنهاية 10 : 308.
عصيانهم(1) ، كما تعرض عامل حمص لقتال الحمصيين ، وصارت حمص مسرحاً للقتل والصلب والتحريق(2) ، كما شغب الأتراك والجند في زمان المستعين وقتل خلق كثير ، وانتهبت أماكن كثيرة في عاصمة الدولة سامراء(3) كما تعرضت بغداد إلى شغب كثير في هذا العصر(4) ، ولم تنج الموصل من ذلك أيضاً(5) .
تعددت الثورات الشعبية التي قادها الطالبيون ضد الدولة العباسية من جهة ، وتنامت الحركات المتطرفة التي عصفت بالاُمّة من جهة اُخرى ، مما نجم عنه إزهاق نفوس كثيرة ، وتبديد ثروات طائلة ، مع هدر الطاقات وفقدان الأمن ، وشيوع حالة الفوضى والاضطراب.
أما عن الثورات والانتفاضات الشعبية التي انطلقت في هذا العصر لتقف بصلابه في وجه الحكم العباسي ، فقد تزعمها الطالبيون ، وكانت من إفرازات تردّي الأحوال العامة والقهر والاستبداد والطغيان والجور التي عمّت آثارها على الأمة بشكل عام وعلى الطالبيين بشكل خاص ؛ لأنهم يعانون من شدة الوضع العام ، ومن السياسة العباسية القاضية باضطهادهم ومطاردتهم واتباع
__________________
(1) الكامل في التاريخ 6 : 111 ، البداية والنهاية 10 : 315.
(2) الكامل في التاريخ 6 : 120 و 122 و 151 و 161 ، البداية والنهاية 10 : 319 و 323 و 11 : 2 و 6 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 490 و 495.
(3) الكامل في التاريخ 6 : 150 و 154 ، البداية والنهاية 11 : 2.
(4) الكامل في التاريخ 6 : 153 و 201 و 203 ، البداية والنهاية 11 : 3 و 17 و 18.
(5) الكامل في التاريخ 6 : 191 و 247.
شتى وسائل الضغط عليهم ، فكانت واعزاً يحفّز الثوار منهم علي الخروج المسلّح بين آونة واُخرى.
وقد تعرضوا في زمان المتوكل لمحنة عظيمة ، إذ فرض عليهم حصاراً جائراً ، واستعمل لهذا الغرض عمر بن الفرج الرخجي ، فمنعهم من التعرض لمسألة الناس ومنع الناس من البرّ بهم ، فكان لا يبلغه أن أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء إلا أنهكه عقوبة وأثقله غرماً ، حتى كان القميص يدور بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد اُخرى(1) .
وتعرض الكثير من آل أبي طالب في هذه الفترة لشتى أنواع الاضطهاد والتنكيل ، واُنزلت فيهم أقصى العقوبات ، فتفرّق كثير منهم في النواحي كي يتواروا عن الأنظار أو يعلنوا الثورة المسلحة ضد الدولة ، وشُرّد بعضهم من المدينة إلى سامراء ، وأودع بعضهم السجون حتى ماتوا فيها أو سُمّوا ، هذا فضلاً عمن قُتِلوا على أيدي قادة العباسين ورجال دولتهم كموسى بن بغا على بن أوتامش وصالح بن وصيف وسعيد الحاجب وغيرهم ، ممّا سنشير إليه في الفصل الثاني.
وقد تضمّنت كتب التاريخ أسماء ثمانية عشر ثائراً من الطالبيين في أقلّ من ثلاثين سنة ( 232 ـ 260 ه ) وهو عدد يشير إلى حجم معاناة الطالبيين ومدى الحيف والظلم الذي لحقهم على أيدي السلطات ، وإلا لما تطلّب جميع هذه
__________________
(1) مقاتل الطابيين : 396.
التضيحات الجسام(1) .
وأما عن الحركات المتطرفة التي ظهرت في هذا العصر ، فتتمثل بحركة الزنج ( 255 ـ 270 ه ) التي كانت من أشد الحركات المتطرفة التي عصفت بالحكم العباسي ، فضلاً عن عدم مراعاة تلك الحركة لمثل الاسلام وقيمه العليا ، نظراً لما قامت به تلك الحركة من انتها كانت خطيرة بحيث حرقت فيها حتى دور العبادة كالمساجد والجوامع فضلاً عن القتل الذريع وسبي النساء وفعل كلّ قبيح.
وكان صاحب الزنج من الأدعياء الذين زعموا الانتساب إلى الذرية الطاهرة في حين اجمع العلماء على كذبه ودجله وأنه دعيّ لا غير(2) .
ويؤيد ذلك ما كتبه الإمام العسكري عليهالسلام إلى محمد بن صالح الخثعمي في خصوص فرية صاحب الزنج ، حيث بين عليهالسلام في كتابه كذب هذا المفترى ، إذ
__________________
(1) راجع أسماء الثائرين ( الثمانية عشر ) على بني العباس في تلك الفترة في تاريخ الطبري 6 : 158 و 204 و 227 و 238 و 246 و 336 ، وتاريخ اليعقوبي 2 : 497 و 506 ، ومروج الذهب 4 : 406 ـ 410 ـ 424 ـ 428 ـ 429 ، ومقاتل الطالبيين : 397 و 406 و 419 ـ 424 و429 ـ 432 و 435 ، والفخري في الآداب السلطانية : 240 ، والكامل في التاريخ 6 : 107 و 156 ـ 158 و 161 و 179 ـ 181 و 192 و 213 و 226 ـ 227 و 242 ، والبداية والنهاية 10 : 314 و 11 : 5 ـ 6 و 9 و 12 و 15 ـ 16 و 24 و 30.
(2) راجع أخبار ثورة الزنج في : مروج الذهب / المسعودي 4 : 438 ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : 282 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 507 ، الفخري في الآداب السلطانية : 250 ، البداية والنهاية 11 : 18 وما بعدها ، وأحداث سنة 255 ـ 270 في تاريخ الطبري والكامل وسائر التواريخ.
جاء في الكتاب : « صاحب الزنج ليس من أهل البيت »(1) . وفي هذا دليل قاطع على كذب وافتراء صاحب الزنج لعنه الله في انتسابه إلى الذرية الطاهرة.
ومن تلك الحركات المتطرفه التي عبثت كثيراً ، هي حركة الخوارج الشراة الذين زعموا أنهم شروا الآخرة بالدنيا ! فشنّوا حرباً شعواء على كلّ من خالفهم الرأي لا يفرقون في هذا بين العباسيين وغيرهم ، وكانوا صورة لاسلافهم الذين مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
وقد ظهروا في هذا العصر في الموصل سنة 248 ه وقويت شوكتهم حتى وصلوا قرب العاصمة سامراء واشتبكوا مع العباسيين في معارك طاحنة ، واستولوا على مناطق كثيرة من السواد ، مما ترك هذا أثره البالغ في تدهور الأمن وضياع الهدوء والاستقرار(2) .
* * *
__________________
(1) المناقب / ابن شهر آشوب 4 : 462 ـ دار الأضواء ـ بيروت ـ ط 1 ـ 1421 ه.
(2) راجع حركة الخوارج تلك في : تاريخ اليعقوبي 2 : 497 و 502 ، والكامل في التاريخ 6 : 186 و 190 و 195 و 205 و 212 و 219 و 234 و 272 و 345 و 346 والبداية والنهاية 11 : 22 و 30.
الفصل الثّاني
الإمام عليهالسلام والسلطة
على الرغم من الضعف الذي انتاب هيكل الخلافة في هذا العصر ، والانحلال الذي بدأ يستشري في أوصال الدولة العباسية ، فقد بقي العباسيون على نفس المنوال الذي سار عليه أسلافهم إبان عصر القوة والازدهار في التصدّي لمدرسة الأئمة عليهالسلام وشيعتهم والنكاية بهم ؛ ذلك لأن علاقة الحاكم بالإمام تقوم على أساس ثابت ، وهو الخوف من نشاط الإمام ودوره الايجابي في الحياة الاسلامية ، والشعور بخطورة هذا الدور حتى وصل لدى الزعامات العباسية في هذا الفترة إلى درجة الرعب ، فطوقوا الإمام بحصار شديد ورقابة صارمة عليه ، وتربصوا به وبأصحابه ، وأخيراً تآمروا على حياته فسقط شهيداً في محراب الجهاد ولمّا يبلغ الثلاثين.
كان العباسيون يعيشون أوضاعاً سلبية على مستوى الالتزام الديني ، وقدّم غالبيتهم نموذجاً سيئاً في هذا الإتجاه ، فكانوا يضيقون ذرعاً بأي إمام من معاصريهم ، لما يتمتع به من سمو المكارم ومن شخصية علمية وروحية فذّة تجتذب مختلف أوساط الاُمّة ، التي ترى في الإمام الممثل الحقيقي لسيرة السلف الصالح والمصداق الأصيل لرسالة السماء ، وعندما ترى تلك الأوساط تذمّر
الامام في مواقفه تجاه السلطة وعدم رضاه عنها تزداد تمسكاً به ، ومن هنا يبرز تخوف السلطة من الانقلاب على نظامها لمصلحة خط الإمامة ، الأمر الذي تحرص معه على ربط الإمام بالجهاز الحاكم وتقريبه بشتى الوسائل ؛ كالسجن كما فعل الرشيد مع الإمام الكاظم عليهالسلام ، أو ولاية العهد كما فعل المأمون مع الإمام الرضا عليهالسلام ، أو الحجز والحصار كما فعل العباسيون من المعتصم إلى المعتمد مع الإمام الجواد والهادي والعسكري عليهالسلام وذلك لدوام مراقبة الإمام وتحديد حركته وفصله عن أتباعه ومواليه ومحبّيه المؤمنين بمرجعيته الفكرية والروحية.
لقد رافق الإمام العسكري عليهالسلام أباه في رحلته المضيقة من المدينة المنورة إلى سامراء ولمّا يزل صبياً ، وذلك حينما استُدعي الإمام الهادي عليهالسلام من قبل المتوكل إلى عاصمة البلاط العباسي انذاك ، ليكون محجوزاً ومراقباً ومعزولاً عن قاعدته العريضة ، وبعد أن وافاه الأجل في سنة ( 254 ه ) استمرّ العباسيون بسياستهم تلك تجاه الإمام العسكري عليهالسلام وكما يلي :
فرض العباسيون المعاصرون للإمام العسكري عليهالسلام الإقامة الجبرية عليه كما فرضوها على أبيه عليهالسلام ، وعملوا على الحد من حرية حركته ، سوى أنّهم أوجبوا عليه أن يركب إلى دار الخلافة في كلّ اثنين وخميس(1) ، لكفكفة نشاطاته وليكون تحت مرآى ومسمع الخليفة وجهازه الحاكم.
ولم يكن الركوب إلى دار السلطان برضا الإمام عليهالسلام كما لم يكن طريقه إليه مأموناً ، فقد جاء في الرواية عن أبي الحسن الموسوي الخيبري قال : « حدثني
__________________
(1) المناقب لابن شهر آشوب 4 : 466 ، الغيبة / الشيخ الطوسي : 215 / 179.
أبي ، أنه كان يغشي أبا محمد عليهالسلام بسرّ من رأى كثيراً ، وأنه أتاه يوماً فوجده وقد قدّمت إليه دابته ليركب إلى دار السلطان ، وهو متغير اللون من الغضب ، وكان يجيئه رجل من العامة ، فإذا ركب دعا له وجاء بأشياء يشنّع بها عليه ، فكان عليهالسلام يكره ذلك »(1) .
أمّا موقف الإمام العسكري عليهالسلام إزاء الملاحقة والمحاصرة والمراقبة التي فرضتها السلطة لتقييد تحركاته وشلّ عمله العلمي والحيلولة دون أداء دوره القيادي تجاه قواعده المؤمنة به ، هو إحاطة أعماله بالسرية والكتمان والحيطة إلا بالمقدار الذي تسمح به الظروف ، كما سار على نهج أبيه الإمام أبي الحسن الهادي عليهالسلام الذي عانى من الحصار والرقابة أيضاً في اتخاذ الوكلاء والقوّام الثقات الذين يمثّلون خط الإمامة الأصيل في أطراف البلاد الشاسعة ، ليكون الإمام عليهالسلام قادراً على ممارسة دوره في نشر الوعي الديني والعقائدي ، والحفاظ على مفاهيم الرسالة والقيم الاسلامية المقدسة ، والاتصال مع قواعده الشعبية في ظل تلك الظروف العصيبة.
ومن هنا كانت له عليهالسلام امتدادات واسعة في المواقع الاسلامية ، ويدل على ذلك عملية تنظيم الوكلاء والقوّام ، إذ كان له وكيل في كلّ منطقة له فيها أتباع وشيعة يأتمرون بأمره وينضوون تحت ولايته ، وكانوا يتصلون به عليهالسلام عن طريق المراسلة أو المكاتبة ، ويجيبهم عن طريق التواقيع الصادرة عنه ، ومن خلالها يمارس أيضاً عملية عزل شخص أو تعيين آخر مكانه ، ويعطي سائر إرشاداته
__________________
(1) الغيبة للشيخ الطوسي : 206 / 174 ـ مؤسسة المعارف الاسلامية ـ قم ـ 1417 ه ، بحارالأنوار 50 : 276 / 50.
لهذا وذلك من أصحابه.
وكان عليهالسلام يتبع أقصى إجراءات الحذر والاحتراز في إيصال تلك التواقيع إلى أصحابه ومن بين تلك الاجراءات أنه كان يضع بعض كتبه في خشبة مدورة طويلة ملء الكف كأنّها ( رِجل باب ) ليرسلها إلى العمري(1) .
وكان أصحابه أيضاً يدققون في خطّه ويأخذون منه نسخةً لكي لا يقعوا في محذور التزوير ، قال أحمد بن إسحاق : « دخلت إلى أبي محمد عليهالسلام فسألته أن يكتب لأنظر إلى خطّه فأعرفه إذا ورد ، فقال :نعم . ثمّ قال :يا أحمد ، إن الخط سيختلف عليك ما بين القلم الغليظ والقلم الدقيق فلا تشكّن ، ثم دعا بالدواة »(2) .
وكان الوكلاء والقيّمون يحتاطون كثيراً في أيصال المال إلى الإمام عليهالسلام وفي حمل مكاتباته وتواقيعه ، فتجد أوثق وكلائه وأعظمهم شأناً عثمان بن سعيد العمري السمان ، يتجر بالسمن تغطيةً على هذا الأمر يعني على نشاطه في مصلحة الأئمة عليهالسلام ـ وكان الشيعة إذا حملوا إلى أبي محمد عليهالسلام ما يجب عليهم حمله من الأموال أنفذوا إلى أبي عمرو ، فيجعله في جراب السمن وزقاقه ، ويحمله إلى أبي محمد عليهالسلام تقيةً وخوفاً(3) .
إن المتتبع لدراسة حياة الإمامين العسكريين عليهماالسلام يرىٰ أن المكاتيب
__________________
(1) راجع الرواية في مناقب ابن شهر آشوب 4 : 460.
(2) المناقب لابن شهر آشوب 4 : 466 ، بحار الأنوار 50 : 286.
(3) الغيبة الطوسي : 354 / 314.
والتواقيع قد اتخذت حيزاً واسعاً من مساحة تراثهما(1) ، كما يتبين له دورها في تعميق الوعي الاسلامي الأصيل ، وتعزيز مبادي مدرسة أهل البيت عليهمالسلام ، والتمهيد لغيبة ولده الحجة عليهالسلام من بعده ، فضلاً عن المزيد من المكاتبات المتعلقة بالأبواب الفقهية والمسائل الشرعية المبثوثة في كتب الفقه والمجاميع الحديثية ، وكان للوكلاء دور رئيسي في إيصالها من وإلى الإمام عليهالسلام .
ومن بين وكلاء الإمام العسكري عليهالسلام : إبراهيم بن عبدة النيسابوري(2) ، وأيوب بن نوح بن دراج النخعي(3) ، وجعفر بن سهيل الصيقل(4) ، وحفص بن عمرو العمري المعروف بالجمال(5) ، وعلي بن جعفر الهمّاني البركمي(6) ، والقاسم
__________________
(1) راجع مجلد الثاني من كتاب ( معادن الحكمة في مكاتيب الأئمة عليهمالسلام ) للمولى محمد علم الهدي ابن الفيض الكاشاني ، المتوفى سنة 1115 ه ، مكتبة الصدوق ـ طهران ـ وبالنظر لكثرة التواقيع والمكاتبات فقد اتخذت مادة للتأليف ، فألف عبد الله بن جعفر الحميري كتاب ( مسائل الرجال ومكاتباتهم أبا الحسن الثالث عليهالسلام ) وكتاب ( مسائل لأبي الحسن على يد محمد بن عثمان العمري ) و ( مسائل أبي محمد وتوقيعات ). وألف علي بن جعفر الهمّاني مسائل لأبي الحسن عليهالسلام . راجع : رجال النجاشي : 220 / 573 ترجمة محمد بن جعفر الحميري ، نشر جماعة المدرسين ـ قم ـ 1416 ه ومعجم رجال الحديث للسيد الخوئي 11 : 293 / 7968 ـ ترجمة علي بن جعفر الهماني ـ دار الزهراء ـ بيروت ـ 1403 ه.
(2) معجم رجال الحديث 1 : 250 / 205.
(3) رجال النجاشي : 102 / 254.
(4) معجم رجال الحديث 4 : 73 / 2169.
(5) معجم رجال الحديث 6 : 144 / 3800.
(6) معجم رجال الحديث 11 : 293 / 7968.
ابن العلاء الهمداني(1) ، وأبو عمرو عثمان بن سعيد العمري ابنه محمد ، اللذان قال فيهما الإمام العسكري عليهالسلام على ما رواه أحمد بن إسحاق عنه عليهالسلام :« العمري وابنه ثقتان فما أديّا فعنّي يؤدّيان ، وما قالا فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنّهما الثقتان المأمونان » (2) . ومنهم أيضاً محمد بن أحمد بن جعفر القمي(3) ، ومحمد بن صالح بن محمد الهمداني(4) ، وغيرهم.
من هنا يتضح أن المراقبة والحصار والإقامة الجبرية وغيرها من الممارسات لم تقطع الإمام عليهالسلام بشكل كلّي عن المناطق التي يتملك فيها أتباعاً وجماهير تدين بإمامته وتؤمن بمرجعيته ، بل استطاع أن يكسر بعض حاجز الحصار والاحتجاب القسري بالمكاتبة والوكلاء ، وأتاح له هذا الأسلوب أن يمهّد ذهنية شيعته كي تتقبل أمر الغيبة دون مضاعفات وتداعيات قد تكون غير محمودة لولا هذا التمهيد.
تعرّض الإمام العسكري عليهالسلام خلال خلافة المعتز والمهتدي والمعتمد إلى السجن أكثر من مرة ، وكانوا يوكلون به أشخاصاً من ذوي الغلظة على آل أبي طالب والعداء لأهل البيت عليهالسلام من أمثال : علي بن اوتامش(5) ، وأقتامش(6) ،
__________________
(1) راجع : مصباح المجتهد للشيخ الطوسي : 826 ـ أعمال شعبان ـ بيروت ـ مؤسسة فقه الشيعة ـ 1411 ه.
(2) الغيبة للشيخ الطوسي : 360 / 322.
(3) معجم رجال الحديث 14 : 318 / 10080.
(4) معجم رجال الحديث 16 : 184 / 10967.
(5) في بعض المصادر : بارمش أو نارمش.
(6) راجع : أصول الكافي / للشيخ الكليني 1 : 508 / 8 باب مولد أبي محمد الحسن
ونحرير(1) ، وعلي بن جرين ، وكان المعتمد يسأل علي بن جرين عن أخباره عليهالسلام في كلّ مكان ووقت ، فيخبره أنه يصوم النهار ويصلي الليل(2) ، كما كان العباسيون يدخلون على بعض مسؤولي السجن ومنهم صالح بن وصيف ، فيوصونه بأن يضيق عليه ويؤذيه(3) .
وكانوا لا يفارقونه حتى في الاعتقال حيث كانت الرقابة السرية تطارده وأصحابه بدسّ الجواسيس بين أصحابه في السجن ، وكان أحدهم يدّعي أنه علوي وهو جُمحي ، وقد هيّأ كتاباً جعله في طيات ثيابه كتبه إلى السلطان يخبره بما يقولون ويفعلون(4) .
ويصف أبو يعقوب إسحاق بن أبان طريقة حراسة السجن الذي يودع فيه الإمام عليهالسلام ومراقبته الصارمة بقوله : « إن الموكلين به لا يفارقون باب الموضع الذي حبس فيه عليهالسلام بالليل والنهار ، وكان يُعزَل الموكلون ويولّى آخرون بعد أن
__________________
بن علي من كتاب الحجة ـ دار الأضواء ـ بيروت ـ 1405 ه ، الإرشاد للشيخ المفيد 2 : 329 ـ مؤسسة آل البيت عليهمالسلام ـ قم ـ 1413 ه ، المناقب لابن شهر آشوب 4 : 462.
(1) راجع : أصول الكافي 1 : 513 / 26 من الباب السابق ، الإرشاد 2 : 334.
(2) إثبات الوصية / المسعودي : 253 ـ انصاريان ـ قم ـ 1417 ه ، مهج الدعوات / السيد ابن طاووس : 343 ، بحارالأنوار 50 : 314.
(3) أصول الكافي 1 : 512 / 23 من الباب السابق ، الإرشاد 2 : 334 ، المناقب لابن شهر آشوب 4 : 462.
(4) المناقب لابن شهر آشوب 4 : 470 ، إعلام الورى 2 : 141 ، الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي 2 : 682 / 1 و 2 ـ مدرسة الإمام المهدي عليهالسلام ـ قم ، بحارالأنوار 50 : 54 / 10 و 312 / 10.
تجدّد عليهم الوصية بحفظه والتوفّر على ملازمة بابه »(1) .
أما موقف الإمام عليهالسلام من السجن والسجانين ، فهو إقامة الحجة الواضحة عليهم عن طريق أفعاله وزهده وعبادته وصلاحه ، وقد استطاع من خلال هذا الأسلوب أن يفرض هيبته على غالبيتهم ، حتى أن بعضهم يرتعد خوفاً وفزعاً بمجرد أن ينظر إليه ، قال بعض الأتراك الموكلون به حينما كان في سجن صالح بن وصيف : « ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كلّه ، ولا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة ، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا »(2) .
وحينما حلّ في سجن علي بن أوتامش ، وكان شديد العداوة لآل البيت عليهمالسلام غليظاً على آل أبي طالب ، فضلاً عن أنه اُوصي من قبل السلطة بأن يفعل به ويفعل على ما جاء في الرواية ، لكنه تأثر بهدي الإمام عليهالسلام ومكارم أخلاقه ، فوضع خده على الأرض تواضعاً له ، وكان لا يرفع بصره إليه اجلالاً وإعظاماً ، وخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة واحسنهم فيه قولاً(3) .
وحينما أوصى العباسيون صالح بن وصيف عندما حبس أبو محمد الحسن العسكري عليهالسلام عنده بأن يضيق عليه ، قال لهم صالح وهو يعلن اعتذاره وعجزه عن هذا الأمر : « ما أصنع به وقد وكلت به رجلين من شرّ من قدرت عليه ، فقد
__________________
(1) بحارالأنوار 50 : 304 / 80 عن عيون المعجزات.
(2) الكافي 1 : 512 / 23 من الباب السابق ، الإرشاد 2 : 334.
(3) الكافي 1 : 508 / 8من الباب المتقدم ، الإرشاد 2 : 329.
صاروا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم »(1) .
طاردت السلطة شيعة الإمام باعتبارهم قاعدته ، ولاحقت أصحابه ورواد مدرسته باعتبارهم عمقة القادر على التأثير والاستقطاب ، وتعرضوا للسجن والتشريد والقتل ، وكانوا يعرضون على السيف لمجرد اعتقادهم بإمامته بشهادة أبرز وزراء البلاط آنذاك ، وهو عبيد الله بن يحيىٰ بن خاقان ، فقد روى عنه ابنه وهو أحمد بن عبيد الله الذي كان يتولى الضياع والخراج في قم أنه قال : « لما دفن ( الامام العسكري عليهالسلام ) جاء جعفر بن علي أخوه إلى أبي ( عبيد الله بن خاقان ) فقال : اجعل لي مرتبة أخي وأنا أوصل إليك في كلّ سنة عشرين ألف دينار ، فزبره أبي وقال له : يا أحمق ، إن السلطان جرّد سيفه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمة ليردهم عن ذلك فلم يتهيأ له ذلك »(2) .
وفي ربيع الأول سنة 254 ه قتلوا الكثير من أصحاب الأئمة وشيعتهم في قم التي تشكل قاعدة مهمة من قواعد الإمام عليهالسلام ، فقد نقل المؤرخون أنّ مفلحاً وباجور أوقعا بأهل قم في هذه السنة فقتلا منهم مقتلة عظيمة(3) .
وكان بعض الأصحاب يكتبون إلى الإمام عليهالسلام مستغيثين من ضيق الحبس
__________________
(1) الكافي 1 : 512 / 23 من الباب المتقدم ، الإرشاد 2 : 334.
(2) أصول الكافي 1 : 505 / 1 من الباب المتقدم ، الإرشاد 2 : 324.
(3) تاريخ الطبري 9 : 381 ، الكامل في التاريخ 6 : 196. حوادث سنة 254 ه.
وثقل الحديد(1) ، وقسوة العمال وظلمهم(2) ، والفقر وقلّة ذات اليد(3) ، فيهرع عليهالسلام إلى سلاح الأنبياء ليعينهم بالدعاء على نوائب الدهر.
وبلغت قسوة العمال أشدّها معهم ، فكان موسى بن بغا يعاقب بألف سوط أو القتل(4) ، وللإمام عليهالسلام دعاء طويل قنت فيه عليه لما شكاه أهل قم لظلمه وجوره ، وطلب منهم أن يقنتوا عليه كذلك(5) .
وتعرّض كثير منهم للمطاردة والسجن ، وقد أشار ابن الصباغ المالكي إلى ذلك في معرض حديثه عن الخلف الحجة عليهالسلام حيث قال : « خلّف أبو محمد الحسن من الولد ابنه الحجة القائم المنتظر لدولة الحقّ ، وكان قد أخفى مولده وستر أمره لصعوبة الوقت وشدّة طلب السلطان وتطلّبه للشيعة وحبسهم والقبض عليهم »(6) .
وسجن بعضهم مع الإمام العسكري عليهالسلام ، وكان منهم أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري ، والقاسم بن محمد العباسي ، ومحمد بن عبيد الله ، ومحمد بن
__________________
(1) راجع : أصول الكافي 1 : 508 / 10 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام ـ من كتاب الحجة.
(2) المناقب لابن شهر آشوب 4 : 466.
(3) المناقب لابن شهر آشوب 4 : 468 ، كشف الغمة / الاربلي 3 : 314 ـ دار الأضواء ـ بيروت ، الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي 2 : 1083 ـ دار الحديث ـ قم ـ 1422 ه ، بحارالأنوار 50 : 292 / 66.
(4) المناقب لابن شهر آشوب 4 : 460 ، بحارالأنوار 50 : 282 / 59.
(5) مهج الدعوات : 67 ، بحارالأنوار 85 : 230.
(6) الفصول المهمة 2 : 1091.
إبراهيم العمري ، والحسين بن محمد العقيقي(1) وغيرهم.
ولم تنته هذه المحاولات حتى بعد شهادة الإمام العسكري عليهالسلام مسموماً سنة 260 ه ، إذ تحدثت المصادر عن إلقاء حلائله وأصحابه في السجن ، وأنه جرى عليهم كلّ عظيم من اعتقال وتهديد وتصغير واستخفاف وذلّ(2) .
أما موقفه عليهالسلام مما يجري على أصحابه ، فيمكن تلخيصه في ثلاثة إتجاهات :
وقد ذكرنا آنفاً أنه عليهالسلام كان يرفدهم بالدعاء في أحرج الظروف وأحوجها ، ومن ذلك الدعاء الذي رواه عبد الله بن جعفر الحميري ، قال : كنت عند مولاي أبي محمد الحسن بن علي العسكري صلوات الله عليه ، إذ وردت إليه رقعة من الحبس من بعض مواليه ، يذكر فيها ثقل الحديد وسوء الحال وتحامل السلطان ، فكتب إليه :« يا عبد الله ، إنّ الله عليهالسلام يمتحن عباده ليختبر صبرهم ، فيثيبهم على ذلك ثواب الصالحين ، فعليك بالصبر ، واكتب إلى الله عزوجل رقعة وانفذها إلى مشهد الحسين بن علي صلوات الله عليه ، وارفعها عنده إلى الله عزوجل ، وادفعها حيث لا يراك أحد ، واكتب في الرقعة » ثم أورد دعاءً طويلاً كان منه قوله عليهالسلام :« اللهم إني قصدت بابك ، ونزلت بفنائك ، واعتصمت بحبلك ، واستغثت بك ، واستجرت بك ، يا غياث المستغيثين أغثني ، يا جارالمستجيرين أجرني ، يا إله العاملين خذ بيدي ، إنّه قد علا الجبابرة في
__________________
(1) راجع : الغيبة للشيخ الطوسي : 227 / 194 ، الفصول المهمة 2 : 1084 ، بحار الأنوار 50 : 306 / 2 و 312 / 10.
(2) راجع : الإرشاد 2 : 336.
أرضك ، وظهروا في بلادك ، واتخذوا أهل دينك خولاً ، واستأثروا بفيء المسلمين ، ومنعوا ذوي الحقوق حقوقهم التي جعلتها لهم ، وصرفوها في الملاهي والمعازف ، واستصغروا آلاءك ، وكذّبوا أولياءك ، وتسلطوا بجبريّتهم ليعزّوا من أذللت ، ويذلّوا من أعززت ، واحتجبوا عمّن يسألهم حاجة ، أو من ينتجع منهم فائدة » (1) .
وفي هذا الدعاء يشير الإمام العسكري عليهالسلام إلى مظاهر الفوضى والفساد والظلم التي طبعت الحياة السياسية آنذاك ، فذكر استئثار رجالات السلطة بفيء المسلمين ، ومنعهم ذوي الحقوق حقوقهم التي جعلها الله لهم ، وتبديدها في أسباب اللهو على حساب فقر الفقراء والمصالح التي تفوت بذلك.
ومن دعاء طويل له عليهالسلام على موسى بن بغا الذي شكاه أهل قم لجوره وظلمه ، قال عليهالسلام :« اللّهم وقد شملنا زيغ الفتن ، واستولت علينا غشوة الحيرة ، وقارعنا الذل والصغار ، وحكم علينا غير المأمونين في دينك ، وابتزّ اُمورنا معادن الاُبنَ (2) ممّن عطّل حكمك ، وسعى في اتلاف عبادك ، وإفساد بلادك.
اللّهم وقد عاد فيئنا دولة بعد القسمة ، وإمارتنا غلبة بعد المشورة ، وعدنا ميراثاً بعد الاختيار للاُمّة ، فاشتريت الملاهي والمعازف بسمهم اليتيم
__________________
(1) بحار الأنوار / المجلسي 102 : 238 / 5 عن الكتاب العتيق للغروي ـ المكتبة الاسلامية.
(2) الاُبَن : جمع ابنة ، الحقد والعداوة والعيب.
والأرملة ، وحكم في أبشار المؤمنين أهل الذمة(1) ، وولي القيام باُمورهم فاسق كلّ قبيلة ، فلا ذائد يذودهم عن هلكة ، ولا راعٍ ينظر إليهم بعين الرحمة ، ولا ذو شفقة يشبع الكبد الحرّى من مسغبة ، فهم أولو ضرع بدار مضيعة ، واُسراء مسكنة وحلفاء كآبة وذلّة.
اللّهم وقد استحصد زرع الباطل ، وبلغ نهايته ، واستحكم عموده ، واستجمع طريده ، وخذرف وليده ، وبسق فرعه ، وضرب بجرانه ، اللّهم فأتح له من الحق يداً حاصدة تصرع قائمه ، وتهشم سوقه ، وتجبّ سنامه ، وتجدع مراغمه ، ليستخفي الباطل بقبح صورته ، ويظهر الحق بحسن حليته »(2) .
وقد كان يأمر قوامه ووكلاءه بالتخفيف من وطأة الفقر عن كواهلهم ، ويعطي المعوزين منهم ما يرفع عنهم أسباب العوز والحاجة ، وممن شملهم بره وإحسانه أبو هاشم الجعفري ، وعلي بن إبراهيم بن موسى بن جعفر ، وأبو يوسف
__________________
(1) قد يقال : إن الخلفاء في هذا العصر خصوصاً المتوكل قد فرضوا قيوداً صارمة على أهل الذمة ، لكن المتصفح لكتب التاريخ يري أنّهم يشكلون جزءاً مهماً من جيوش الخلافة ، وبعضهم كانوا ذوي مناصب عالية في الجيش ، منهم أبو العباس الوارثي النصراني ، الذي وجهه بغا إلى أرمينية. راجع : الكامل في التاريخ 6 : 116 ، ومنهم صاعد بن مخلد النصراني كاتب الموفق ووزير المعتمد. راجع : سير أعلام النبلاء 13 : 326 / 149.
(2) مهج الدعوات لابن طاوُس : 67 ـ طهران ـ 1323 ه ، بحار الأنوار 85 : 229 / 1.
الشاعر(1) ، وغيرهم.
حيث كان عليهالسلام يمارس دوره كقائد لمواليه وأصحابه وراعٍ لمصالحهم ومدافع عن قضاياهم في حدود فسحة ضيقة محكومة بالرقابة والضغط ، وعلى هذا الصعيد كان عليهالسلام يحذرهم الأخطار والفتن المحدقة بهم ، ومن الوقوع في أحابيل السلطة ، ويساعدهم في إخفاء نشاطهم بحسب الإمكان ، ويهيء الجماعة الصالحة لغيبة ولده الحجة عليهالسلام الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.
وفي هذا الاتجاه أوصى أصحابه ان يكونوا على اُهبة من فتنةٍ تظلهم عند موت المعتز(2) .
وحذرهم من الإذاعة وطلب الرئاسة مشدّداً على التقوى وأداء الأمانة ، فقد جاء في الرسالة له عليهالسلام إلى بعض بني أسباط :« إياك والاذاعة وطلب الرئاسة ، فإنّهما يدعوان إلى الهلكة واقرأ من تثق به من مواليّ السلام ، ومُرهم بتقوى الله العظيم وأداء الأمانة وأعلمهم أن المذيع علينا حرب لنا » (3) .
وأكد على الكتمان والحيطة حتى أنه عليهالسلام قال لأحد أصحابه :« إذا سمعت
__________________
(1) راجع : أصول الكافي 1 : 506 / 3 و 507 / 10 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام ـ من كتاب الحجة ، بحار الأنوار 50 : 294 / 69.
(2) كشف الغمة 3 : 295 ، بحار الأنوار 50 : 298 / 72.
(3) كشف الغمة 3 : 293 ، بحار الأنوار 50 : 296 ـ 297.
لنا شاتماً فامض لسبيلك التي اُمرت بها ، وإياك أن تجاوب من يشتمنا ، أو تعرّفه من أنت ، فاننا ببلد سوء ومصر سوء » (1) .
وقال لأحد أصحابه حينما أراد أن يصرّح بإمامته عليهالسلام :« إنّما هو الكتمان أو القتل ، فاتق الله على نفسك » ، وفي رواية :« فابقوا على أنفسكم » (2) .
وبلغت درجة الحيطة لديه عليهالسلام أنه أوصى بعض أصحابه أن لا يسلّم عليه أو يدنو منه ، فقد ترصّده أصحابه يوماً عند ركوبه إلى دار الخلافة ليسلموا عليه ، فخرج التوقيع منه عليهالسلام إليهم :« ألا لا يسلمنّ عليّ أحد ، ولا يشير إليّ بيده ، ولا يومئ ، فانكم لا تأمنون على أنفسكم » (3) .
ونادى عليهالسلام يوماً حمزة بن محمد بن أحمد بن علي بن الحسين بن علي ، وقد أراد الاقتراب منه حينما خرج مع السلطان وأحسّ منه خلوة :« لا تدن مني ، فإنّ عليّ عيوناً ، وأنت أيضاً خائف » (4) .
لغرض استجلاء موقف السلطة من الإمام لابدّ من استعراض موقف الحاكمين من بني العباس على انفراد حسب التسلسل التاريخي ، وقد ذكرنا أن الإمام العسكري عليهالسلام عاصر في سني إمامته ( 254 ـ 260 ه ) شطراً من خلافة المعتز والمهتدي وبعض سني خلافة المعتمد ، لكنا سوف نذكر بعضاً من مواقف
__________________
(1) المناقب لابن شهر آشوب 4 : 461.
(2) إثبات الوصية : 251 ، كشف الغمة 3 : 302 ، بحار الأنوار 50 : 290 / 63.
(3) الخرائج والجرائح 1 : 439 / 20 ، بحار الأنوار 50 : 269 / 24.
(4) الثاقب في المناقب / لأبي جعفر محمد بن علي الطوسي : 573 / 520 ـ دار الزهراء ـ 1411.
المتقدمين الذين عاصروا الإمام العسكري عليهالسلام منذ ولادته إلى أن تسنّم الإمامة ( 232 ـ 254 ه ) ومع كون هذه المدة تقع ضمن فترة إمامة أبيه عليهالسلام لكن الإمام العسكري عليهالسلام واكب أحداثها وعانى من آثارها وعاش شتى الصعوبات والظروف القاسية التي واجهت أباه من قبل ؛ منذ استدعائه من المدينة إلى سامراء حتى وفاته مروراً بالحصار والاقامة والاعتقال محاولات الاغتيال.
على أنه لم ينقل لنا التاريخ تفاصيل العلاقة بين الإمام عليهالسلام وبين كلّ واحد من خلفاء عصره ، عدا أخبار اعتقاله وتنبؤاته بموت بعضهم أو قتله ، وموقف الخلفاء من الشيعة بشكل عام والطالبيين بشكل خاص الذين طالهم السجن والتشريد والقتل صبراً على يد أجهزة السلطة.
وهو جعفر بن المعتصم بن الرشيد ، بويع بعده وفاة أخيه الواثق في ذي الحجة سنة 232 ه ، وكان عمر الإمام العسكري عليهالسلام نحو ثمانية أشهر ونصف ، إذ ولد عليهالسلام في الثامن من ربيع الآخر سنة 232.
إن السمة الغالبة على المتوكل هي النصب والتجاهر بالعداء لآل البيت عليهمالسلام والحقد السافر عليهم وعلى من يمتّ لهم بصلة نسب أو ولاء ، وقد أجمع على هذا الأمر غالبية المؤرخين حتى : أولئك اعتبروه ناصراً للسنّة وشبّهوه بالصديق وعمر بن عبد العزيز.
قال السيوطي : « كان المتوكل معروفاً بالتعصب »(1) .
__________________
(1) تاريخ الخلفاء : 268. والظاهر أن أصل عبارة السيوطي ( بالنصب ).
وقال الذهبي : « كان المتوكل فيه نصب وانحراف »(1) .
وقال ابن الأثير : « كان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته ، وكان يقصد من يبلغه عنه أنه يتولى علياً وأهله بأخذ المال والدم ، وكان من جملة ندمائه عبادة المخنّث ، وكان يشدّ على بطنه تحت ثيابه مخدّة ويكشف رأسه وهو أصلع ويرقص بين يدي المتوكل ، والمغنون يغنّون ؛ قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين ، يحكي بذلك علياً عليهالسلام والمتوكل يشرب ويضحك ...
وإنّما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي ، منهم : علي بن الجهم الشاعر الشامي من بني شامة بن لؤي ، وعمرو بن الفرج الرخجي ، وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني أميه ، وعبدالله بن داود الهاشمي المعروف بابن اُترجه ، وكانوا يخوّفونه من العلويين ، ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم ، ثم حسّنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علوّ منزلتهم في الدين ، ولم يبرحوا به حتى ظهر منه ما كان »(2) .
ولا يمكن أن يجرأ أحد من هؤلاء الذين ذكرهم ابن الأثير على النيل من أمير المؤمنين عليهالسلام وعموم أهل البيت أمام أحد سلاطين بني العباس ، لولا علمهم المسبق بعداء ذلك ( الخليفة ) السافر لأهل البيت عليهمالسلام وحقده المقيت عليهم ، وحرصه على تشجيع ثقافة النصب والبغض وافشائها في أوساط الناس عن طريق بعض المرتزقة من الشعراء وغيرهم.
__________________
(1) سير أعلام النبلاء 12 : 35.
(2) الكامل في التاريخ 6 : 108 ـ 109.
روي أنّ أبا السمط مروان بن أبي الجنوب ، قال : « أنشدت المتوكل شعراً ذكرت فيه الرافضة ، فعقد لي على البحرين واليمامة ، وخلع عليّ أربع خلع ، وخلع عليّ المنتصر ، وأمر لي المتوكل بثلاثة آلاف دينار ، فنثرت عليّ ، وأمر ابنه المنتصر وسعد الايتاخي أن يلتقطاها لي ففعلا ، والشعر الذي قلته :
يرجوا التراث بنو البنا |
ت وما لهم فيها قُلامه |
|
والصهر ليس بـوارثٍ |
والبنت لا ترث الامامه |
|
ما للذين تنحلّوا |
ميراثكـم إلا النـدامه |
|
ليـس التراث لغيركـم |
لا والالـه ولا كرامه |
قال : ثمّ نثر عليّ بعد ذلك لشعرٍ قلته في هذا المعنى عشرة آلاف درهم »(1) .
ومن هنا كان زمان المتوكل إيذاناً ببدء عهد الظلم والتعسّف على أهل البيت عليهمالسلام وشيعتهم ؛ لأن المتوكل أمعن في التنكيل بهم وأسرف في القتل والحبس والحصار والتشريد وصنوف الأذي والعنت ، وفيما يلي نذكر بعض اجراءاته في هذا الإتجاه :
كان المتوكل حريصاً على محاصرة الإمام الهادي عليهالسلام ووضعه تحت الرقابة وعزله عن الجمهور المسلم الذي كان ينتفع به ويعظّمه وعن شيعته ومواليه في المدينة ، لهذا كتب باشخاصه مع أهل بيته ومواليه ، من مدينة جده صلىاللهعليهوآلهوسلم يثرب إلى عاصمة الملك العباسي آنذاك سامراء.
__________________
(1) تاريخ الطبري 9 : 230 ، الكامل في التاريخ 6 : 140.
إنّما ينطلق المتوكل في كلّ مواقفه مع الإمام الهادي عليهالسلام وشيعته من البغض الذي يكنّه لأهل بيت النبوة ، وفضلاً عن ذلك فقد ذكر المؤرخون سببين مرتبطين دفعا المتوكل إلى إشخاص الإمام عليهالسلام إلى سامراء وهما :
السبب الأول : هاجس الخوف الذي يراود المتوكل من انصراف الناس إلى الإمام عليهالسلام لما علمه من إلتفاف الناس حوله في المدينة ، نقل سبط ابن الجوزي عن علماء السير قولهم : « إنّما أشخصه المتوكل إلى بغداد ، لأن المتوكل كان يبغض علياً عليهالسلام وذريته ، فبلغه مقام علي عليهالسلام بالمدينة ، وميل الناس إليه فخاف منه »(1) .
وعبّر عن هذا المعنى أيضاً يزداد النصراني تلميذ بختيشوع طبيب البلاط ، قال : « بلغني أن الخليفة استقدمه من الحجاز فَرَقاً منه ، لئلا تنصرف إليه وجوه الناس ، فيخرج هذا الأمر عنهم ، يعني بني العباس »(2) .
والإمام عليهالسلام لم يكن في موقع الدعوة إلى الثورة ضد الخلافة العباسية ، لأن الظروف الموجودة آنذاك لم تكن تسمح بمثل هذا العمل ، وقد عرف الإمام عليهالسلام بعد استدعائه هواجس نفس المتوكل ، فبين له أنه ليس همّه استلام السلطة ولا تنزع نفسه الكريمة إلى شيء من هذا الحطام ، وذلك حينما استعرض المتوكل جيشه بحضور الإمام عليهالسلام وقد بلغ تسعين ألفاً من الترك ، فقال عليهالسلام :« نحن
__________________
(1) تذكرة الخواص : 322.
(2) دلائل الإمامة / الطبري : 419 / 382 ـ مؤسسة البعثة ـ قم ـ 1413 ه ، نوادر المعجزات / الطبري : 188 / 7 ـ مؤسسة الإمام المهدي عليهالسلام ـ قم 1410 ه.
لا ننافسكم في الدنيا ، نحن مشتغلون بأمرالآخرة ، ولا عليك ممّا تظنّ » (1) .
السبب الثاني : الدور الذي مارسه بعض الحاقدين من عمال بني العباس في الوشاية بالإمام إلى المتوكل ، ومنهم عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي ، المعروف بابن اترجة أو بريحة(2) ، وكان يتولى ادارة الحرب والصلاة في الحرمين.
قال المسعودي : كتب بريحة إلى المتوكل : إن كان لك في الحرمين حاجة فاخرج علي بن محمد منها ، فإنّه قد دعا الناس إلى نفسه واتبعه خلق كثير ؛ وتابع كتبه إلى المتوكل بهذا المعنى(3) .
وقال الشيخ المفيد : سعى بأبي الحسن عليهالسلام إلى المتوكل ، وكان يقصده بالاذى(4) .
وقال اليعقوبي : كتب إلى المتوكل يذكر أن قوماً يقولون إنه الإمام(5) .
ومهما يكن فان أفعال الوشاة توقظ شكوك المتوكل وأحقاده وتثير توجّسه الكامن في نفسه تجاه الإمام عليهالسلام .
ذكر الشيخ المفيد أنه لما بلغ أبا الحسن عليهالسلام سعاية عبد الله بن محمد به ، كتب إلى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمد عليه ويكذبه في ما وشى به إليه ، فتقدم
__________________
(1) الخرائج والجرائح 1 : 414 / 19 ، الثاقب في المناقب : 557 ، كشف الغمة 3 : 185 ، بحار الأنوار 50 : 155 / 44.
(2) أو بريهة ، راجع : الكامل في التاريخ 6 : 245.
(3) إثبات الوصية : 233.
(4) الإرشاد 2 : 309.
(5) تاريخ اليعقوبي 2 : 484.
المتوكل باجابة الإمام عليهالسلام بكتاب دعاه فيه إلى حضور العسكر على جميل الفعل والقول(1) . ثم أورد نسخة الكتاب.
وكان جواب المتوكل الذي استدعى بموجبه الإمام عليهالسلام إلى سامراء هادئاً ليناً ، تظاهر فيه بتعظيم الإمام عليهالسلام وإكرامه ، ووعده فيه باللطف والبرّ ، وذكر فيه براءته مما نسب إليه واتهم به من التحرك ضد الدولة ، وانه أمر بعزل الوالي الذي سعى به ـ وهو عبد الله بن محمد ـ عن منصبه وولّى محلّه محمد بن الفضل ، وادّعى في آخر الكتاب أنّه مشتاق إلى الإمام عليهالسلام ، ثم أفضى إلى بيت القصيد وهو أن يشخص الإمام عليهالسلام إلى سامراء مع من اختار من أهل بيته ومواليه ، وأن يرافقه يحيى بن هرثمة الذي أرسله لأداء هذه المهمة على رأس الجند.
ولا يعدو كتاب المتوكل كونه مناورة حاول الالتفاف من خلالها على الإمام عليهالسلام واحتواء نشاطه ، أو قل هو صيغة دبلوماسية من قبيل ذرّ الرماد في العيون ، إذ لم يكن المتوكل صادقاً فيما وعد ، فحينما دخل يحيى بن هرثمة المدينة فتّش دار الإمام عليهالسلام حتى ضجّ أهل المدينة ، ولما وصل ركب الإمام عليهالسلام إلى سامراء احتجب عنه المتوكل في اليوم الأول ، ونزل الإمام عليهالسلام الإمام في خان الصعاليك ، وأمر بتفتيش داره في سامراء مرات عديدة ، ولم يمض مزيد من الوقت حتى عزل محمد بن الفضل وولى مكانه محمد بن الفرج الرخّجي المعروف بعدائه السافر لآل البيت عليهمالسلام (2) .
__________________
(1) الإرشاد 2 : 309 ، وراجع نسخة كتاب المتوكل أيضاً في أصول الكافي 1 : 501 / 7 ، والفصول المهمة 2 : 1069.
(2) قال ابن كثير : كان المتوكل لا يولي أحداً إلا بعد مشورة الإمام أحمد ، البداية
ويبدوا أن المتوكل قد صاغ كتابه بصيغة الرجاء ، وكأنه ترك للإمام عليهالسلام الخيار في الشخوص أو البقاء ، غير أنه الاكراه بعينه ، إذ أنه بعث الكتاب مع الجند وقادتهم الذي أرسلهم لأداء مهمة إشخاص الإمام ، ثمّ ( إن الإمام إن لم يذهب حيث أمره يكون قد أثبت تلك التهمة على نفسه ، وأعلن العصيان على الخلافة ، وكلاهما مما لا تقتضية سياسة الإمام ) عليهالسلام (1) .
ولعل أوضح دليل على إلزام الإمام عليهالسلام بهذا الأمر هو تصريحه عليهالسلام بذلك في حديث رواه المنصوري عن عم أبيه أبي موسى ، ثم قال : « قال لي يوماً الإمام علي بن محمد عليهماالسلام :يا أبا موسى ، اُخرجت إلى سرّ من رأى كرها ً »(2) .
رافق الإمام العسكري أباه الإمام الهادي عليهماالسلام في رحلته من المدينة إلى سامراء مع أهل بيته وبعض مواليه ، وقد اختلف في عمره عليهالسلام حينذاك نظراً للاختلاف في تاريخ رحلة الإمام عليهالسلام .
__________________
والنهاية 10 : 316 ، فان كان ذلك حقاً ، فلا أدري كيف يوافق الإمام أحمد على تولية أمثال : محمد بن الفرج الرخجي ، والد يزج الذي هدم قبر الحسين عليهالسلام ، وأبي السمط مروان بن أبي الجنوب الذي ولاه على اليمامة والبحرين ، وابن اُترجة الذي ولاه الحرب والصلاة في الحرمين وغيرهم من النواصب ؟! فإنّ أراد المبالغة في مدح المتوكل الناصبي فقد عرّض بالإمام أحمد وأساء إليه ، وإن كان قوله حقاً فعلى أمثال الإمام أحمد العفا.
(1) تاريخ الغيبة الصغرى للسيد محمد الصدر : 107 ـ دار التعارف ـ بيروت ـ 1412 ه.
(2) المناقب لابن شهر آشوب 4 : 449 ، بحار الأنوار 50 : 129 / 8.
ذكر المسعودي أنه شخص الإمام الحسن العسكري بشخوص والده عليهماالسلام إلى العراق في سنة 236 ه وله أربع سنين وشهور(1) .
وذكر الطبري أنه قدم يحيى بن هرثمة بعلي بن محمد بن علي الرضا بن موسى ابن جعفر سنة 233 ه(2) ، وعليه يكون عمر الإمام العسكري عليهالسلام نحو سنة واحدة ، وعلى ضوئه ذكر ابن كثير أن مدة إقامة الإمام الهادي عليهالسلام في سامراء أكثر من عشرين سنة. قال في أحداث سنة 254 ه ، وهي السنة التي توفي فيها الإمام الهادي عليهالسلام : نقله المتوكل إلى سامراء ، فأقام بها أزيد من عشرين سنة بأشهر ، ومات في هذه السنة(3) ، وكذلك ذكر ابن طولون أنه عليهالسلام أقام في سامراء عشرين سنة وتسعة أشهر(4) .
أما الشيخ المفيد فقد ذكر نسخة كتاب الاستدعاء الذي كتبه المتوكل. وورد في ذيله أن كاتبه إبراهيم بن العباس كتبه في سنة 243 ه(5) . وأكّد هذا التاريخ باعتبار أن مقام الإمام الهادي عليهالسلام في سامراء إلى أن قُبض عشر سنين وأشهراً(6) . وعليه يكون عمر الإمام العسكري عليهالسلام عندما غادر المدينة أحد عشرسنة وبضعة شهور.
ويبدو أن الشيخ المفيد استفاد من رواية الكافي لنسخة كتاب المتوكل ،
__________________
(1) إثبات الوصية / المسعودي : 244.
(2) تاريخ الطبري 9 : 163 ـ حوادث سنة 233 ه.
(3) البداية والنهاية 11 : 15 ـ حوادث سنة 254 ه.
(4) الأئمة الاثنا عشر عليهمالسلام / لابن طولون : 109 و 113 ـ بيروت ـ دار صادر.
(5) الإرشاد 2 : 310.
(6) الإرشاد 2 : 312.
والتي ورد فيها اسم كاتب المتوكل ( إبراهيم بن العباس ) في ذيل الكتاب إلا أنه يخلو من التاريخ ، لكن جاء في أول رواية الكافي ما يلي : عن محمد بن يحيى ، عن بعض أصحابنا ، قال : أخذت نسخة كتاب المتوكل إلى أبي الحسن الثالث من يحيى بن هرثمة في سنة 243 ه(1) ، وواضح أن هذا هو تاريخ أخذ نسخة الكتاب لا تاريخ كتابته ، ويؤيده أن ابن هرثمة هو الذي أخذ الكتاب إلى المدينة لاستدعاء الإمام عليهالسلام إلى سامراء ، فكيف تؤخذ نسخة الكتاب منه قبل إنهاء مهمته ؟!
ورجّح السيد محمد الصدر أن تاريخ الرحلة كان سنة 234 ه ، وإذا صحّ ذلك فسيكون عمر الإمام العسكري عليهالسلام حينما غادر المدينة نحو سنتين ، وترجيحه مبنياً على اعتبارين ؛ الأول : ما ذكره ابن شهر آشوب من أن مدة مقام الإمام الهادي عليهالسلام في سامراء من حين دخوله إلى وفاته عشرون سنة(2) ، فإذا كانت وفاته 254 ه ، تكون سفرته سنة 234 ه ، الثاني : كون هذا التاريخ أنسب بالاعتبار السياسي ، لأنه بعد مجيء المتوكل إلى الخلافة بعامين ، فيكون المتوكل قد طبّق منهجه في الرقابة على الإمام عليهالسلام في الأعوام الاولى من خلافته ، بخلاف رواية المفيد التي تبعد بالتاريخ عن استخلاف المتوكل أحد عشر عاماً(3) .
__________________
(1) أصول الكافي 1 : 501 / 7 ـ باب مولد أبي الحسن علي بن محمد عليهماالسلام من كتاب الحجة.
(2) المناقب لابن شهر آشوب 4 : 433.
(3) تاريخ الغيبة الصغري 2 : 107 ـ 108.
ذكر المسعودي « أن يحيى بن هرثمة قدم المدينة ، فأوصل الكتاب إلى بريحة ، وركبا جميعاً إلى أبي الحسن عليهالسلام فأوصلا إليه كتاب المتوكل ، فاستأجلهما ثلاثاً ، فلما كان بعد ثلاث عاد يحيى إلى داره فوجد الدواب مسرجة والأثقال مشدودة قد فرغ منها ، وخرج صلوات الله عليه متوجهاً نحو العراق ، وأتبعه بريحة مشيعاً ، فلما صار في بعض الطريق ، قال له بريحة : قد علمت وقوفك على أني كنت السبب في حملك ، وعليَّ حلف بأيمان مغلظة لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو إلى أحد من خاصته وأبنائه ، لأجمرنّ نخلك ، ولأقتلنّ مواليك ولأعورنّ عيون ضيعتك ، ولأفعلن وأصنعن.
فالتفت إليه أبو الحسن عليهالسلام فقال له :إن أقرب عَرضي إياك على الله البارحة ، وما كنت لأعرضنك عليه ثم لاشكونك إلى غيره من خلقه . فانكبّ عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه. فقال له :قد عفوت عنك »(1) . وهكذا تجد بريحة يهتزّ من كلام الإمام عليهالسلام فينكبّ عليه ويتضرع إليه ، رغم أنّه في موقع القوة ، وهذه هي هيبة أولياء الله في قلوب أعدائه ، وتلك هي أخلاقهم وسماحتهم لمن أساء إليهم.
ونقل سبط ابن الجوزي عن علماء السير : « أن المتوكل دعا يحيى بن هرثمة وقال : اذهب إلى المدينة ، وانظر حاله وأشخصه إلينا ، قال يحيى : فذهبت إلى المدينة ، فلما دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ، وقامت الدنيا على ساق ، لأنّه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد ، ولم يكن
__________________
(1) إثبات الوصية : 233.
عنده ميل إلى الدنيا.
قال يحيى : فجعلت اُسكّنهم وأحلف لهم أنّي لم اُؤمر فيه بمكروه ، وأنه لا بأس عليه ، ثمّ فتّشت منزله ، فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم ، فعظم في عيني ، وتوليت خدمته بنفسي ، وأحسنت عشرته ، فلما قدمت به بغداد بدأت باسحاق بن إبراهيم الطاهري ، وكان والياً على بغداد فقال لي : يا يحيى ، إن هذا الرجل قد ولده رسول الله والمتوكل من تعلم ، فإنّ حرّضته عليه قتله ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خصمك يوم القيامة ، فقلت له : والله ما وقعت منه إلا على كلّ أمر جميل ، ثم صرت به إلى سرّ من رأى ، فبدأت بوصيف التركي فأخبرته بوصوله ، فقال : والله لئن سقط منه شعره لا يطالب بها سواك ، قال : فعجبت كيف وافق قوله قول إسحاق »(1) .
هذا الخبر يدل على الموقع الذي يشغله الإمام الهادي عليهالسلام في نفوس الناس وكسب ثقتهم ومحبتهم على اختلاف توجهاتهم ، وذلك من خلال إحسانه إليهم ورعاية اُمورهم وتأثّرهم بخصائص شخصيته الباهرة ، ممّا جعله في موقع محبة الناس كلهم ، فهرعوا في مظاهرة احتجاجية لم يسمع بمثلها خوفاً على حياة إمامهم عليهالسلام من بطش المتوكل الذي يعرفون توجهاته وممارساته ، لهذا حاول ابن هرثمة تهدئتهم بقسمه لهم أنه لم يؤمر فيه بمكروه ، وتأثّر ابن هرثمة بعظمة الإمام عليهالسلام أيضاً فتولّى خدمته بنفسه وأحسن عشرته ، وهكذا امتدت محبة الإمام عليهالسلام وتعظيمه إلى حاشية المتوكل في بغداد وسامراء.
وتتجلّى مظاهر الحب والتعظيم أيضاً في تشوق الناس من أهالي بغداد إلى
__________________
(1) تذكرة الخواص : 322 ، مروج الذهب 4 : 422 نحوه.
الإمام الهادي عليهالسلام واجتماعهم لرؤيته ، مما اضطرهم إلى دخول البلد ومغادرته في الليل ، فقد جاء في تاريخ اليعقوبي « أنه لما كان في موضع يقال له الياسرية نزل هناك ، وركب إسحاق بن إبراهيم الطاهري لتلقيه ، فرأى تشوق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته ، فأقام إلى الليل ، ودخل به في الليل ، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ إلى سرّ من رأى »(1) .
حينما وصل ركب الإمام الهادي عليهالسلام إلى سامراء تقدّم المتوكّل بأن يُحجَب عنه في يومه ، واُنزل في خان يُعَرف بخان الصعاليك(2) ، فأقام فيه يومه ، ثمّ تقدّم المتوكل بافراد دارٍ له ، فانتقل إليها ، فأقام أبو الحسن مدة مقامه بسرّ من رأى مكرماً معظماً مبجلاً في ظاهر حاله ، والمتوكل يبغي له الغوائل في باطن الأمر ، ويجتهد في ايقاع حيلة به ، ويعمل على الوضع من قدره في عيون الناس ، فلا يتمكن من ذلك ولم يقدره الله عليه(3) .
والظاهر أن المتوكل أمر أولاً بجحز الإمام عليهالسلام وفرض الإقامة الجبرية عليه في مكان غير لائق ، ثمّ أنه لما سمع الاطراء من قادة الجند الموكلين به ، صار مضطراً إلى إكرامه ، نقل سبط ابن الجوزي عن علماء السير عن يحيى بن هرثمة أنه قال : « لمّا دخلت على المتوكل سألني عنه فأخبرته بحسن سيرته وسلامة
__________________
(1) تاريخ اليعقوبي 2 : 484.
(2) راجع : أصول الكافي 1 : 498 / 2 باب أبي الحسن علي بن محمد عليهالسلام من ـ كتاب الحجة ، بصائر الدرجات / للصفار : 426 / 7 و 427 / 11 ـ مؤسسة الأعلمي ـ طهران ، الخرائج والجرائح / للقطب الراوندي 2 : 680 / 10.
(3) الإرشاد 2 : 311 ، الفصول المهمة 2 : 1070 ، إعلام الورى 2 : 126.
طريقته وورعه وزهادته ، وأني فتّشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم ، وأن أهل المدينة خافوا عليه ، فأكرمه المتوكل وأحسن جائزته وأجزل برّه ، وأنزله معه سر من رأى »(1) ، لتمرير مخططه القاضي بعزل الإمام عليهالسلام ومراقبته.
تقوم أجهزة السلطة بذرائع مختلفة بالتفتيش المفاجئ لدار الإمام الهادي عليهالسلام في سامراء ، وعلى رأسها الوشايات التي ترتفع إلى المتوكل من النواصب المحيطين به ، فتثير في نفسه كوامن الخوف والشك والحقد التي اشتملت على كيانه وأحاطت جوانبه ، فيأمر بكبس داره ، وفي كلّ حوادث الدهم التي تعرّضت لها دار الإمام يرجع المأمورون وبالتالي الوشاة بالخيبة والفشل الذريعين ، لأنهم لم يجدوا شيئاً مريباً ولا أيّ نشاط غريب ، وليس ثمة إلا الإمام عليهالسلام وهو يتلوا القرآن أو يقيم الصلاة.
عن إبراهيم بن محمد الطاهري ـ في حديث طويل ـ قال : « سعي البطحاني(2) بأبي الحسن عليهالسلام إلى المتوكل ، وقال : عنده سلاح وأموال ، فتقدم المتوكل إلى سعيد الحاجب أن يهجم ليلاً عليه ، وياخذ ما يجده عنده من الأموال والسلاح ويحمله إليه. قال إبراهيم : فقال لي سعيد الحاجب : صرت إلى
__________________
(1) تذكرة الخواص : 322 ، ونحوه في مروج الذهب 4 : 422.
(2) في الكافي : البطحائي العلوي ، وهو يشير إلى أن الدولة تستعمل الضدّ النوعي للتجسس على الإمام ، الأمر الذي تمارسه حكومات الطغيان والاستبداد في هذا الزمان.
دار أبي الحسن بالليل ، ومعي سُلّم ، فصعدت منه إلى السطح ، ونزلت من الدرجة إلى بعضها في الظلمة ، فلم أدر كيف أصل إلى الدار ، فناداني أبو الحسن من الدار :يا سعيد ، مكانك حتى يأتوك بشمعة ، فلم ألبث أن أتوني بشمعة ، فنزلت فوجدت عليه جبّه صوف وقلنسوة منها ، وسجادته على حصير بين يديه ، وهو مقبل على القبلة. فقال لي :دونك البيوت ، فدخلتها وفتشتها فلم اجد فيها شيئاً »(1) .
ومرة اُخرى وشي بالإمام عليهالسلام إلى متوكل ، فأرسل الأتراك على حين غرّة إلى دار الإمام ، وقد أمرهم هذه المرة بحمله عليهالسلام إليه حتى وإن لم يجدوا ما يثير الريبة والاستغراب ، ذلك لأنّه كان عازماً على الاستخفاف بالإمام عليهالسلام بطرق اُخرى أمام ندمائه حينما لم يجد متسعاً لتنفيذ رغباته عن طريق سعاية الوشاة ، وما كان يتوقع أن الإمام عليهالسلام سوف يصفعه بعظات نزلت كالصاعقة على أسماعه وأسماع ندمائه ، لأنها تصور ما سيؤول إليه أمره وأمر أمثاله من الطغاة عبيد الأهواء والشهوات.
روى المسعودي بالاسناد عن محمد بن يزيد المبرد ، قال : « قد كان سعي بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكل ، وقيل له : إن في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها من شيعته ، فوجّه إليه ليلاً من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله على غفلة ممن في داره ، فوجده في بيت وحده مغلق عليه ، وعليه مدرعة من شعر ، ولا بساط في البيت إلا الرمل والحصى ، وعلى رأسه ملحفة من الصوف
__________________
(1) أصول الكافي 1 : 499 / 4 باب مولد أبي الحسن علي بن محمد عليهالسلام من كتاب الحجة ، الإرشاد 2 : 303 ، الخرائج والجرائح 1 : 676 / 8.
متوجهاً إلى ربه ، يترنّم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد ، فأخذ على ما هو عليه ، وحمل إلى المتوكل في جوف الليل ، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كأس ، فلمّا رآه أعظمه وأجلسه إلى جنبه ، ولم يكن في منزله شيء ممّا قيل فيه ولا حالة يتعلل عليه بها ، فناوله المتوكل الكأس الذي في يده ، فقال :يا أمير المؤمنين ، ما خامر لحمي ودمي قطّ فاعفني منه ، فعفاه وقال : انشدني شعراً أستحسنه ، فقال :إني قليل الرواية للأشعار . فقال : لابد أن تنشدني. فأنشده :
باتوا على قُلل الأجـبال تحرسهم |
||
غلب الرجـال فمـا أغتنهم القللُ |
||
واستنزلوا بعد عـزّ مـن معاقلهم |
||
وأسكنوا حفراً يا بئس مـا نزلوا |
||
ناداهم صارخ من بعد مـا قبروا |
||
أين الأسرةُ والتيجانُ والحـللُ |
||
أين الوجوه التي كانـت منـعّمة |
||
من دونها تضرب الأستار والكللُ |
||
فأفصح القبر عنهم حـين ساءلهم |
||
تلك الوجوه عليها الـدود يـقتتلُ |
||
قد طالما أكلوا دهراً ومـا شربوا |
||
فأصبحوا بعد طول الإكل قد أكلوا |
||
وطالمـا عمّروا دوراً لتـحصنهم |
||
ففارقوا الـدور والأهلين وانتقلوا |
||
وطالما كنزوا الأموال وادّخروا |
||
فخلّفوها على الأعداء وارتحـلوا |
||
أضحـت منازلـهم قفراً معطّلـة |
||
وساكنوها إلى الأجداث قد نزلـوا |
||
قال : فأشفق كلّ من حضر على عليّ ، وظن أن بادرة تبدر منه إليه ، قال : والله لقد بكى المتوكل بكاءً طويلاً حتى بلّت دموعه لحيته ، وبكي من حضره ، ثمّ أمر برفع الشراب ، ثم قال له : يا أبا الحسن ، أعليك دين ؟ قال :نعم ، أربعة آلاف دينار ، فأمر بدفعها إليه وردهّ إلى منزله من ساعته مكرماً »(1) .
والاجراء التعسفي الآخر الذي أقدم عليه المتوكل ، فسوّد به وجه التاريخ الانساني ، هو أنه أمر في سنة 236 ه بهدم قبر الإمام السبط الشهيد الحسين عليهالسلام ، وقد بعث رجلاً من أصحابه يقال له الديزج ، وكان يهودياً فأسلم ، إلى قبر الحسين عليهالسلام ، وأمره بكرب القبر ومحوه وإخراب كلّ ما حوله ، فمضى لذلك وخرّب ما حوله ، وهدم البناء ، وكرب ما حوله نحو مائتي جريب ،
__________________
(1) مروج الذهب 4 : 367 ـ 368 ، وراجع أيضاً : تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي 322 ـ مؤسسة أهل البيت ـ بيروت ـ 1401 ه ، البداية والنهاية 11 : 15 ، وفيات الأعيان / لابن خلكان 3 : 272 ـ منشورات الرضي ـ قم ، الأئمة الاثنا عشر عليهمالسلام لابن طولون : 107 ـ منشورات الرضي ـ قم.
ثم أمر أن يبذر ويزرع ، ووكلّ به مسالح بين كلّ مسلحتين ميل ، فلا يزوره زائر إلا أخذوه ووجّهوا به إليه ، فقُتِل عدد كبير من زواره أو اُنهكوا عقوبة ، ونودي بالناس في تلك الناحية : من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة أيام حبسناه في المطبق(1) .
وجاء في بعض الأخبار : « أنه لما صار الماء فوق مكان القبر وقف وافترق فرقتين ، يميناً وشمالاً ، ودار حتى التقى تحت المكان ، وبقي الوسط خالياً من الماء ، والماء مستدير حوله ، فسمّي من ذلك اليوم بالحائر »(2) .
وتألم المسلمون من ذلك وكتب أهل بغداد شتم المتوكل على الحيطان والمساجد ، وهجاه الشعراء ، ومنهم دعبل بن علي الخزاعي ( ت 246 ) والبسّامي(3) الذي يقول :
تالله إن كان اُمية قد أتت |
قتل ابن بنت نبيها مظلوما |
|
فلقد أتى بنو أبيه بمثله |
هذا لعمري قبرة مهدوما |
__________________
(1) راجع : مقاتل الطالبيين : 395 ، الكامل في التاريخ 6 : 108 ، تاريخ ابن الوردي 1 : 216 ـ المطبعة الحيدرية ـ النجف ، البداية والنهاية 10 : 315 ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : 268.
(2) بحار الأنوار 45 : 403 ، التتمة في التواريخ الأئمة عليهمالسلام / للسيد تاج الدين العاملي : 137.
(3) هو أبو الحسن ، علي بن محمد بن نصر بن منصور ابن بسّام ، المعروف بالبساّمي ، أو ابن بسّام ، الشاعر المشهور في زمن المقتدر العباسي ، وقد هجا الخلفاء والوزراء ، توفي سنة 302 ه. سير أعلام النبلاء 14 : 112 / 56.
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا |
في قتله فتتبعوه رميمـا(1) |
ولم يكتف المتوكل بالاعتداء على المكان المقدس الذي شهد ملحمة البطولة بين معسكر الحق بقيادة سيد الشهداء عليهالسلام ومعسكر الباطل بقيادة يزيد ابن معاوية ، بل اعتدى على الزمان الذي بقي رمزاً يختزن الشجاعة والتحدّي للظلم والطغيان على مرّ الدهور ، فجعل المتوكل العاشر من المحرم الحرام سنة 256 ه يوماً لافتتاح مدينته التي بناها بالماحوزة ، ونزوله في قصر الخلافة فيها الذي سماه اللؤلؤة ، وكان يوماً مشهوداً يعجّ بأصحاب الملاهي والمطربين ، فاعطى فيه وأطلق ، وقيل : إنّه وهب فيه أكثر من ألفي ألف درهم(2) .
ذكرنا في الفصل الأول أن المتوكل فرض حصاراً ظالماً على آل أبي طالب حتى أن الوالي الذي استعمله على مكة والمدينة ـ وهو عمر بن الفرج الرخّجي ـ قد منعهم من الإتّصال والارتباط بالناس ومنع الناس من البرّ بهم ، وبلغ في هذا الاتجاه مبلغاً لم يبلغه أحد ممن سبقه(3) .
قال أبو الفرج الأصفهاني : كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب ، غليظاً على جماعتهم ، مهتمّاً بأمورهم ، شديد الغيظ والحقد عليهم وسوء الظن والتهمة لهم ، واتّفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره كان يسيء الرأي فيهم ، فحسّن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحدٌ من خلفاء بني
__________________
(1) سير أعلام النبلاء 12 : 35 ، تاريخ الخلفاء / للسيوطي : 269.
(2) راجع : البداية والنهاية 10 : 347 ، الكامل في التاريخ 6 : 130.
(3) راجع : مقاتل الطابيين : 369.
العباس القبله(1) .
وتعرض آل أبي طالب بشكل عام والعلويون بشكل خاص لصنوف الأذى والقسوة في زمان المتوكل ، فتفرق رجالهم في النواحي ، واختفى بعض كبارهم ، وتعرض بعضهم للمطاردة والابعاد أو الاعتقال ، أو التصفية الجسدية بدسّ السمّ وهم سجناء ، وأُجْبِرَ آخرون على ارتداء السواد الذي يمثّل شعار الدولة العباسية.
وممن قُتِل في زمان المتوكل القاسم بن عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي ، وكان رجلاً فاضلاً ، وقد حمله عمر بن الفرج الرخّجي إلى سرّ من رأى ، فأمروه بلبس السواد فامتنع ، فلم يزالوا به حتى لبس شيئاً يشبه السواد فرضي منه بذلك.
وروى أبو الفرج الأصفهاني عن أحمد بن سعيد ، عن يحيى بن الحسن عن ذوب مولاة زينب بنت عبد الله بن الحسين قالت : « اعتلّ مولاي القاسم بن عبد الله ، فوجّه إليه بطبيب يسأله عن خبره ، وجهه إليه السلطان ، فجسّ يده ، فحين وضع الطبيب يده عليها يبست من غير علّة ، وجعل وجعها يزيد عليه حتّى قتله ، قالت : سمعت أهله يقولون : أنه دسّ إليه السمّ مع الطبيب »(2) .
وتوارى أحمد بن عيسىٰ بن زيد بن علي بن الحسين عليهالسلام مدةً طويلة حتى توفي سنة 247 ه ، وكان فاضلاً عالماً مقدماً في أهله ، معروفاً فضله ، وقد كَتَب الحديث وعمّر ، وكُتِب عنه ، وروى عنه الحسين بن علوان روايات كثيرة ،
__________________
(1) مقاتل الطالبيين : 406.
(2) مقاتل الطالبيين : 407.
وروى عنه محمد بن المنصور الراوي ونظراؤه.
وتوارى أيضاً عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي عليهالسلام منذُ أيام المأمون ومات في أيام المتوكل(1) .
وروى أبو الفرج الاصفهاني بالأسناد عن محمد بن سليمان الزينبي قال : « نُعي عبد الله بن موسى إلى المتوكل صبح أربع عشرة ليلة من يوم مات ، ونُعي له أحمد ابن عيسىٰ فاغتبط بوفاتهما وسُرّ ، وكان يخافهما خوفاً شديداً ، ويحذر حركتهما لما يعلم من فضلهما واستنصار الشيعة الزيدية بهما وطاعتهما لهما لو أرادوا الخروج عليه ، فلما ماتا أمن واطمأنّ ، فما لبث بعدهما إلا اُسبوعاً حتّى قُتِل »(2) .
أمنعت أجهزة المتوكل بمراقبة شيعة الإمام ومواليه ، فسامهم قتلاً واعتقالاً وافقاراً ، فأمروا ببعضهم أن يُلقى من جبل عالٍ بتهمة موالاة الإمام عليهالسلام (3) ، وقطع المتوكل ارزاق بعضهم لملازمة الإمام أبي الحسن الهادي عليهالسلام (4) ، وحبس علي بن جعفر ـ وَكيل الإمام الهادي عليهالسلام وهو من أهل همينيا ـ لمدة طويلة وتحت ظروف قاسية(5) .
وفي كلّ ذلك يتوجه الأصحاب إلى إمامهم عليهالسلام فيعينهم بالدعاء. عن
__________________
(1) مقاتل الطالبيين : 408.
(2) مقاتل الطالبيين : 417.
(3) الثاقب في المناقب : 543 ، المناقب لابن شهر آشوب 4 : 448.
(4) المناقب لابن شهر آشوب 4 : 442 ، بحار الأنوار 50 : 127 / 5.
(5) رجال الكشي : 2 : 866 / 1129 ، بحار الأنوار 50 : 183 / 58.
عبدالله بن سليمان الخلال ، قال : « كتبت إليه عليهالسلام أسأله الدعاء أن يفرّج الله عنّا في أسباب من قبل السلطان إلى أن قال : فرجع الجواب بالدعاء »(1) .
روى المؤرخون أنه في سنة 244 ه قتل المتوكل يعقوب بن السكيت الإمام في العربية ، فإنّه ندبه إلى تعليم أولاده ، فنظر المتوكل يوماً إلى ولديه المعتز والمؤيد ، فقال لابن السكيت : من أحبّ إليك : هما أو الحسن والحسين ؟ فقال : قنبر خادم علي خير منك ومن ابنيك ، فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات رحمهالله وقيل : أمر بسلّ لسانه من قفاه فمات ، وارسل إلى ابنه بديته(2) .
بقي المتوكل يتوجّس خيفة من نشاط الإمام عليهالسلام الذي لم تتضح له كامل أبعاده ، ففرض عليه ملازمة داره ومنعه من الركوب إلى أي مكان(3) ، ومن ثمّ أمر باعتقاله ، فبقي رهن الاعتقال عند علي بن كركر(4) ، وقبل مقتل المتوكل بأيام أمره أن يترجّل ويمشي بين يديه يوم الفطر ، وكان يوماً قائظاً شديد الحرّ ، فمشى عليهالسلام مع بني هاشم حتى تفصّد عرقاً ، وكان عليهالسلام لا يستطيع السير إلا متكأً لمرض ألمّ به ، فما كان من الإمام عليهالسلام إلا أن يتوجه إلى الله سبحانه بدعاءٍ طويل
__________________
(1) الكامل في المناقب : 548 / 490.
(2) الكامل في التاريخ 6 : 133 ، تاريخ الخلفاء : 269 ، تاريخ ابن الوردي 1 : 313.
(3) راجع : الخرائج والجرائح 1 : 396 / 3 ، بحار الأنوار 50 : 144 / 28.
(4) راجع : المناقب لابن شهر آشوب 4 : 439 ، الثاقب في المناقب : 536 ، إعلام الورى 2 : 123.
يكشف عمّا يعانيه عليهالسلام وشيعته من ظلم المتوكل وعدوانه وطغيانه ، وعن إحساسه عليهالسلام العميق بمعاناة الأمة من الحيرة والضياع والحدود المعطلة والأحكام المهملة وغيرها من مظاهر التردّي.
روى المسعودي « أنه لما كان يوم الفطر في السنة التي قُتل فيها المتوكل ، أمر بني هاشم بالترجّل والمشي بين يديه ، وإنّما أراد بذلك أن يترجّل له أبو الحسن عليهالسلام ، فترجّل بنو هاشم وترجّل فاتكأ على رجلٍ من مواليه ، فاقبل عليه الهاشميون ، فقالوا له : يا سيدنا ، ما في هذا العالم أحد يستجاب دعاؤه فيكفينا الله ! فقال لهم أبو الحسن عليهالسلام :في هذا العالم من قلامة ظفره أكرم على الله من ناقة ثمود ، لما عقرت وضج الفصيل إلى الله ، فقال الله : ( تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (1) ، فقتل المتوكل في اليوم الثالث. وروى أنه عليهالسلام قال وقد أجهده المشي :أما إنه قد قطع رحمي ، قطع الله أجله »(2) ، وهذا يوافق ما جاء في التاريخ ، فقد قتل المتوكل في الرابع من شوال سنة 247 ه.
وجاء الخبر الذي رواه المسعودي مفصلاً في رواية قطب الدين الراوندي ، والسيد ابن طاوس الذي رواه في أكثر من طريق ، وتضمّن الدعاء الطويل الذي سمّاه الإمام عليهالسلام ( دعاء المظلوم على الظالم ) قال عليهالسلام :« لمّا بلغ مني الجهد رجعت إلى كنوزٍ نتوارثها من آبائنا ، وهي أعزّ من الحصون والسلاح والجنن ، وهو دعاء المظلوم على الظالم ، فدعوت به عليه فأهلكه الله » .
__________________
(1) سورة هود : 11 / 65.
(2) إثبات الوصية : 240.
وفيما يلي مقطع منه يعكس لك شدة معاناة الإمام عليهالسلام : « اللّهم إنّه قد كان في سابق علمك وقضائك ، وماضي حكمك ونافذ مشيئتك في خلقك أجمعين ، سعيدهم وشقيهم ، وفاجرهم وبرّهم ، أن جعلت لفلان بن فلان عليَّ قدرة فظلمني بها ، وبغى عليَّ لمكانها ، وتعزّز عليّ بسلطانه ، وتجبّر عليّ بعلوّ حاله ، وغرّه إملاؤك له ، وأطغاه حلمك عنه ، فقصدني بمكروهٍ عجزتُ عن الصبر عليه ، وتعمدني بشرّ ضعفت على احتماله ، ولم أقدر على الانتصار لضعفي ، والانتصاف منه لذلّي ، فوكلته إليك ، وتوكّلت في أمره عليك ، وتواعدته بعقوبتك ، وحذرته سطوتك ، وخوفته نقمتك ، فظنّ أن حلمك عنه من ضعف ، وحسب أن إملاءك له من عجز ، ولم تنهه واحدة عن اُخرى ، ولا انزجر عن ثانية باُولى ، ولكنه تمادى في غيّة ، وتتابع في ظلمه ، ولجّ في عدوانه ، واستشرى في طغيانه ، جرأةً عليك يا سيدي ، وتعرضاً لسخطك الذي لا تردّه عن القوم الظالمين ، وقلّة اكتراث ببأسك الذي لا تحبسه عن الباغين.
فها أنا يا سيدي مستضعف في يديه ، مستضام تحت سلطانه ، مستذلّ بعقابه ، مغلوب مبغيّ عليّ ، مقصود وجلٌ خائف مروّع مقهور ، قد قلّ صبري ، وضاقت حيلتي ، وانغلقت عليّ المذاهب إلا إليك ، وانسدّت عليّ الجهات الا جهتك ، والتبست علي اُموري في رفع مكروهه عني ، واشتبهت عليّ الآراء في إزالة ظلمه ، وخذلني من استنصرته من عبادك ، وأسلمني من تعلّقت به من خلقك طرّاً ، واستشرت نصيحي فأشار عليّ بالرغبة إليك ،
واسترشدت دليلي فلم يدلّني الا عليك » (1) .
لم يلبث المتوكل بعد هذا الدعاء سوى ثلاثة أيام حتى أهلكه الله تعالى وجعله عبرةً لكلّ من طغى وتجبّر ، على يد ابنه المنتصر وخمسة من القادة الترك.
فقد كان المتوكل بايع بولاية العهد لابنه المنتصر ثم المعتز ثم المؤيد ، ثمّ انه أراد تقديم المعتز لمحبته لاُمه قبيحة ، فسأل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى فكان يحضره مجلس العامة ويحطّ من منزلته ويهدده ويشتمه ويتوعده ، واتفق أن انحرف الترك عن المتوكل لاُمور ، فاتفق الأتراك مع المنتصر على قتل أبيه ، فدخل عليه خمسة في جوف الليل وهو سكران ثمل في مجلس لهوه ، فقتلوه هو ووزيره الفتح بن خاقان ، وذلك لاربع خلون من شوال سنة 247 ه.
وذكر المحدثون والمؤرخون أسباباً أخرى دفعت المنتصر إلى قتل أبيه تدلّ على انتصاره لأهل البيت عليهمالسلام ، ومنها ما رواه الشيخ الطوسي عن ابن خشيش عن أبي الفضل ، قال : « إن المنتصر سمع أباه يشتم فاطمة عليهاالسلام فسأل رجلاً من الناس عن ذلك ، فقال له : قد وجب عليه القتل ، إلا أنه من قتل أباه لم يطل له عمر. فقال : ما إذا أطعت الله بقتله أن لا يطول لي عمر ، فقتله وعاش بعده سبعة أشهر »(2) .
__________________
(1) مهج الدعوات : 330 ـ 337 ، بحار الأنوار 95 : 234 ـ 240 / 30.
(2) الأمالي : 328 / 655.
وعن ابن الأثير : « أن عبادة المخنّث الذي كان يرقص بين يدي المتوكل والمغنون يغنون : قد أقبل الأصلع البطين يحكي بذلك علياً عليهالسلام ، قد فعل ذلك يوماً والمنتصر حاضر ، فأومأ إلى عبادة يتهدده فسكت خوفاً منه. فقال المتوكل : ما حالك ؟ فقام وأخبره. فقال المنتصر : يا أمير المؤمنين ، إن الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس هو ابن عمك وشيخ أهل بيتك وبه فخرك ، فكُل أنت لحمه إذا شئت ، ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله منه ـ وتلك كلمة حق أمام سلطان جائر لكن المتوكل تمادي في طغيانه ـ فقال للمغنين : غنوا جميعاً :
غار الفتى لابن عمه |
رأس الفتى في حِرّ أمّه |
قال ابن الأثير : فكان هذا من الأسباب التي استحلّ بها المنتصر قتل المتوكل »(1) .
وجاء في رواية ابن الأثير : « أن المتوكل شرب في الليلة التي قتل فيها أربعة عشر رطلاً ، وهومستمر في لهوه وسروره إلى الليل بين الندماء والمغنين والجواري »(2) .
وانتهت بمقتل المتوكل صفحة سوادء من تاريخ الظلم والجور ، وكان قتله خزياً في الدنيا ( وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِنَ اللهِ مِن وَاقٍ ) (3) .
__________________
(1) الكامل في التاريخ 6 : 109.
(2) الكامل في التاريخ 6 : 136 ـ 141 ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : 271 ، البداية والنهاية 10 : 349.
(3) سورة الرعد 13 / 34.
هو محمد بن المتوكل بن المعتصم ، بويع له بعد قتل أبيه في شوال سنة 247 ه ، واعدّ كتاباً قرأه أحمد بن الخطيب أن الفتح بن خاقان قد قتل المتوكل فقتله به ، فبايعه الناس ، واستمرت خلافته ستة أشهر ويومين ، ولم تشر هذه الفترة القليلة إلى أي بادرة سوء من المنتصر تجاه الإمام عليهالسلام وشيعته.
على أنه كان المنتصر أولاً لا يخرج عن إطار السياسة العامة التي انتهجها أبوه المتوكل في مواجهة أهل البيت عليهمالسلام وشيعتهم ، فقد مرّ بك أنه خلع على أبي السمط الشاعر الناصبي لشعر قاله يناوئ فيه أهل البيت عليهمالسلام ، وربما يكون هذا تقية من أبيه ، وإلا فقد ثبتت توبته ، إذا خالف أباه المتوكل في كلّ شيء فقد خلع أخويه المعتز والمؤيد من ولاية العهد الذي عقده لهما المتوكل بعده(1) ، كما أحسن إلى الطالبيين بشكل عام والعلويين بشكل خاص.
قال ابو الفرج : « كان المنتصر يظهر الميل إلى أهل هذا البيت ، ويخالف أباه في أفعاله ، فلم يجرِ منه على أحد منهم قتل أو حبس ولا مكروه فيما بلغنا ، والله أعلم »(2) .
وقال في موضع آخر ذكر فيه حصار المتوكل للطالبيين ، ثم قال : « إلى أن قُتل المتوكل ، فعطف المنتصر على العلويين ووجه بمال فرّقه فيهم ، وكان يؤثر
__________________
(1) راجع : الكامل في التاريخ 6 : 146حوادث سنة 248 ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : 277.
(2) مقاتل الطابيين 419.
مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادة مذهبه طعناً عليه ، ونصرة لفعله »(1) .
وذكر المؤرخون كثيراً من إجراءاته المخالفة لأبيه في الموقف من الطالبيين والعلويين : قال ابن الأثير : « أمر الناس بزيارة قبر علي والحسين عليهماالسلام ، وآمن العلويين وكانوا خائفين أيام أبيه ، وأطلق وقوفهم ، وأمر بردّ فداك إلى ولد الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب عليهالسلام .
وذكر أن المنتصر لمّا ولي الخلافة كان أول ما أحدث أن عزل صالح بن علي عن المدينة ، واستعمل عليها علي بن الحسن(2) بن إسماعيل بن العباس بن محمد ، قال علي : فلما دخلت أودّعه قال لي : يا علي ، إنّي اُوجّهك إلى لحمي ودمي ، ومدّ ساعده وقال : إلى هذا اُوجّهك ، فانظر كيف تكون للقوم ، وكيف تعاملهم ـ يعني آل أبي طالب ـ فقال : أرجو أن أمتثل أمر أمير المؤمنين إن شاء الله ، فقال : إذن تسعد عندي »(3) .
ومات المنتصر في ربيع الآخر سنة 248 لعلّة لم تمهله طويلاً ، وقيل : بل فصده الطبيب بمبضع مسموم فمات منه(4) .
__________________
(1) مقاتل الطالبيين : 396.
(2) في تاريخ الطبري 9 : 254 ( الحسين ).
(3) الكامل في التاريخ 6 : 149 حوادث سنة 248 ، وراجع أيضاً : تاريخ ابن الوردي 1 : 315 ، سير أعلام النبلاء 12 : 42 ـ 44 ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : 276.
(4) الكامل في التاريخ 6 : 148.
وهو أحمد بن المعتصم ، أخو الواثق والمتوكل ، بويع سنة 248 ه ، وقتل سنة 252 ه ، وكان مستضعفاً في رأيه وعقله وتدبيره ، وكانت أيامه كثيرة الفتن ، ودولته شديده الاضطراب حتى خلع ثمّ قتل(1) .
ونتيجة تردي الأحوال الاقتصادية والاجتماعية وضعف سلطة الخلافة في زمان المستعين ، ثار الكثير من العلويين مطالبين برفع الظلم عن كاهل أبناء الاُمة وداعين إلى الرضا من آل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، منهم الشهيد يحيى بن عمر ، والحسن ابن زيد العلوي ، والحسين بن محمد بن حمزة ، ومحمد بن جعفر بن الحسن ، ولم تحدثنا كتب التاريخ والرواية عن أي شيء من الوقائع بين المستعين والإمام الهادي عليهالسلام لتدنّي سلطة الخلافة في عصره واستلام مقاليد الأمور بيد القادة الأتراك ، غير أنه لا يخرج عن نهج الخلفاء العباسيين في حصار الإمام عليهالسلام والاساءة إلى شيعته بشكل عام والطالبيين بوجه خاص ، فقد ذكر المسعودي أن محمد بن أحمد بن عيسىٰ بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهالسلام ، حمله سعيد الحاجب من البصرة ، فحبس حتى مات ، وكان معه ابنه علي ، فلمات مات الأب خلي عنه ، وذلك في أيام المستعين ، وجعفر بن إسماعيل بن موسى بن جعفر عليهالسلام ، قتله ابن الأغلب بأرض المغرب ، والحسن بن يوسف بن إبراهيم بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، قتله العباس بمكة(2) .
__________________
(1) الفخري في الآداب السلطانية : 241.
(2) مروج الذهب 4 : 429.
في سنة 251 ه شغب الأتراك على المستعين بعد قتل باغر التركي ، فهرب المستعين إلى بغداد مع وصيف وبغا الصغير ، ونزل دار محمد بن عبد الله بن طاهر ، فعاث الأتراك بغياً وفساداً في سامراء وأخرجوا المعتز من سجن الجوسق وبايعوه بالخلافة ، وصارت بغداد مسرحاً للاقتتال والخراب بين جيش المعتز ومؤيدي المستعين ، حتى انتهى القتال بخلع المستعين لنفسه من الخلافة سنة 252 ه ، وكان نتيجة ذلك القتال أن خربت الدور والحوانيت والبساتين ، ونهبت الأسواق والأموال وتردت الأحوال الاقتصادية والاجتماعية بشكل لم يسبق له مثيل على ما بيناه في الفصل الأول.
ثمّ إن المعتز سيّر المستعين إلى واسط ، فاقام بها نحو تسعة أشهر محبوساً موكلاً به أمين ، ثمّ أرسل المعتز إلى أحمد بن طولون أن يذهب إلى المستعين فيقتله فأبى ، فندب له سعيد بن صالح الحاجب فحمله إلى سامراء فذبحه وحمل إليه برأسه ، فأمر لسعيد بخمسين ألف درهم وولاه معونة البصرة(1) .
وهو الزبير أو محمد بن المتوكل بن المعتصم ، بويع له عند خلع المستعين سنة 252 ه ، وله عشرون سنة أو دونها(2) .
__________________
(1) راجع : مروج الذهب 4 : 417 ، الكامل في التاريخ 6 : 185 ، البداية والنهاية 11 : 11 ، تاريخ ابن الوردي 1 : 316.
(2) سير أعلام النبلاء 12 : 532.
وتعرض الطالبيون في زمان المعتز إلى القتل والمطاردة والحبس والترحيل ، فقد حُمِل في أيامه من الري علي بن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد ، ومات في حبسه(1) .
وفي السنة التي بويع له فيها حمل جماعة من الطالبيين إلى سامراء ، منهم : أبو أحمد محمد بن جعفر بن الحسن بن جعفر بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وأبو هاشم داود بن القاسم الجعفري(2) .
وفي أيامه أيضاً قتل عبد الرحمن خليفة أبي الساج أحمد بن عبد الله بن موسى بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي عليهالسلام .
وتوفي في الحبس عيسىٰ بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، كان أبو الساج حمله فحبس بالكوفة فمات هناك.
وقتل بالري جعفر بن محمد بن جعفر بن الحسين بن علي بن عمر بن علي بن الحسين ، في وقعة كانت بين أحمد بن عيسىٰ بن علي بن الحسين بن علي بن الحسين عليهالسلام وبين عبد الله بن عزيز عامل محمد بن طاهر بالري.
وقُتِل إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن العباس بن علي ، قتله طاهر بن عبد الله في وقعة كانت بينه وبين الكوكبي بقزوين. وحبس أحمد ابن محمد بن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي في دار مروان ، حبسه
__________________
(1) مروج الذهب 4 : 429.
(2) الكامل في التاريخ 6 : 187.
الحارث بن أسد عامل أبي الساج في المدينة فمات في محبسه(1) .
في يوم الاثنين الثالث من رجب سنة 254 ه(2) توفي الإمام الهادي عليهالسلام ، واكتظّ الناس في موكب التشييع ، وصلى عليه ابنه الإمام أبو محمد الحسن العسكري عليهالسلام (3) ، وروي أنه عليهالسلام خرج في جنازته مشقوق القميص ، فقيل له في ذلك ، فقال :« قد شقّ موسى على هارون » (4) .
وعن اليعقوبي : أنه تمت الصلاة على جنازته الشريفة في الشارع المعروف بشارع أبي أحمد ، فلما كثر الناس واجتمعوا ، كثر بكاؤهم وضجتهم ، فرُدّ النعش إلى داره فدفن فيها(5) .
ونقل كثير من المؤرخين والمحدثين أنّ الإمام الهادي عليهالسلام توفي مسموماً ،
__________________
(1) مقاتل الطالبيين : 433.
(2) وقيل : لثلاث أو أربع أوخميس بقين من جمادي الآخرة سنة 254 ، راجع : الكافي 1 : 497. باب مولد أبي الحسن علي بن محمد عليهالسلام من كتاب الحجة ، دلائل الإمامة : 409 ، تاج المواليد / الطبرسي : 132 ـ ضمن مجموعة نفيسة ـ مكتبة السيد المرعشي ـ قم ، المناقب لابن شهر آشوب 4 : 433 ، الكشف الغمة 3 : 165 و 174 ، البداية والنهاية 11 : 14 ـ 15 ، الفصول المهمة 2 : 1074 ، إعلام الورى 2 : 109 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 503.
(3) الكافي 1 : 326 / 3 ـ باب الاشارة والنص على أبي محمد عليهالسلام من كتاب الحجة ، الإرشاد 2 : 315 ، إعلام الورى 2 : 133.
(4) رجال الكشي ، بشرح الداماد : 842 ـ 843 ، المناقب / ابن شهر آشوب 4 : 467 ، وسائل الشيعة 3 : 274 / 3634 ـ 3636.
(5) تاريخ اليعقوبي 2 : 503.
منهم : المسعودي ، وسبط ابن الجوزي ، والشبلنجي ، وابن الصباغ المالكي ، والشيخ أبو جعفر الطبري(1) ، وصرح الشيخ الكفعمي بأن الذي سمّه هو المعتز(2) ، ونقل عن ابن بابوية أنّ الذي سمه هو المعتمد العباسي(3) ، فإمّا أن يكون مصحفاً ، أو أن المعتمد هو الذي دسّ السمّ بايعازٍ من المعتز ، لأن المعتمد بويع بالملك في النصف من رجب سنة 256 ه بعد قتل المهتدي.
وليس بعيداً عن مثل المعتز اقتراف مثل هذه الجريمة النكراء ، لأنه كان شاباً متهوّراً لم يتحرج عن القتل ، ففي سنة 252 ه خلع أخاه المؤيد من ولاية العهد وعذّبه بضربه أربعين مقرعة ثم حبسه ودبّر قتله في السجن بعد ذلك بخمسة عشر يوماً ، كما حبس أخاه أبا أحمد بن المتوكل سنة 253 ه ونفاه إلى واسط ثم إلى البصرة ثم ردّه إلى بغداد(4) ، ومرّ بك أنه أمر سعيد الحاجب بقتل ابن عمه المستعين فقتله وأتاه برأسه. فهكذا كانت أفعاله مع إخوته وأبناء عمومته ، أما مع الطالبيين ، فكانت أشد وأقسى ، وقد قدّمنا نماذج منها.
كانت سيرة المعتز مع الإمام العسكري عليهالسلام كسيرة أسلافه من ملوك بني العباس مع أهل البيت عليهمالسلام ، ومما يلحظ على تلك السيرة أن المعتز قد وضع
__________________
(1) مروج الذهب 4 : 423 ، تذكرة الخواص : 324 ، نور الأبصار / الشبلنجي : 337 ـ دار الجيل ـ بيروت ، الفصول المهمة 2 / 1076 ، دلائل الإمامة : 409.
(2) بحار الأنوار 50 : 117 عن مصباح الكفعمي.
(3) المناقب لابن شهر آشوب 4 : 433 ، عن ابن باوية.
(4) الكامل في التاريخ 6 : 185 و 192 ، تاريخ الخلفاء / للسيوطي : 279 ، البداية والنهاية 11 : 11 و 12.
الإمام العسكري عليهالسلام تحت الرقابة الشديدة ، ولم يعد بإمكانه الاتصال بأصحابه إلا في ظروف خاصة ، وتعرض الإمام عليهالسلام للاعتقال في زمانه وضيق عليه في السجن ، وكان عليهالسلام لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة ، فيصوم النهار ويقوم الليل.
وأُودِع عليهالسلام في سجن صالح بن وصيف(1) ، وكان العباسيون يوصونه بالتضييق عليه ، ويدسّون العيون في داخل السجن مع أصحابه.
عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى ، قال : « دخل العباسيون على صالح بن وصيف عندما حُبِس أبو محمد عليهالسلام ، فقالوا له : ضيق عليه ولا توسّع ، فقال لهم صالح : ما أصنع به وقد وكلت به رجلين شرّ من قدرت عليه ، فقد صاروا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم ، ثم أمر باحضار الموكلين فقال لهما : ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل ؟ فقالا له : ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله ، ولا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة ، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا ، فلما سمع ذلك العباسيون انصرفوا خاسئين »(2) .
وعن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري ، قال : « كنت في الحبس المعروف بحبس صالح بن وصيف الأحمر أنا والحسن بن محمد العقيقي ، ومحمد بن إبراهيم.
__________________
(1) كان رئيس الامراء الترك في زمان المعتز والمهتدي ، وقتل في خلافة المعتدي سنة 256 ه ، راجع الكامل في التاريخ 6 : 214.
(2) الكافي 1 : 512 / 23 ـ باب مولد أبي محمد الحسن العسكري عليهالسلام من كتاب الحجة ، الإرشاد 2 : 334.
العمري وفلان وفلان ، إذ ورد علينا أبو محمد الحسن عليهالسلام وأخوه جعفر ، فخففنا له ، وكان المتولي لحبسه صالح بن وصيف ، وكان معنا في الحبس رجل جمحي يقول إنّه علوي ، قال : فالتفت أبو محمد عليهالسلام وقال :لولا أن فيكم من ليس منكم لأعلمتكم متى يفرّج عنكم ، وأومأ إلى الجمحي أن يخرج فخرج.
فقال أبو محمد عليهالسلام :هذا الرجل ليس منكم فاحذروه ، فإنّ في ثيابه قصّة قد كتبها إلى السلطان يخبره بما تقولون فيه ، فقام بعضهم ففتش ثيابه ، فوجد فيها القصة ، يذكرنا فيها بكلّ عظيمة ، ويعلمه أنا نريد أن ننقب الحبس ونهرب »(1) .
وحاول المعتز الفتك بالإمام عليهالسلام على يد سعيد بن صالح الحاجب الذي قتل المستعين بعد أن حمله إلى سامراء فتناهت أنباء تلك المحاولة إلى أسماع الشيعة ، فكتب بعضهم إلى الإمام عليهالسلام يتساءل عن ذلك ، فطمأنه بالمصير الذي ينتظر المعتز قبل أن ينفذ عزمه.
عن محمد بن بلبل قال : « تقدم المعتز إلى سعيد الحاجب أن أخرج أبا محمد إلى الكوفة ، ثمّ اضرب عنقه في الطريق ، فجاء توقيعه عليهالسلام إلينا :الذي سمعتموه تكفونه ، فخلع المعتز بعد ثلاث وقُتِل »(2) .
وعن المعلى بن محمد ، قال : أخبرني محمد بن عبد الله ، قال : « لما اُمر سعيد الحاجب بحمل أبي محمد عليهالسلام إلى الكوفة ، كتب أبو الهيثم بن سيابة إليه : جعلت
__________________
(1) الثاقب في المناقب : 577 / 526 ، الخرائج والجرائح 2 : 682 / 1 و 2 ، نور الأبصار : 183 ، المناقب لابن شهر آشوب 4 : 470 ، إعلام الورى 2 : 141.
(2) المناقب لابن شهرآشوب 4 : 464.
فداك ، بلغنا خبر أقلقنا وبلغ منا كلّ مبلغ ؟ فكتب عليهالسلام :بعد ثلاث يأتيكم الفرج . فقتل الزبير ـ أي المعتز ـ يوم الثالث »(1) .
وكان الإمام عليهالسلام قد توجه إلى الله تعالى بالدعاء عليه ، فقد روي عن محمد ابن علي الصيمري أنه قال : « دخلت على أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله وبين يديه رقعة أبي محمد عليهالسلام فيها :إنّي نازلت الله في هذا الطاغي ـ يعني الزبير ـوهو آخذه بعد ثلاث. فلما كان في اليوم الثالث فعل به ما فعل »(2) .
كان خلع المعتز في رجب سنة 255 ه ، وكان سبب خلعه أن الجند وعلى رأسهم القادة الترك اجتمعوا فطلبوا منه أرزاقهم ، فلم يكن عنده ما يعطيهم ، فسأل من اُمه أن تقرضه مالاً يدفعهم عنه به ، فلم تعطه واظهرت أنه لا شيء عندها ، فاجتمع الأتراك على خلعه وقتله ، فدخل إليه بعض الأمراء فتناولوه بالدبابيس يضربونه ، وجرّوا برجله وأخرجوه وعليه قميص مخرّق ملطخ بالدم ، فأوقفوه في وسط دار الخلافة في حرّ شديد حتى جعل يراوح بين رجليه من شدّة الحرّ ، وجعل بعضهم يلطمه وهو يبكي ويقول له الضارب : اخلعها والناس مجتمعون. ثمّ ادخلوه حجرة مضيقاً عليه فيها ، وما زالوا عليه بأنواع العذاب حتى خلع نفسه من الخلافة وولي بعده المهتدي بالله ، ثمّ سلموه إلى من يسومه سوء العذاب بأنواع المثلات ، ومنع من الطعام والشراب ثلاثة أيام حتى
__________________
(1) الغيبة للطوسي : 208 / 177 ، الخرائح والجرائح 1 : 451 / 36 ، مهج الدعوات : 274 ، دلائل الإمامة : 427 / 391 ، الثاقب في المناقب : 576 / 523.
(2) كشف الغمة 3 : 295 ، بحار الأنوار 50 : 297 / 72.
جعل يطلب شربة من ماء البئر فلم يسق ، ثم أدخلوه سرباً وجصصوا عليه ، فأصبح ميتاً ، وأشهدوا عليه جماعة من الأعيان أنه مات وليس به أثر(1) .
حينما قتل المعتز خرج توقيع من الإمام العسكري عليهالسلام يؤكد عزم المعتز على قتل الإمام عليهالسلام قبل أن يُولَد له ، وفي ذلك دلالة واضحة على اعتقاد بني العباس بأن المولود هو صاحب الزمان عليهالسلام الذي يقصم الجبّارين ويقيم دولة الحق.
عن أحمد بن محمد بن عبد الله ، قال : « خرج عن أبي محمد عليهالسلام حين قتل الزبيري :هذا جزاء من اجترأ على الله في أوليائه ، يزعم أنه يقتلني وليس لي عقب ، فكيف رأى قدرة الله فيه ؟ وولد له ولد سمّاه محمداً »(2) .
هو محمد بن الواثق بن المعتصم ، بويع بالخلافة في رجب سنة 255 ه ، وقد نقل المؤرخون في ترجمته أنه كان من أحسن خلفاء بني العباس مذهباً ، وأجودهم طريقة ، وأكثرهم ورعاً وعبادة وزهادة ، وأنه اطّرح الغناء والشراب ، ومنع أصحاب السلطان من الظلم ، وكان يجلس للمظالم ، ويتقلّل في مأكوله وملبوسه(3) .
__________________
(1) الكامل في التاريخ 6 : 200 ، الفخري في الآداب السلطانية : 243 ، البداية والنهاية 11 : 16 ، سير أعلام النبلاء 12 : 533.
(2) أصول الكافي 1 : 329 / 5 ـ باب الاشارة والنص إلى صاحب الدار عليهالسلام ، إكمال الدين : 430 / 3 ـ باب 42.
(3) راجع : تاريخ الخلفاء / السيوطي : 281 ، الكامل في التاريخ 6 : 223 ـ 224 ،
وهو بهذا التصرف استطاع الترفع على سيرة أسلافه العباسيين المعروفين بالترف والاسراف والمجون ومعاقرة الخمور وغيرها من مظاهر الانحراف ، لكن ثمة فرقاً بين السيرة الصالحة التي تكون واعزاً للحق والعدل والانصاف وتمنع صاحبها عن الظلم والجور ، والسيرة التي يفتعلها صاحبها أو يتصنّعها لأجل الخروج عن الاطار الشكلي الحاكم على الخلفاء المتقدمين ، وقد صرح بعض المؤرخين بأن المهتدي كان يتشبّه بعمر بن عبد العزيز(1) ، والتشبه غير التطبّع.
ونقل آخر عنه أنه قال لأحد جلسائه حين سأله عما هو فيه من التقشف في الأكل ، فقال : « انّي فكرت في أنه كان في بني اُمية عمر بن عبد العزيز ، وكان من التقلّل والتقشف على ما بلغك ، فغرت على بني هاشم ، فأخذت نفسي بما رأيت »(2) .
فالتزهّد هنا ناتج عن غيرة لا عن طبيعة وفطرة سليمة ، وبنوهاشم هنا خصوص بني العباس لا عمومهم ، لأن فيهم من قال فيه تعالي : ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (3) وفيهم آل البيت المعصومون عليهمالسلام ، ويبين ذلك الخصوص في تصريحة بقول آخر : « أما تستحي بنو العباس أن لا يكون فيهم مثل عمر بن عبد العزيز ؟! »(4) ، فكانوا يطلقون لفظ بني هاشم على العباسيين في مقابل بني
__________________
البداية والنهاية 11 : 23 ، سير أعلام النبلاء 12 : 535 ، الفخري في الآداب السلطانية : 246.
(1) الفخري في الآداب السلطانية : 246.
(2) تاريخ الخلفاء للسيوطي : 281.
(3) سورة القلم : 68 / 4.
(4) `الكامل في التاريخ 6 : 224.
اُمية.
ولو كان المهتدي محمود السيرة لخالف أسلافه في التعامل مع الإمام عليهالسلام وأصحابه وشيعته ، لكنه انتهج نفس أساليبهم ، وكما يلي :
تعرض نحو عشرين من العلويين للقتل صبراً أو الأسر أو السجن أو الترشيد خلال فترة حكومة المهتدي التي كانت أقلّ من سنة واحدة ، على ما نقله أبو الفرج وحده.
فقد قتل صبراً في أيام المهتدي محمد بن القاسم بن حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب عليهالسلام ، وطاهر بن أحمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهالسلام ، وقُتل أيضاً الحسين بن محمد بن حمزة بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهالسلام .
وَقَتل أصحاب عبد الله بن عبد العزيز ، يحيى بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد ، قُتل بقرية من قري الري في ولاية عبد الله بن عبد العزيز.
واُسِر محمد بن الحسن بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي ، أسره الحارث بن أسد وحمله إلى المدينة فتوفّي بالصفراء ، فقطع الحارث رجيلة وأخذ قيدين كانا فيهما ورمى بهما.
وقتل جعفر بن إسحاق بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ، قتله سعيد الحاجب بالبصرة.
وقتل بالسمّ موسى بن عبد الله بن موسى بن عبيد الله بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب ، وكان رجلاً صالحاً ، راوياً للحديث ، قد روي عنه عمر ابن شبّة ، ومحمد بن الحسن بن مسعود الزرقي ، ويحيى بن الحسن بن جعفر العلوي وغيرهم. وكان سعيد الحاجب حمله وحمل ابنه إدريس وابن أخيه محمد ابن يحيى بن عبد الله بن موسى ، وأبا الطاهر أحمد بن زيد بن الحسين بن عيسىٰ ابن زيد بن علي بن الحسين ، إلى العراق ، فعارضه بنو فزارة بالحاجز ، فأخذوهم من يده فمضوا بهم ، وأبى موسى أن يقبل ذلك منهم ، ورجع مع سعيد الحاجب ، فلما كان بزبالة دسّ إليه سمّاً فقتله(1) وأخذ رأسه وحمله إلى المهتدي في المحرم سنة 256 ه.
وأُسِرَ عيسىٰ بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله ابن جعفر ، أسره عبد الرحمن خليفة أبي الساج بالجار(2) ، وحمله فمات بالكوفة.
وقُتل محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن أبي الكرام بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، قتله عبد الله بن عزيز بين الري وقزوين.
ومات في الحبس علي بن موسى بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، حبسه عيسىٰ بن محمد المخزومي بمكة ، فمات في حبسه. ومات في الحبس أيضاً محمد بن الحسين بن عبد الرحمن بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، حمله عبد الله بن عبد العزيز عامل طاهر
__________________
(1) ذكر ذلك المسعودي أيضاً في مروج الذهب 4 : 429 وجعله في زمان المعتز.
(2) الجار : بلدة على البحر الأحمر.
إلى سر من رأى ، وحمل معه علي بن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهالسلام ، فحبسا جميعاً حتى ماتا في الحبس.
وكذلك إبراهيم بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهالسلام ، حبسه محمد بن أحمد بن عيسىٰ بن المنصور عامل المهتدي على المدينة ، فمات في حبسه ، ودفن في البقيع.
وكذلك عبد الله بن محمد بن يوسف بن إبراهيم بن موسى بن عبد الله بن الحسن ، حبسه أبو الساج بالمدينة ، فبقي بالحبس إلى ولاية محمد بن أحمد بن المنصور ، ثم توفي في حبسه ، فدفعه إلى أحمد بن الحسين بن محمد بن عبد الله بن داود بن الحسن فدفنه بالبقيع(1) .
ولم تكفّه سيرته الصالحة عن التصدي لشيعة الإمام والنكاية بهم ، بل كان مصداقاً للحقد التقليدي الذي يكنّه أسلافه العباسيون تجاهم ، فقد ذكر السيوطي أنه نفى جعفر بن محمود إلى بغداد ، وكره مكانه ، لأنّه نسب عنده إلى الرفض(2) .
حاول ( المهتدي ) العباسي التضييق على الإمام العسكري عليهالسلام بشتى الوسائل ، وكان عازماً على قتل الإمام عليهالسلام ، وهناك جملة من الروايات التي تؤيد ذلك :
__________________
(1) مقاتل الطالبيين : 435 ـ 439.
(2) تاريخ الخلفاء للسيوطي : 281.
عن أبي هاشم الجعفري ، قال : « كنت محبوساً مع أبي محمد عليهالسلام في حبس المهتدي ، فقال لي :يا أبا هاشم ، إن هذا الطاغية أراد أن يعبث بأمر الله في هذه الليلة ، وقد بتر الله عمره وجعله للمتولي بعده وليس لي ولد ، وسيرزقني الله ولداً بكرمه ولطفه ، فلما أصبحنا شغبت الأتراك على المهتدي وأعانهم العامة لما عرفوا من قوله بالاعتزال والقدر ، فقتلوه ونصبوا مكانه المعتمد وبايعوا له ، وكان المهتدي قد صحّح العزم على قتل أبي محمد عليهالسلام ، فشغله الله بنفسه حتى قُتل ومضى إلى أليم العذاب »(1) .
ويبدو أن تاريخ اعتقال الإمام عليهالسلام في أول حكم المهتدي ، لأنّه عليهالسلام ذكر في هذا الحديث أنه ليس له ولد وسيرزقه الله ولداً بكرمه ولطفه ، وقد ولد الحجة عليهالسلام في النصف من شعبان سنة 255 ه ، وتولّى المهتدي في أول رجب سنة 255 ه.
وتتشابه أجواء هذا الحديث وتاريخه مع حديث عيسىٰ بن صبيح(2) الذي اعتقل مع الإمام عليهالسلام قال : « دخل الحسن العسكري عليهالسلام علينا الحبس ، وكنت به عارفاً إلى أن قال : قلت : ألك ولد ؟ قال :إي والله ، سيكون لي ولد يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، فاما الآن فلا »(3) . فلعلّ الجملة المعترضة في حديث أبي هاشم الجعفري المتقدّم « وليس لي ولد » هي جواب للإمام عليهالسلام عن سؤال
__________________
(1) إثبات الوصية : 252 ، مهج الدعوات : 343 ، بحار الأنوار 50 : 313 ، ونحوه في المناقب لابن شهرآشوب 4 : 463 ، الغيبة للشيخ الطوسي : 205 / 173 و 223 / 187 ، بحار الأنوار 50 : 303 / 79.
(2) في الفصول المهمة : عيسىٰ بن الفتح.
(3) الفصول المهمة 2 : 1087 ، بحار الأنوار 50 : 275 / 48 عن الخرائج والجرائح.
عيسى بن صبيح الذي كان معهم في السجن.
وكان قبل ذلك قد تهدّد الإمام عليهالسلام بالقتل وتوعّد شيعته ، فكتب أحمد بن محمد إلى الإمام العسكري عليهالسلام حين أخذ المهتدي في قتل الموالي : يا سيدي ، الحمد لله الذي شغله عنّا ، فقد بلغني أنه يتهددك ويقول : والله لأجلينّهم عن جديد الأرض(1) . فوقّع عليهالسلام بخطه :ذلك أقصر لعمره ، عد من يومك هذا خمسة أيام ، ويُقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخاف يمرّ به ، وكان كما قال » عليهالسلام (2) .
لقد تنكّر المهتدي للاتراك ، وعزم على تقديم الأبناء ، فلمّا علموا بذلك استوحشوا منه وأظهروا الطعن عليه ، فأحضر جماعة منهم فضرب أعناقهم ، فاجتمع الأتراك وشغبوا ، فخرج إليهم المهتدي في السلاح ، واستنفر العامة ، وأباحهم دماء الأتراك وأموالهم ونهب منازلهم ، فتكاثر الأتراك عليه ، وافترقت العامة عنه حتى بقي وحده ، فسار إلى دار أحمد بن جميل صاحب الشرطة ، فلحقوه وأخذوه وحملوه على بغل وجراحاته تنطف دماً ، فحبسوه في الجوسق عند أحمد بن خاقان ، وقبّل المهتدي يده مراراً عديدة ، فدعوه إلى أن يخلع نفسه فأبى ، فقالوا : إنّه كتب بخطه رقعة لموسى بن بغا وبابكيال وجماعة من القواد أنه لا يغدر بهم ولا يغتالهم ولا يفتك بهم ولا يهمّ بذلك ، وأنه متى فعل ذلك فهم في
__________________
(1) جديد الأرض : وجهها.
(2) أصول الكافي 1 : 510 / 16 ، الإرشاد 2 : 333 ، إعلام الورى 2 : 144 ، بحار الأنوار 50 : 308 / 5.
حلّ من بيعته والأمر إليهم يُقعِدون من شاءوا.
فاستحلوا بذلك نقض أمره ، فداسوا خصييه وصفعوه وقيل : خلعوا أصابع يديه من كفيّه ورجليه من كعبيه حتى ورمت كفاه وقدماه وفعلوا به غير شيء حتى مات في رجب سنة 256 ه(1) ، فكان تنكّره للأتراك أقصر لعمره ، وكان قتله بعد هوان واستخفاف كما قال الإمام عليهالسلام .
وهو أحمد بن المتوكل بن المعتصم ، بويع سنة 256 ه ، وكان هو وأخوه الموفق طلحة كالشريكين في الخلافة ، فله الخطبة والسكة والتسميّ بامرة المؤمنين ، ولأخيه طلحة الأمر والنهي وقيادة العساكر ومحاربة الأعداء وترتيب الوزراء والامراء ، وكان المعتمد مشغولاً عن ذلك بلذّاته(2) .
لم تخرج سياسة المعتمد عن إطار السياسة العباسية القاضية بمراقبة أهل البيت عليهمالسلام ومطاردة شيعتهم والقسوة على الطالبيين ، ففي أيام المعتمد قُتل علي بن إبراهيم بن الحسن بن علي بن عبيد الله بن الحسين بن علي ، قُتل بسرّ من رأى على باب جعفر بن المعتمد ولا يدري من قتله ، وكذلك محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن ابن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن عمر بن علي ، ضَرَب عبد العزيز ابن أبي دلف عنقه صبراً بآبة ، وهي قرية بين قم وساوة.
وقُتل حمزة بن الحسن بن محمد بن جعفر بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله
__________________
(1) راجع : تاريخ اليعقوبي 2 : 506 ، الكامل في التارخ 6 : 221 ـ 223.
(2) الفخري في الآداب السلطانية : 250.
ابن جعفر بن أبي طالب عليهالسلام ، قتله صلاب التركي صبراً ومثّل به.
وقتل في أيام المعتمد أيضاً إبراهيم ومحمد ابنا الحسن بن علي بن عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، والحسن بن محمد بن زيد بن عيسىٰ بن زيد الحسين ، وإسماعيل بن عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
وتوفّي في السجن بسرّ من رأى محمد بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن ابن القاسم بن الحسن بن زيد الأكبر بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وتوفي أيضاً في السجن بسرّ من رأى موسى بن موسى بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي ، وكان حمل من مصر في أيام المعتز فبقي إلى هذا الوقت ثم مات ، وحمل سعيد الحاجب محمد بن أحمد بن عيسىٰ بن زيد بن علي ابن الحسين بن علي ، وحمل ابنيه أحمد وعلياً ، فتوفي محمد وابنه أحمد في الحبس.
وحُبس الحسين بن إبراهيم بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن ابن زيد بن الحسن بن علي ، حبسه يعقوب بن الليث الصفار لما غلب على نيسابور ، ثمّ حمله معه حين خرج إلى طبرستان ، وتوفي في الطريق رضياللهعنه .
وتوفي في حبس يعقوب بنيسابور محمد بن عبد الله بن زيد بن عبيد الله بن زيد بن عبد الله بن الحسن بن زيد بن الحسن(1) .
وفي سنة 258 ه اخرج أحمد بن طولون الطالبيين من مصر إلى المدينة ، ووجه معهم من ينفذهم ، وكان خروجهم في جمادي الآخرة ، وتخلف بعضهم حيث أراد أن يتوجه إلى المغرب ، فأخذه أحمد بن طولون وضربه مائة وخمسين
__________________
(1) مقاتل الطالبيين : 440 ـ 443.
سوطاً وأطافه بالفسطاط(1) .
وفي زمان المعتمد اعتقل الإمام العسكري عليهالسلام عدّة مرات ، فقد روي أنه سُلّم إلى نحرير ، وكان يضيق عليه ويؤذيه ، فقالت له امرأته : ويلك اتقي الله ، لا تدري من في منزلك ! وعرّفته صلاحه ، وقالت : إنّي أخاف عليك منه. فقال : لأرمينّه بين السباع ، ثم فعل ذلك به ، فرئي عليهالسلام قائماً يصلي والسباع حوله(2) .
وحُبس عند علي بن جرين سنة 260 ه ، وروي « أنه لما كان في صفر من هذه السنة جعلت اُم أبي محمد عليهالسلام تخرج في الأحايين إلى خارج المدينة وتجسّ الأخبار ، حتى ورد عليها الخبر حين حبسه المعتمد في يدي علي بن جرين ، وحبس أخاه جعفراً معه ، وكان المعتمد يسأل علياً عن أخباره في كلّ مكان ووقت ، فيخبره أنه يصوم النهار ويصلي الليل ، فسأله يوماً من الأيام عن خبره فأخبره بمثل ذلك ، فقال له : أمضِ الساعة إليه وأقرئه مني السلام ، وقل له : انصرف إلى منزلك » إلى آخر الرواية وفيها أنه عليهالسلام أبى أن يخرج من السجن حتى أخرجوا أخاه معه(3) ، رغم أن جعفراً كان يسيء إليه ويتربّص به.
وروى ابن حجر الهيتمي وغيره أنه عليهالسلام أخرج بسبب حادثة الاستسقاء ، قال : « لمّا حبس عليهالسلام قحط الناس بسرّ من رأى قحطاً شديداً ، فأمر المعتمد بن المتوكل بالخروج للاستسقاء ثلاثة أيام فلم يسقوا ، فخرج النصاري ومعهم
__________________
(1) تاريخ اليعقوبي 2 : 510.
(2) أصول الكافي 1 : 513 / 26 ـ باب مولد أبي محمد الحسن العسكري عليهالسلام من كتاب الحجة ، بحار الأنوار 50 : 309 / 7.
(3) إثبات الوصية : 253 ، مهج الدعوات : 343 ، بحار الأنوار 50 : 313 ـ 314 و 330 / 2.
راهب كلما مدّ يده إلى السماء هطلت ، ثمّ في اليوم الثاني كذلك ، فشكّ بعض الجهلة وارتدّ بعضهم ، فشقّ ذلك على المعتمد ، فأمر بإحضار الحسن الخالص عليهالسلام وقال له : أدرك اُمّة جدك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل أن يهلكوا. فقال الحسن :يخرجون غداً وأنا أزيل الشكّ إن شاء الله ، وكلّم الخليفة في إطلاق أصحابه من السجن فأطلقهم.
فلمّا خرج الناس للاستسقاء ، ورفع الراهب يده مع النصاري غيّمت السماء ، فأمر الحسن عليهالسلام بالقبض على يده ، فإذا فيها عظم آدمي ، فأخذه من يده وقال :استسق ، فرفع يده فزال الغيم وطلعت الشمس ، فعجب الناس من ذلك ، فقال المعتمد للحسن عليهالسلام : ما هذا يا ابا محمد ؟ فقال :هذا عظم نبي ، ظفر به هذا الراهب من بعض القبور ، وما كشف من عظم نبي تحت السماء إلا هطلت بالمطر ، فامتحنوا ذلك العظم فكان كما قال ، وزالت الشبهة عن الناس ، ورجع الحسن عليهالسلام إلى داره »(1) .
وهكذا كان ديدن الحكام العباسيين مع أهل البيت عليهمالسلام حينما تضيق بهم السبل وتوصد أمامهم الأبواب ، يضطرون إلى اللجوء نحو معدن العلم وثاني الثقلين وباب حطّة وسفينة نوح ، يلتمسون النجاة مما يهدّد عروشهم ويبدّد عرى دولتهم.
لقد شدّد المعتمد على حصار الإمام عليهالسلام واعتقاله ، لأنه يعلم أنه الإمام
__________________
(1) الصواعق المحرقة / ابن حجر الهيتمي : 124 ـ مكتبة القاهرة ـ مصر ـ 1385 ه ، الفصول المهمة 2 : 1085 ـ 1087 ، نور الأبصار : 337 ، وأخرجه في إحقاق الحق 12 : 464 و 19 : 620 و 625 و 29 : 64 عن عدة مصادر ، وراجع : الخرائج والجرائح 1 : 441 / 23 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 458 ، بحار الأنوار 50 : 270 / 37.
الحادي عشر ، وأن ما بعده هو آخر أئمة أهل البيت عليهمالسلام الذي يقضي على دعائم الظلم والجور ، ويطيح بدولة الظالمين ، وينشر العدل والقسط ، لهذا أراد أن يطفئ النور الثاني عشر ، ولكن الله أبي إلا أن يتمّ نوره.
روى الصيمري بالاسناد عن المحمودي ، قال : « رأيت بخطّ أبي محمد عليهالسلام لما خرج من حبس المعتمد ( يُرِيدُون لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بأَفوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ ) »(1) .
وذكر نصر بن علي الجهضمي في ( مواليد الأئمة عليهمالسلام ) أن الحسن بن علي العسكري عليهالسلام قال عند ولادة محمد بن الحسن عليهالسلام :« زعمت الظلمة أنّهم يقتلونني ليقطعوا هذا النسل ، كيف رأوا قدرة القادر ؟ » (2) .
وانتهت قصة صراع الإمام العسكري عليهالسلام مع خلفاء بني العباس بشهادته مسموماً في الثامن من ربيع الأول سنة 260 ه ، على المشهور من الأقوال في وفاته(3) ، وهو في الثامنة والعشرين أو التاسعة والعشرين من عمره الشريف ، ليبدأ بعد هذا التاريخ فصلاً جديداً من المأساة الكبري على يد المعتمد وجهازه الحاكم لم تزل آثاره باقية ولن تزول إلى أن يأذن الله بفرج وليه القائم المؤمّل والعدل المنتظر عليهالسلام ليملأها قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
* * *
__________________
(1) مهج الدعوات : 334 ، إثبات الوصية : 255 ، بحار الأنوار 50 : 314 ، والآية من سورة الصف : 61 / 8.
(2) مهج الدعوات : 334.
(3) سنأتي على ذكر الأقوال في الفصل الأخير من هذا كتاب.
الفصل الثّالث
الهوية الشخصية للإمام العسكري عليهالسلام
هو أبو محمد الحسن العسكري بن علي النقي بن محمد الجواد بن علي الرضا ابن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد باقر العلم بن علي زين العابدين ابن الحسين السبط الشهيد بن علي أمير المؤمنين وسيد الوصيين صلوات الله عليهم أجمعين.
نَسَبٌ عليه من شَمْسِ الضُّحىٰ |
نورٌ ، ومِنَ فَلَقِ الصَّباحِ عمودُ |
أمّ ولد ، يقال لها سوسن ، وتكنى أمّ الحسن ، وتعرف بالجدّة ، أي جدّة الإمام صاحب الزمان عليهالسلام ، ولها أسماء اُخرى ، فيقال لها : حُديث ، وحُديثة ، وسليل ، وسمانة ، وشكل النوبية وغيرها(1) .
__________________
(1) راجع : أصول الكافي 1 : 503 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام من كتاب الحجة ، التهذيب / الشيخ الطوسي 6 : 92 ـ باب 42 من كتاب المزار ، الإرشاد 2 : 313 ، إكمال الدين : 307 آخر باب 27 خبر اللوح ، إثبات الوصية : 244 ، دلائل الإمامة : 424 ، المناقب لابن شهر آشوب 4 : 455 ، روضة
ورجّح صاحب عيون المعجزات أن اسمها سليل ، حيث قال : « اسم اُمّه عليهالسلام ـ على ما رواه أصحاب الحديث ـ سليل ( رضي الله عنها ) وقيل : حديث ، والصحيح سليل ، وكانت من العارفات الصالحات »(1) .
ولعلّ ذلك مبني على الحديث الوارد عن المعصوم ، وهو يشيد بفضلها وعفتها وصلاحها ، رواه المسعودي عن العالم عليهالسلام أنه قال :« لمّا اُدخلت سليل اُمّ أبي محمد على أبي الحسن عليهالسلام ، قال : سليل مسلولة من الآفات والعاهات والأرجاس والأنجاس » (2) .
وبعثها الإمام العسكري عليهالسلام إلى الحج سنة 259 ه ، وأخبرها عما يناله سنة60 ، فأظهرت الجزع وبكت ، فقال عليهالسلام :« لابد من وقوع أمر الله فلا تجزعي » وفي صفر سنة 260 ه كانت في المدينة ، فجعلت تخرج إلى خارجها تتجسّس الأخبار وقد أخذها الحزن والقلق(3) .
وحينما اتصل بها خبر شهادة الإمام عليهالسلام عادت إلى سامراء ، فكانت لها أقاصيص يطول شرحها مع أخيه جعفر من مطالبته إياها بالميراث ، وسعايته
__________________
الواعظين : 251 ، تاريخ مواليد الأئمة عليهمالسلام / ابن الخشاب : 199 ـ مطبوع ضمن مجموعة نفيسة ـ مكتبة السيد المرعشي ـ قم ، الفصول المهمة 2 : 1080 ، تذكرة الخواص : 324 ، كشف الغمة 3 : 271 ، إعلام الورى 2 : 131 ، تاج المواليد : 133 ، بحار الأنوار 50 : 235 / 2 ، 236 / 5 و 7 ، 238 / 11.
(1) بحار الأنوار 50 : 238 / 11.
(2) إثبات الوصية : 244.
(3) راجع : إثبات الوصية : 253 ، مهج الدعوات : 343 ، بحار الأنوار 50 : 313 ، 330 / 2.
بها إلى سلطان ، وكشف ما أمر الله عزوجل ستره(1) .
وتوفيت في سامراء وكانت قد أوصت أن تدفن في الدار إلى جنب ولدها الإمام العسكري عليهالسلام ، فنازعهم جعفر وقال : الدار داري لا تدفن فيها(2) .
ولد الإمام العسكري عليهالسلام يوم الجمعة الثامن من شهر ربيع الآخر سنة 232 ه في مدينة جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهو القول المشهور في ولادته عليهالسلام (3) .
ويؤيد ما رواه الطبري الإمامي بالاسناد عن الإمام العسكري عليهالسلام ، أنه قال :« كان مولدي في ربيع الآخر سنة 232 من الهجرة » (4) .
ووقع اختلاف في تاريخ الولادة ومكانها ، فقيل : سنة 230 ه ، أو 231 ، أو 233 ، وقيل : في شهر رمضان من سنة 232 ه ، وقيل : يوم الاثنين الرابع من
__________________
(1) إكمال الدين : 474 / 25 ، بحار الأنوار 50 : 331 / 3.
(2) إكمال الدين : 442 / 15.
(3) إعلام الورى 2 : 131 ، المناقب لابن شهر آشوب 4 : 455 ، الفصول المهمة 2 : 1079 ، نور الأبصار : 338 ، روضة الواعظين / ابن الفتال : 251 ـ منشورات الرضي ـ قم ، وذكرت سنة الولادة مع الشهر في المصادر التالية : اُصول الكافي 1 : 503 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام من كتاب الحجة ، والارشاد 2 : 313 ، والتهذيب للشيخ الطوسي 6 : 92 ـ باب 42 من كتاب المزار ـ دار الكتب الاسلامية ـ طهران ، واقتصر كثيرون على ذكر السنة ، ومنهم ابن الأثير في الكامل 6 : 250 ـ آخر حوادث سنة 260 ه ، وابن خلكان في الوفيات 2 : 94 ـ منشورات الرضي ـ قم ، وابن حجر في الصواعق المحرقة : 124 ، والسويدي في سبائك الذهب : 342 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.
(4) دلائل الإمامة : 423 / 384.
شهر ربيع الآخر ، أو السادس ، أو العاشر ، من سنة 232 ه ، وقيل : في السادس من شهر ربيع الأول ، أو الثامن منه(1) .
وذكر الشيخ الحرّ العاملي أهمّ هذه الأقوال في بيتين من منظومته ، أشار فيهما إلى المشهور من الأقوال ، يقول :
مولده شهـر ربيع الآخر |
وذاك في اليوم الشريف العاشر |
|
في يوم الاثنين وقيل الرابعُ |
وقيل في الثامـن وهو الشائعُ(2) |
هذا من حيث تاريخ الولادة ، أما من حيث مكانها فقد ذكر بعضهم أنه ولد عليهالسلام في سامراء سنة 231 ه(3) ، أو في ربيع الآخر سنة 232(4) ، وهذا لا يصح لأنّ الثابت في التاريخ أنّ المتوكل هو الذي استدعى الإمام أبا الحسن الهادي عليهالسلام إلى سامراء ، وقد تولّى المتوكل ملك بني العباس في ذي الحجة سنة
__________________
(1) راجع : أصول الكافي 1 : 503 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام من كتاب الحجة ، دلائل الإمامة : 423 ، الهداية الكبري / الخصيبي : 327 ـ مؤسسة البلاغ ـ بيروت ـ 1406 ه ، روضة الواعضين : 251 ، الأئمة الاثنا عشر لابن طولون : 113 ، مصباح الكفعمي : 523 ـ طبعة اسماعيليان ـ قم ، المنتظم / ابن الجوزي 12 : 158 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ، تذكرة الخواص : 324 ، تاريخ أهل البيت لكبار المحدثين والمؤرخين : 87 ـ مؤسسة آل البيت عليهمالسلام ـ 1410 ه ، الانساب / للسمعاني 4 : 194 ـ دار الجنان ـ بيروت ، احقاق الحق / للتستري بشرح السيد المرعشي 29 : 59 عن تاريخ الأحمدي ، بحار الأنوار 50 : 236 ـ 238.
(2) الأنوار البهية / الشيخ عباس القمي : 250 ـ نشر الشريف الرضي ـ قم.
(3) تذكرة الخواص : 324.
(4) روضة الواعظين : 251 ، المناقب لابن شهر آشوب 4 : 455 ، بحار الأنوار 50 : 236 / 5.
232 ه ، فكيف تكون ولادة الإمام العسكري عليهالسلام في سامراء سنة 231 ه أو في ربيع الآخر سنة 232 ه ، وكلا التاريخين في زمان الواثق ، وهو عليهالسلام لمّا يزل في المدينة.
ويعارض هذا أيضاً ما قدّمناه في الفصل الثاني من أنه عليهالسلام غادر المدينة مع أبيه عليهالسلام سنة 236 ه على رواية المسعودي ، أو سنة 233 ه على رواية الطبري ، أو سنة 243 ه على رواية الشيخ المفيد ، أو سنة 234 ه على ما حققه بعض الباحثين.
ولدينا بعض الأحاديث الصريحة بولادته في المدينة منها حديث أبي حمزة نصير الخادم(1) ، وحديث أحمد بن عيسىٰ العلوي الذي يصرح برؤيته بصريا وهي قرية على ثلاثة أميال من المدينة(2) ، كما نصّ المؤرخون والمحدثون الذين قدمنا ذكرهم في ولادته على أنه عليهالسلام ولد في المدينة ومنهم : الشيخ المفيد ، والشيخ الطوسي ، وابن الفتال ، وابن الصباغ ، والشبلنجي ، والكنجي ، والسويدي وغيرهم(3) ، وقال ياقوت : « ولد بالمدينة ونقل إلى سامراء »(4) .
أشهر ألقاب الإمام أبي محمد عليهالسلام هو العسكري ، وقد اُطلق عليه وعلى
__________________
(1) أصول الكافي 1 : 509 / 11 ـ باب ميلاد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام من كتاب الحجة ، الإرشاد 2 : 331 ، إثبات الوصية : 251 ، الخرائج والجرائح 1 : 436 / 814 ، إعلام الورى 1 : 145 ، بحار الأنوار 50 : 268 / 28.
(2) الغيبة / الشيخ الطوسي : 199 / 165.
(3) راجع : إحقاق الحق 12 : 458 ، 19 : 619 ، 29 : 59 عن عدة مصادر.
(4) معجم البلدان ـ المجلد الثالث : 328 ـ عسكر سامراء.
أبيه عليهالسلام ، لأنهما سكنا عسكر المعتصم الذي بناه لجيشه ، وهو اسم سرّ من رأى(1) .
وقيل : هو اسم محلّة في سامراء ، قال الشيخ الصدوق : سمعت مشايخنا رضي الله عنهم يقولون : إنّ المحلّة التي يسكنها الإمامان علي بن محمد والحسن ابن علي عليهالسلام بسرّ من رأى كانت تسمّى عسكر ، فلذلك قيل لكلّ واحدٍ منهما العسكري(2) .
وكان هو وأبوه وجده عليهالسلام يعرف كلّ منهم في زمانه بابن الرضا(3) .
وهناك ألقاب اُخرى تطلق على الإمام العسكري عليهالسلام وفي كلّ منها دلالة علي كمال من كمالاته أو مظهر من مظاهر شخصيته ، منها : الخالص ، الشافي ، الزكي ، المرضي ، الصامت ، الهادي ، الرفيق ، النقي ، المضيء ، المهتدي ، السراج ، وغيرها(4) من الألقاب التي تحكي مكارم أخلاقه وخصائصه السامية وصفاته الزكية.
__________________
(1) راجع : الانساب / للسمعاني 4 : 194 ـ 196 ، معجم البلدان ـ المجلد الثالث : 328 ، القاموس المحيط / الفيروز آبادي ـ عسكر ـ 2 : 92 ـ دار الجيل ـ بيروت ، الأئمة الاثنا عشر / لابن طولون : 113.
(2) علل الشرائع / الصدوق 1 : 230 ـ باب 176 ، معاني الأخبار / الصدوق : 65 ، بحار الأنوار 50 : 113 / 1 و 235 / 1.
(3) المناقب لابن شهر آشوب 4 : 455 ، الفصول المهمة 2 : 1080 ، إعلام الورى 2 : 131.
(4) دلائل الإمامة : 423 ـ 424 ، إعلام الورى 2 : 131 ، مناقب ابن شهر آشوب 4 : 455 ، الفصول المهمة 2 : 1080 ، إكمال الدين : 307 باب 27 ، التتمة في تواريخ الأئمة عليهمالسلام : 142 ، بحار الأنوار 50 : 238.
اشتهر الإمام العسكري عليهالسلام بكنية واحدة عرف بها عند سائر المؤرخين والمحدثين ، هي أبو محمد ، وذكر الطبري الامامي أنه عليهالسلام يكني أيضاً أبا الحسن(1) ولم أجده في غيره ، بل هي كنية أبيه عليهالسلام .
وصفه أحد معاصريه من رجال البلاط العباسي ، وهو أحمد بن عبيد الله بن خاقان(2) بقوله : « انه أسمر أعين ـ أي واسع العين ـ حسن القامة ، جميل الوجه ، جيد البدن ، له جلالة وهيئة حسنة »(3) .
وقال ابن الصباغ : « صفته بين السمرة والبياض »(4) .
وجاء في صفة لباسه : « أنه كان يلبس ثياباً بيضاء ناعمة ، ويلبس مسحاً أسود خشناً على جلده ، ويقول :هذا لله ، وهذا لكم »(5) .
__________________
(1) دلائل الإمامة : 424.
(2) ترجم له النجاشي في رجاله : 87 / 213 وقال : ذكره أصحابنا في المصنفين ، وأن له كتاباً يصف فيه سيدنا أبا محمد عليهالسلام ، ولم أر هذا الكتاب ، وقال الشيخ الطوسي : له مجلس يصف فيه أبا محمد الحسن بن علي عليهالسلام ، أخبرنا به ابن أبي جيد ، عن ابن الوليد ، عن عبد الله بن جعفر الحميري ، الفهرست : 81 / 102 ـ مكتبة المحقق الطباطبايي ـ قم ـ 1420 ه.
(3) أصول الكافي 1 : 503 / 1 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام من كتاب الحجة ، الإرشاد 2 : 321 ، إكمال الدين 1 : 40 مقدمة المصنف ، إعلام الورى 2 : 147 ، الخرائج والجرائح 2 : 901.
(4) الفصول المهمة 2 : 1081 ، نور الأبصار : 338.
(5) الغيبة / للشيخ الطوسي : 247 / 216.
كان نقش خاتمه :سبحان من له مقاليد السماوات والأرض (1) . وقيل : أنا لله شهيد(2) . وفي نسخة من البحار : إنّ الله شهيد(3) .
وقال الطبري الإمامي : « كان له خاتم فصّه : الله وليي »(4) .
المشهور أنّ بوابه هو وكيلة الثقة الجليل ، العظيم الشأن عثمان بن سعيد العمري رضياللهعنه . وقيل : ابنه محمد بن عثمان. وقال ابن شهر آشوب : الحسين بن روح النوبختي ، وقيل : محمد بن نصير ، ورجّح الطبري صحّة الأول(5) .
قيل : هو أبو الحسن علي بن العباس ، المعروف بابن الرومي ( 221 ـ 283 ه )(6) ولم أجد قصيدة لابن الرومي في الإمام عليهالسلام ، نعم توجد له قصيدة رائعة في مدح أبي الحسين يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي عليهالسلام ،
__________________
(1) الفصول المهمة 2 : 1081 ، نور الأبصار : 338 ، بحار الأنوار 50 : 238 / 9.
(2) مصباح الكفعمي : 523 ، التتمة في تواريخ الأئمة عليهمالسلام : 142.
(3) بحار الأنوار 50 : 238 / 12.
(4) دلائل الإمامة : 425.
(5) راجع : تاريخ الأئمة لابن أبي الثلج : 33 ـ مكتبة السيد المرعشي ـ قم ـ ضمن مجموعة نفيسة ، مصباح الكفعمي : 523 ، المناقب لابن شهر آشوب 4 : 455 ، دلائل الإمامة : 425 ، التتمة في تواريخ الأئمة عليهمالسلام : 143.
(6) الفصول المهمة 2 : 1081 ، نور الأبصار : 338.
الذي ثار في أيام المتوكل وقُتِل في أيام المستعين ( 250 ه ) ، وذكر في تلك القصيدة ظلم بني العباس لأهل البيت عليهمالسلام ، وقارن بين النهجين ، وهي طويلة ، يقول في مطلعها :
إمامك فانظر أي نهجيك تنهجُ |
طريقان شتى مستقيم وأعوج(1) |
عمره يوم وافاه الأجل (28) عاماً ، فقد ولد في سنة 232 ه واستشهد سنة 260 ه ، وهو بذلك يعدّ أصغر آبائه المعصومين عليهالسلام عمراً ، وعاش 22 عاماً في ظلّ أبيه الإمام أبي الحسن الهادي عليهالسلام الذي استشهد سنة 254 ه ، ووصفه بقوله :« أبو محمد ابني أنصح آل محمد غريزة ، وأوثقهم حجة ، وهو الأكبر من ولدي ، وهو الخلف ، وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها » (2) .
ومدّة إمامته ست سنوات ( 254 ـ 260 ه ) عاصر فيها من سلاطين بني العباس المعتز ( 251 ـ 255 ه ) والمهتدي ( 255 ـ 256 ه ) والمعتمد ( 256 ـ 279 ه )(3) .
__________________
(1) ديوان ابن الرومي 2 : 492 / 365 تحقيق الدكتور حسين نصار ، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(2) أصول الكافي : 327 / 11 ـ باب الاشارة والنص على أبي محمد عليهالسلام من كتاب الحجة.
(3) راجع : تاج المواليد : 134 ، المناقب لابن شهر آشوب 4 : 455 ، دلائل الإمامة : 423 ، إعلام الورى 2 : 31 ، التتمة في تواريخ الأئمة عليهمالسلام : 142 ، بحار الأنوار 50 : 236 / 5 و 238 / 8.
وهي اُمّ ولد يقال لها نرجس عليهاالسلام ، وكان الإمام أبو الحسن الهادي عليهالسلام قد أعطاها إلى أخته حكيمة بنت محمد الجواد عليهالسلام وقال لها :« يا بنت رسول الله ، اخرجيها إلى منزلك ، وعلميها الفرائض والسنن ، فإنها زوجة أبي محمد واُمّ القائم » (1) .
وكما اختلفت الروايات في اسم أم الإمام العسكري عليهالسلام كما مرّ ، فقد اختلفت أيضاً في اسم زوجته ، ويستفاد من أخبار أسرها وجلبها إلى بغداد وابتياعها(2) ، أنّ اسمها مليكة بنت يشوعا بن قصير ملك الروم ، واُمّها من ولد الحواريين ، تنسب إلى شمعون وصيّ المسيح عليهالسلام ، ولما اُسرت سمّت نفسها نرجس لئلا يعرف الشيخ الذي وقعت في سهمه من الغنيمة أنّها من سلالة الملوك.
وقد تعدّدت أسماؤها ، فجاء في رواية : أنها ريحانة ، ويقال لها نرجس ويقال لها صقيل ، ويقال لها سوسن ، إلا أنه قيل لها بسبب الحمل صقيل(3) .
ويستفاد من الأخبار أنه بعد شهادة الإمام العسكري عليهالسلام هجم جند السلطان لتفتيش دار الإمام عليهالسلام طلباً للولد ، ولما لم يعثروا على شيء وجّه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل ، وحملوها إلى داره ، فطالبوها بالولد فانكرته
__________________
(1) إكمال الدين : 423 / 1 ـ باب 41.
(2) راجع : إكمال الدين : 417 / 1 ـ باب 41 ، المناقب لابن شهر آشوب 4 : 472 الغيبة للشيخ الطوسي : 208 / 178 ، روضة الواعظين : 252 ، دلائل الإمامة : 489 / 488.
(3) إكمال الدين : 432 / 12 ـ باب 42 ، الغيبة للشيخ الطوسي : 393 / 362.
وادّعت الحبل تغطية على حاله ، فجعلت نسوة وخدم المعتمد والموفق والقاضي ابن أبي الشوارب يتعاهدن أمرها في كلّ وقت ، إلى أن دهمهم أمر يعقوب بن الليث الصفار ، وصاحب الزنج ، وموت عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، فشغلوا عنها ، وخرجت عن أيديهم(1) .
ذكر بعض النسابة والمؤرخين أنه عليهالسلام لم يخلف ولداً غير الإمام الحجة القائم المهدي عليهالسلام (2) .
قال الشيخ المفيد : كان الإمام بعد أبي محمد عليهالسلام ابنه المسمّي باسم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المكّني بكنيته ، ولم يخلف ولداً غيره ظاهراً ولا باطناً ، وخلفه غائباً مستتراً ، وكانت سنّه عند وفاة أبيه خمس سنين ، أتاه الله فيها الحكمة وفصل الخطاب ، وجعله آية للعالمين ، وآتاه الحكمة كما آتاها يحيى صبياً ، وجعله إماماً في حال الطفولية الظاهرة كما جعل عيسىٰ بن مريم عليهالسلام في المهد نبياً(3) .
وقال الطبرسي وغيره : خلّف ولده الحجة القائم المنتظر لدولة الحقّ ، وكان قد أخفى مولده لشدّة طلب سلطان الوقت له ، واجتهاده في البحث عن أمره ،
__________________
(1) راجع : إكمال الدين : 43 ـ مقدمة المصنف ، 476 / 25 باب 42 ، دلائل الإمامة : 425 ، بحار الأنوار 50 : 331 / 3.
(2) راجع : المناقب لابن شهر آشوب 4 : 455 ، كفاية الطالب / الكنجي : 458 ـ دار إحياء تراث أهل البيت ـ طهران ـ 1404 ه ، دلائل الإمامة : 425 ، نور الأبصار : 341.
(3) الإرشاد 2 : 339.
فلم يره إلا الخواص من شيعته(1) .
وقيل : إنّ للإمام العسكري ذكراً واُنثي(2) ، وجاء في رواية للشيخ الصدوق أن له ولدين هما محمد عليهالسلام وموسى(3) ، وعدّ بعضهم سبعة أولاد للإمام العسكري عليهالسلام وهم : القائم عليهالسلام وهو الإمام بعد أبيه ، وموسى ، وجعفر ، وإبراهيم ، وعائشة ، وفاطمة ، ودلالة(4) .
واذا سلّمنا بصحة هذه الأقوال فلا بدّ أن نفترض كونهم ممن درجوا في حياة أبيهم عليهالسلام ، ويدلّ عليه ما رواه الشيخ الطوسي بالاسناد عن إبراهيم بن إدريس ، قال : « وجّه إلىّ مولاي أبو محمد عليهالسلام بكبش ، ثمّ لقيته بعد ذلك فقال لي :المولود الذي ولد لي مات ، ثمّ وجّه إلي بكبشين ، وكتب :بسم الله الرحمن الرحيم ، عقّ هذين الكبشين عن مولاك ، وكُل هنأك الله ، واطعم إخوانك ، ففعلت ولقيته بعد ذلك فما ذكر لي شيئاً »(5) .
ذكر المؤرخون أن له ثلاثة اخوة ، وهم : محمد المتوفّي في حياة أبيه ، والحسين ، وجعفر المعروف بالكذاب ، وقيل : إن له من الإخوة اثنين وحسب وهما : جعفر وإبراهيم ، وهذا غلط واضح لشهرة السيد محمد بن الإمام الهادي عليهالسلام في كتب الانساب والتاريخ والحديث. وله اخت واحدة مختلف في
__________________
(1) إعلام الورى 2 : 151 ، المناقب لابن شهر آشوب 4 : 455.
(2) مصباح الكفعمي : 523.
(3) راجع : إكمال الدين : 446 / 19 باب 43 و 467 / 21 من نفس الباب.
(4) التتمة في تواريخ الأئمة عليهمالسلام : 143.
(5) الغيبة للشيخ الطوسي : 245 ـ 246 / 214.
اسمها فقيل : حكيمة ، أوعائشة ، أو علية ، أو عالية.
وقيل : له اختان وهما : عائشة ودلالة(1) .
وهو أبو جعفر محمد بن الإمام أبي الحسن الهادي ، المتوفي نحو سنة 252 ه(2) ، وقال السيد محسن الأمين : جليل القدر ، عظيم الشأن ، وكان أبوه خلّفه بالمدينة طفلاً لما اُتي به إلى العراق ، ثم قدم عليه في سامراء ، ثمّ أراد الرجوع إلى الحجاز ، فلمّا بلغ القرية التي يقال لها ( بلد ) على تسعة فراسخ من سامراء ، مرض وتوفّي ودفن قريباً منها ، ومشهده هناك معروف مزور ، ولمّا توفي شقّ أخوه أبو محمد ثوبه ، وقال في جواب من لامه على ذلك :« قد شق موسى على أخيه هارون » (3) .
وجاء في الرواية : « أن أبا الحسن عليهالسلام قد بسط به في صحن دار ، يوم توفي محمد ابنه ، والناس جلوس حوله يعزّونه ، من آل أبي طالب وبني هاشم
__________________
(1) راجع : الإرشاد 2 : 312 ، المناقب لابن شهر آشوب 4 : 433 ، دلائل الإمامة : 412 ، إعلام الورى 2 : 127 ، الفصول المهمة 2 : 1076 ، التتمة في تواريخ الأئمة عليهمالسلام : 138.
(2) ورد في حديث أن عمر الإمام العسكري عليهالسلام يوم وفاة أخيه السيد محمد نحو عشرين سنة ، وبما أنه عليهالسلام ولد سنة 232 ، فتكون وفاة السيد محمد نحو سنة 252 هـ. راجع : أصول الكافي 1 : 327 / 8 ـ باب الاشارة والنص على أبي محمد عليهالسلام من كتاب الحجة.
(3) أعيان الشيعة 14 : 291 ـ دار التعارف للمطبوعات.
وقريش ومواليه ومن سائرالناس »(1) .
جعفر الكذاب :
أما جعفر الكذاب ، فكان صاحب فتنة وضلالة ، وقد أخبر أئمة أهل البيت عليهمالسلام عنه قبل ولادته ، وحذّروا شيعتهم من فتنته ، ففي حديث عن أبي خالد الكابلي« أنه سأل الإمام علي بن الحسين صلوات الله عليه : من الحجة والإمام بعدك ؟ فقال :ابني محمد ، واسمه في التوراة الباقر يبقر العلم بقراً ، وهو الحجة والإمام بعدي ، ومن بعد محمد ابنه جعفر ، واسمه عند أهل السماء الصادق.
فقلت له : يا سيدي ، كيف صار اسمه الصادق ، وكلكم صادقون ؟ فقال :حدّثني أبي عن أبيه عليهالسلام أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، فسمّوه الصادق ، فإنّ للخامس من ولده ولداً اسمه جعفر يدّعي الإمامة اجتراءً على الله وكذباً عليه ، فهو عند الله جعفر الكذاب المفتري على الله عزوجل والمدّعي لما ليس له بأهل ، المخالف على أبيه ، والحاسد لأخيه ، ذلك الذي يروم كشف ستر الله عند غيبة ولي الله عزوجلّ ... ثم قال :كاني بجعفر الكذاب وقد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر ولي الله ، والمغيب في حفظ الله ، والتوكيل بحرم أبيه جهلاً منه بولادته ، وحرصاً على قتله إن ظفر به ، طمعاً في ميراث أبيه حتى
__________________
(1) أصول الكافي 1 : 326 / 8 باب الاشارة والنص على أبي محمد عليهالسلام من كتاب الحجة.
يأخذه بغير حقّه »(1) .
وحينما ولد جعفر فرح أهل الدار بولادته ، ولم يروا أثراً للسرور على أبي الحسن الهادي عليهالسلام ، فقيل له في ذلك ، فقال :« يهون عليك أمره ، فإنّه سيضلّ خلقاً كثيراً » (2) .
وقد تحقق ما قاله أهل البيت عليهمالسلام عن فتنته وضلالته ، حيث كانت له بعد شهادة أخيه الإمام العسكري عليهالسلام ثلاثة أدوار سيئة :
1 ـ ادعاء الإمامة بعد أخيه الحسن عليهالسلام كذباً وزوراً ، ولهذا خرجت عن الإمام المهدي عليهالسلام عدّة تواقيع تنبه الشيعة على بطلان ادعائه وكذبه وعصيانه وظلمه ، وجهله بالأحكام وتركه الواجبات ، منها على يد أحمد بن إسحاق الأشعري ، وعلى يد محمد بن عثمان العمري(3) ، فجفته الشيعة بعد أن بان كلّ ما ذكره ، ممّا اضطره إلى التوسل برجال الدولة ومنهم الوزير عبيد الله بن يحيى ابن خاقان في أن يجعلوا له مرتبة أخيه فزبره بالقول « يا أحمق ، السلطان جرّد سيفه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمة ليردّهم عن ذلك فلم يتهيأ له ذلك ، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة لك إلى السلطان ليرتبك
__________________
(1) علل الشرائع / الصدوق 1 : 234 / 1 ـ المطبعة الحيدرية ـ النجف ـ 1385 ه ، إكمال الدين : 319 / 2 باب 31.
(2) إكمال الدين : 321 / آخر الحديث 2 باب 31 ، الغيبة / للشيخ الطوسي : 226 / 193.
(3) راجع : إكمال الدين : 483 / 4 ـ باب 45 ، الغيبة / للشيخ الطوسي : 290 / 247 ، بحار الأنوار 50 : 230 / 3 عن احتجاج الطبرسي : 162 ـ 163.
مراتبهم ولا غير السلطان ، وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا »(1) .
وحمل عشرين ألف دينار إلى المعتمد ، طالباً منه أن يجعل له مرتبة أخيه ومنزلته. فأجابه بنحو جواب ابن خاقان(2) .
2 ـ ادعاؤه التركة وبالتالي حيازته إياها مناصفة مع اُم العسكري عليهالسلام بإذن من السلطات الحاكمة.
3 ـ افشاء سر أخيه العسكري عليهالسلام إلى الدولة من خلال الايعاز لهم بولادة الإمام المهدي عليهالسلام ، ومن هنا بدأت سلسلة من المطاردات والاعتقالات لعيال الإمام عليهالسلام ، ولم يتمكنوا من العثور على الإمام المهدي عليهالسلام ، وبذلك يكون جعفر قد كشف ما أوجب الله تعالى ستره وكتمانه.
وقد أجمل الشيخ المفيد رحمهالله جملة هذه الأدوار المشينة وغيرها التي قام بها جعفر الكذاب تعد شهادة أخيه الحسن عليهالسلام بقوله : « تولّى جعفر بن علي أخو أبي محمد عليهالسلام أخذ تركته ، وسعى في حبس جواري أبي محمد عليهالسلام واعتقال حلائله ، وشنّع على أصحابه بانتظارهم ولده وقطعهم بوجوده والقول بإمامته ، وأغرى بالقوم حتى أخافهم وشرّدهم ، وجرى على مخلّفي أبي محمد عليهالسلام بسبب ذلك كلّ عظيمة ؛ من اعتقال وحبس وتهديد وتصغير واستخفاف وذلّ ، ولم يظفر السلطان منهم بطائل.
وحاز جعفر ظاهر تركة أبي محمد عليهالسلام ، واجتهد في القيام عند الشيعة
__________________
(1) أصول الكافي 1 : 505 / 1 باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام من كتال الحجة ، الإرشاد 2 : 324.
(2) راجع : إكمال الدين : 479 ، الخرائج والجرائح 3 : 1109.
مقامه ، فلم يقبل أحد منهم ذلك ، ولا اعتقده فيه ، فصار إلى سلطان الوقت يلتمس مرتبة أخيه ، وبذل مالاً جليلاً ، وتقرّب بكلّ ما ظنّ أنه يتقرّب به ، فلم ينتفع بشيء من ذلك »(1) .
وهكذا كان جعفر كإخوة يوسف الصديق عليهالسلام يوم قالوا لأبيهم كذباً : ( يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ) (2) .
__________________
(1) الإرشاد 2 : 336 ـ 337 ، ونحوه في المناقب لابن شهر آشوب 4 : 455 ، إعلام الورى 2 : 151 ـ 152 ، الفصول المنهمة 2 : 1093.
(2) سورة يوسف : 12 / 17.
الفصل الرابع
امامته عليهالسلام
قال الشيخ المفيد : كان الإمام بعد أبي الحسن علي بن محمد عليهالسلام ابنه أبا محمد الحسن بن علي لاجتماع خلال الفضل فيه ، وتقدّمه على كافة أهل عصره فيما يوجب له الإمامة ويقتضي له الرئاسة ، من العلم والزهد وكمال العقل والعصمة والشجاعة والكرم وكثرة الأعمال المقربة إلى الله ، ثمّ لنصّ أبيه عليهالسلام عليه وإشارته بالخلافة إليه(1) . وفيما يلي نذكر طرفاً من النصوص الواردة في إمامته عليهالسلام وكما يلي :
وردت المزيد من النصوص عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والآل المعصومين عليهمالسلام تصرح بتعيين أوصياء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وخلفائه من عترته واحداً بعد واحد باسمائهم وأوصافهم ، بشكل يجلو العمى عن البصائر وينفي الشك عن القلوب ، وسنذكر هنا حديثين عن آبائه المعصومين عليهمالسلام كنموذج على تلك النصوص ، ونحيل القارئ إلى مظانّ بقيتها(2) .
__________________
(1) الإرشاد 2 : 313.
(2) راجع : أصول الكافي 1 : 286 ـ باب ما نص الله عزوجل ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم على
1 ـ عن عبد السلام بن صالح الهروي ، قال : « سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول : أنشدت مولاي الرضا علي بن موسى عليهالسلام قصيدتي التي أولها :
مدارس آيات خلت من تلاوة |
ومنزل وحي مقفر العرصات |
فلما انتهيت إلى قولي :
خروج إمام لا محالة خارج |
يـقوم على اسم الله والبركات |
|
يميز فينا كلّ حـقّ وباطل |
ويجزي على النعماء والنقمات |
بكى الرضا عليهالسلام بكاءً شديداً ، ثم رفع رأسه إليّ فقال لي :يا خزاعي ، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الإمام ومتى يقوم ؟ فقلت : لا يا مولاي ، إلا أني سمعت بخروج إمام منكم يطهّر الأرض من الفساد ، ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً.
فقال :يا دعبل ، الإمام بعدي محمد ابني ، وبعد محمد ابنه علي ، وبعد علي ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره ... »(1) .
2 ـ وعن الصقر بن أبي دلف ، قال : « سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا عليهالسلام يقول :إن الإمام بعدي ابني علي ، أمره أمري ، وقوله قولي ، وطاعته طاعتي ، والامام بعده ابنه الحسن ، أمره أمر أبيه ، وقوله قول أبيه ،
__________________
الائمة عليهمالسلام واحداً فواحداً ، إكمال الدين : 250 ـ 378 ـ الأبواب 23 ـ 36 ، بحار الأنوار 36 : 192 ـ 418 ـ باب 40 ـ 48.
(1) إكمال الدين : 372 / 6 باب 35.
وطاعته طاعة أبيه ... »(1) .
فيما يلي نعرض أهم النصوص الواردة عن أبيه عليهالسلام في النص عليه والإشارة إليه بالإمامة من بعده.
1 ـ روى ثقة الإسلام الكليني بالإسناد عن يحيى بن يسار القنبري ، قال : « أوصى أبو الحسن عليهالسلام إلى ابنه الحسن عليهالسلام قبل مضيه بأربعة أشهر ، وأشهدني على ذلك وجماعة من الموالي »(2) .
2 ـ وعن علي بن عمر النوفلي ، قال : « كنت مع أبي الحسن عليهالسلام في صحن داره ، فمرّ بنا محمد ابنه ، فقلت له : جعلت فداك ، هذا صاحبنا بعدك ؟ فقال :لا ، صاحبكم بعدي الحسن »(3) .
3 ـ وعن عبد الله بن محمد الأصفهاني ، قال : « قال أبو الحسن عليهالسلام :صاحبكم بعدي الذي يصلّي عليّ. قال : ولم نعرف أبا محمد قبل ذلك. قال : فخرج أبو محمد فصلى عليه »(4) .
4 ـ وعن علي بن مهزيار ، قال : « قلت لأبي الحسن عليهالسلام : إن كان كون ـ وأعوذ بالله ـ فإلى من ؟ قال :عهدي إلى الأكبر من ولدي » (5) . وكان الإمام العسكري عليهالسلام أكبر وُلد الإمام الهادي عليهالسلام .
__________________
(1) إكمال الدين : 378 / 3 باب 36.
(2) أصول الكافي 1 : 325 / 1 ـ باب الإشارة والنص على أبي محمد عليهالسلام من كتاب الحجة.
(3) أصول الكافي 1 : 325 / 2 من نفس الباب المتقدم.
(4) أصول الكافي 1 : 326 / 3 من نفس الباب المتقدم.
(5) أصول الكافي 1 : 326 / 6 من نفس الباب المتقدم.
5 ـ وعن علي بن عمرو العطار ، قال : « دخلت على أبي الحسن العسكري عليهالسلام وأبو جعفر ابنه في الأحياء ، وأنا أظنّ أنه هو ، فقلت له : جعلت فداك ، من أخصّ من ولدك ؟ فقال :لا تخصوا أحداً حتى يخرج إليكم أمري. قال : فكتبت إليه بعد : فيمن يكون هذا الأمر ؟ قال : فكتب إليّ :في الكبير من ولدي. قال : وكان أبو محمد أكبر من أبي جعفر »(1) .
6 ـ وعن أبي بكر الفهفكي قال : « كتب إليّ أبو الحسن عليهالسلام :أبو محمد ابني انصح آل محمد غريزة ، وأوثقهم حجة ، وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف ، وإليه تنتهي عرىٰ الإمامة وأحكامها ، فما كنت سائلي فسله عنه ، فعنده ما يحتاج إليه »(2) .
7 ـ وعن داود بن القاسم ، قال : « سمعت أبا الحسن عليهالسلام يقول :الخلف من بعدي الحسن ، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف ؟ فقلت : ولم جعلني الله فداك ؟ فقال :إنكم لا ترون شخصه ولايحلّ لكم ذكره باسمه »(3) .
8 ـ وروى الشيخ الصدوق بالاسناد عن عبد العظيم الحسني قال : « دخلت على سيدي علي بن محمد عليهالسلام ، فلمّا بصر بي قال لي :مرحباً بك يا أبا القاسم ، أنت وليّنا حقاً. قال. فقلت له : يابن رسول الله ، إنّي اُريد أن أعرض عليك ديني فإن كان مرضياً ثبتُّ عليه حتى ألقى الله عزوجل. فقال :هات يا أبا القاسم ، فقلت : إنّي أقول : إنّ الله تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء وإن
__________________
(1) أصول الكافي 1 : 326 / 7 من نفس الباب المتقدم.
(2) أصول الكافي 1 : 327 / 11 من نفس الباب المتقدم.
(3) أصول الكافي 1 : 328 / 13 من نفس الباب المتقدم.
محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم عبده ورسوله وإن الإمام والخليفة وولي الأمر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام ، ثمّ الحسن ، ثمّ الحسين ، ثمّ علي بن الحسين ، ثمّ محمد بن علي ، ثمّ جعفر بن محمد ، ثمّ موسى بن جعفر ، ثمّ علي بن موسى ، ثمّ محمد بن علي ، ثمّ أنت يا مولاي. فقال عليهالسلام :ومن بعدي الحسن ابني ، فكيف للناس بالخلف من بعده ؟ قال : فقلت : وكيف ذاك يا مولاي ؟ قال :لأنه لا يرى شخصه ولا يحلّ ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً . قال : فقلت : أقررت »(1) .
9 ـ وعن علي بن عبد الغفار ، قال : إن الإمام الهادي عليهالسلام كتب إلى شيعته :« الأمر لي مادمت حياً ، فإذا نزلت بي مقادير الله عزوجل آتاكم الله الخلف مني ، وأنّى لكم بالخلف بعد الخلف ؟ » (2) .
10 ـ وعن الصقر بن أبي دلف قال : « سمعت علي بن محمد بن علي الرضا عليهالسلام يقول :إنّ الإمام بعدي الحسن ابني ، وبعد الحسن ابنه القائم الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً »(3) .
11 ـ وروى شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي بالإسناد عن علي بن عمر النوفلي ، قال : « كنت مع أبي الحسن العسكري عليهالسلام في داره ، فمرّ عليه أبو جعفر ، فقلت له : هذا صاحبنا ؟ فقال :لا ، صاحبكم الحسن »(4) .
__________________
(1) إكمال الدين : 379 / 1 ـ باب 37.
(2) إكمال الدين : 382 / 8 ـ باب 37.
(3) إكمال الدين : 383 / 10 ـ باب 37.
(4) كتاب الغيبة / الشيخ الطوسي : 198 / 163.
12 ـ وعن أحمد بن محمد بن رجاء صاحب الترك ، قال : « قال أبو الحسن عليهالسلام :الحسن ابني القائم [ أي بأمر الإمامة ]من بعدي »(1) .
13 ـ وعن أحمد بن عيسىٰ العلوي من ولد علي بن جعفر ، قال : « دخلت على أبي الحسن عليهالسلام بصريا فسلمنا عليه ، فإذا نحن بأبي جعفر وأبي محمد قد دخلا ، فقمنا إلى أبي جعفر لنسلم عليه ، فقال أبو الحسن عليهالسلام :ليس هذا صاحبكم ، عليكم بصاحبكم ، وأشار إلى أبي محمد »(2) . إلى غير هذا من النصوص الكثيرة التى انتخبنا منها تلك الأحاديث.
أصّر بعض المرتابين بإمامة أبي محمد عليهالسلام على تبنّي اعتقادهم حتى بعد سماعهم النص عليه ووفاة أبي جعفر في حياة أبيه ، فقالوا بإمامة أبي جعفر المعروف بالسيد محمد بن الإمام الهادي عليهالسلام وتوقفوا عنده ، واعتقد بعضهم بغيبته وهم المحمدية ، واعتقد آخرون بوفاته وإمامة جعفر بن علي بعده. وهم لم يعتمدوا في ذلك سوى الأراجيف والأباطيل التي كان يبثها ضعاف النفوس والمتربصين بالتشيع ، ولم تكن لديهم في أقوالهم تلك أدنى حجة أو برهان ، ومما يدل على فساد قولهم أمور عديدة ، وهي :
1 ـ عدم وجود النص الذي يثبت مدّعاهم.
2 ـ ثبوت النص على أبي محمد عليهالسلام وولده الإمام المهدي عليهالسلام ، كما في الأحاديث التي قدمناها ، ومنها ما يصرح بالنص على إمامة الإمام الحسن
__________________
(1) كتاب الغيبة / الشيخ الطوسي : 199 / 164.
(2) كتاب الغيبة / الشيخ الطوسي : 199 / 165.
العسكري عليهالسلام في حياة أبي جعفر ، والملاحظ أن النص على أبي محمد عليهالسلام كان في فترات تاريخية تستغرق معظم الاعوام الاثنين والعشرين التي قضاها مع أبيه ، فقد نص عليه بصريا ولمّا يزل صغيراً في المدينة كما مرّ ، ونص عليه بعد وفاة أبي جعفر أي نحو سنة 252 ه ، كما تقدم في جملة من الأحاديث ، ونص عليه قبل وفاته بأربعة أشهر كما في الحديث الأول ، وأخبر بعض أصحابه أن الإمام هو الذي يصلي عليه ، فصلى عليه أبو محمد عليهالسلام ، ونحو هذا مما تقدم في أحاديث النص عليه بالإمامة.
3 ـ ثبوت موت أبي جعفر في حياة أبيه الإمام الهادي عليهالسلام موتاً ظاهراً معروفاً ، وقد ورد خبر موته رضياللهعنه متواتراً(1) . ومن هنا قال : شيخ الطائفة : وأما المحمدية الذين قالوا بإمامة محمد بن علي العسكري وأنه حي لم يمت ، فقولهم باطل لما دللنا به على إمامة أخيه الحسن بن علي أبي القائم عليهالسلام ، وأيضاً فقد مات محمد في حياة أبيه عليهالسلام موتاً ظاهراً ، كما مات أبوه وجده ، فالمخالف في ذلك مخالف في الضرورات(2) ، ثم أورد ما يدلّ على وفاته من الحديث.
4 ـ شهادة المخالفين بإمامة أبي محمد العسكري عليهالسلام وإقرارهم بفضله ، ومنهم المعتمد الذي قصده جعفر الكذاب بعد وفاة أبيه عليهالسلام ملتمساً دعم السلطة له في دعواه الإمامة ، فقال له المعتمد : « إن منزلة أخيك لم تكن بنا ، إنّما كانت
__________________
(1) راجع علي سبيل المثال : أصول الكافي 1 : 326 ـ 328 الأحاديث رقم 5 و 6 و 7 و 8 و 9 و 12 باب الاشارة والنص علي أبي محمد عليهالسلام من كتاب الحجة ، وإكمال الدين : 328 / 8 باب 37 ، وكتاب الغيبة / الشيخ الطوسي : 203 / 170 وغيرها كثير.
(2) الغيبة / الشيخ الطوسي : 198 و 200 ، وراجع ص : 83.
بالله ، ونحن كنا نجتهد في حط منزلته والوضع منه ، وكان الله يأبى إلا أن يزيده كلّ يوم رفعة لما كان فيه من الصيانة ، وحسن السمت ، والعلم والعبادة ، فان كنت عند شيعة أخيك بمنزلته ، فلا حاجة بك إلينا ، وإن لم تكن عندهم بمنزلته ، ولم يكن فيك ما كان في أخيك ، لم نغن عنك في ذلك شيئاً »(1) .
ومن رجال البلاط عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، الذي كان للإمام العسكري عليهالسلام مجلس معه ، فتعجب ابنه أحمد بن عبيد الله لمظاهر الحفاوة والإكرام والتبجيل التي حظي بها الإمام عند أبيه عبيد الله فقال له : « يا أبه من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الاجلال والكرامة والتبجيل وفديته بنفسك وأبيك ؟ فقال عبيد الله ابن خاقان : يا بني ذاك إمام الرافضة ، ذاك الحسن ابن علي المعروف بابن الرضا. فسكت ساعة ، ثم قال : يا بني لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا ، وإن هذا ليستحقّها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً.
قال أحمد : فازددت قلقاً وتفكراً وغيظاً على أبي وما سمعت منه واستزدته في فعله وقوله فيه ما قال : فلم يكن لي همة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره والبحث عن أمره ، فما سألت أحداً من بني هاشم والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس ، إلا وجدته عنده في غاية الاجلال والاعظام والمحل الرفيع والقول الجميل والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه ، فعظم قدره
__________________
(1) إكمال الدين : 479 ـ آخر باب 43 ، الخرائج والجرائح 3 : 1109.
عندي إذ لم أر له ولياً ولا عدواً إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه »(1) .
5 ـ انقراض هذه الفرقة وكذلك تلك التي تفرّعت عنها ، في وقت متقدم من نشأتها ، وفي هذا دليل على بطلانها ، وفي هذا قال الشيخ المفيد : « فلما توفي [ الإمام أبو الحسن عليهالسلام ] تفرّقوا بعد ذلك ، فقال الجمهور منهم بامامة أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام ونقلوا النص عليه وأثبتوه.
وقال فريق منهم : إن الإمام بعد أبي الحسن ، محمد بن علي أخو أبي محمد عليهالسلام ، وزعموا أن أباه علياً عليهالسلام نص عليه في حياته ، وهذا محمد كان قد توفي في حياة أبيه ، فدفعت هذه الفرقة وفاته ، وزعموا أنه لم يمت ، وأنه حيّ ، وهو الإمام المنتظر.
وقال نفر من الجماعة شذوا أيضاً عن الأصل : إن الإمام بعد محمد بن علي ابن محمد بن علي بن موسى عليهالسلام ، أخوه جعفر بن علي ، وزعموا أن أباه نص عليه بعد مضي محمد ، وأنه القائم بعد أبيه.
فيقال للفرقة الاولى : لم زعمتم أن الإمام بعد أبي الحسن عليهالسلام ابنه محمد. وما الدليل على ذلك ؟ فإنّ ادّعوا النص طولبوا بلفظه والحجة عليه ، ولن يجدوا لفظاً يتعلقون به في ذلك ، ولا تواتر يعتمدون عليه ، لأنهم في أنفسهم من الشذوذ والقلّة على حدّ ينفي عنهم التواتر القاطع للعذر في العدد ، مع أنّهم قد انقرضوا ولا بقية لهم ، وذلك مبطل أيضاً لما ادّعوه.
__________________
(1) أصول الكافي 1 : 504 / 1 باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام من كتاب الحجة ، إكمال الدين : 42 مقدمة المؤلف ، الإرشاد 2 : 322 ، روضة الواعظين : 250 ، إعلام الورى 2 : 147.
ويقال لهم في ادعاء حياته ، ما قيل للكيسانية والناووسية والواقفة ، ويعارضون بما ذكرناه ، ولا يجدون فصلاً ، فأما أصحاب جعفر فإنّ أمرهم مبني على إمامة محمد ، وإذا سقط قول هذا الفريق لعدم الدلالة على صحّته وقيامها على إمامة أبي محمد عليهالسلام ، فقد بان فساد ما ذهبوا إليه »(1) .
يمكن تلخيص موقف الإمام العسكري عليهالسلام حيال تلك الشرذمة القليلة التي حاولت عبثاً التشكيك بإمامته ، بأمرين وهما :
بعث الإمام العسكري عليهالسلام عن طريق وكلائه المزيد من الرسائل والوصايا التوجيهية إلى شيعته ومواليه في مختلف ديار الإسلام ، وبعضها مفصلة نسبياً ، وهي تحمل في طياتها الدعوة إلى التمسك بمبادئ الاسلام والعمل بشريعته السامية ، والتعلّق بسبيل الحق المتمثل بولاية أهل البيت عليهمالسلام ، واعتقاد إمامته عليهالسلام (2) . وكان لتلك الرسائل دور فاعل في ازالة شكوك من كان يبحث عن الحجة والبرهان من المرتابين في إمامته عليهالسلام ، وحيثما التقوا بالحجة والبرهان في عمق بصيرتهم ، انفتحوا على نتائج الحقيقة ، فزال شكّهم ، والتحقوا بركب التشيع العريض الواسع.
عن أحمد بن إسحاق ، قال : « دخلت على مولانا أبي محمد الحسن بن علي
__________________
(1) الفصول المختارة / السيد المرتضي : 317 ، دار المفيد ـ 414 ه.
(2) راجع : تحف العقول : 258 وما بعدها ، المناقب لابن شهر آشوب 4 : 458 ـ 459 بحار الأنوار 78 : 370 باب 29.
العسكري عليهالسلام فقال :يا أحمد ، ما كان حالكم فيما كان فيه الناس من الشك والارتياب ؟ فقلت له : يا سيدي لما ورد الكتاب لم يبق منا رجل ولا امرأة ولا غلام بلغ الفهم إلا قال بالحق. فقال عليهالسلام :أحمد الله على ذلك يا أحمد ، أما علمتم أن الأرض لا تخلو من حجة ، وأنا ذلك الحجة ، أو قال :أنا الحجة »(1) .
فقد طالب بعض المشككين الإمام عليهالسلام بالدلالة ، وكان عليهالسلام يستجيب بما اُوتي من الحكمة وفصل الخطاب ، لمن يعتقد أنه يسكن إليها. ويدل عليه ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن القاسم الهروي ، قال : خرج توقيع من أبي محمد عليهالسلام إلى بعض بني أسباط ، قال : « كتبت إليه عليهالسلام أخبره عن اختلاف الموالي وأسأله إظهار دليل. فكتب إليّ :إنّما خاطب الله عزوجل العاقل ، ليس أحد يأتي بآية أو يظهر دليلاً أكثر مما جاء به خاتم النبيين وسيد المرسلين ، فقالوا : ساحر وكاهن وكذاب ، وهدى الله من اهتدى ، غير أن الأدلة يسكن إليها كثير من الناس ، وذلك أن الله عزوجل يأذن لنا فنتكلم ، ويمنع فنصمت ، ولو أحب أن لا يُظهِر حقاً ما بعث النبيين مبشرين ومنذرين ، فصدعوا بالحقّ في حال الضعف والقوة ، وينطقون في أوقات ليقضي الله أمره وينفذ حكمه ».
ثمّ أشار عليهالسلام إلى طبقات الناس في أخلاصهم له أو ابتعادهم عنه ، مبيناً أن بعضهم يعيش البصيرة في عقله وفي قلبه وفي روحه من أجل أن ينجو عندما يقف بين يدي الله ، وهذا متمسك بهدي الإمام وسبيله ، وبعضهم أخذ العلم ممن
__________________
(1) إكمال الدين : 222 / 9 باب 22.
يملك مسؤولية العلم وعمقه وممن لا يملكهما ، أو ممن يملك تقوي الحقيقة وممن لا يملكها ، وهؤلاء مذبذبون ليس لديهم قاعدة ثابتة ينطلقون منها ولا أرض يقفون عليها ، وبعضهم استحوذ عليهم الشيطان فأعمى بصيرتهم ، وليس لهم شأن إلا مواجهة أهل الحق.
قال عليهالسلام : مواصلاً كتابه الأول : « الناس فيَّ طبقات شتّى ، فالمستبصر على سبيل نجاة متمسك بالحق ، متعلق بفرع أصيل ، غير شاك ولا مرتاب ، لا يجد عنه ملجأً ، وطبقة لم تأخذ الحق من أهله ، فهم كراكب البحر يموج عند موجه ، ويسكن عند سكونه. وطبقة استحوذ عليهم الشيطان ، شأنهم الردّ على أهل الحقّ ودفع الحقّ بالباطل ، حسداً من عند أنفسهم ، فدع من ذهب يميناً وشمالاً ، فالراعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها في أهون السعي.
ذكرت ، ما اختلف فيه مواليّ ، فإذا كانت الوصية والكبر فلا ريب ، ومن جلس مجالس الحكم فهو أولى بالحكم ، احسن رعاية من استرعيت ، وإياك والاذاعة وطلب الرئاسة ، فانهما يدعوان إلى الهلكة.
ذكرت شخوصك إلى فارس ، فاشخص خار الله لك ، وتدخل مصر إن شاء الله آمناً ، واقرأ من تثق به من موالي السلام ، ومرهم بتقوى الله العظيم ، وأداء الأمانة ، وأعلمهم أن المذيع علينا حرب لنا. قال : فلما قرأت : وتدخل مصر إن شاء الله ، لم أعرف معنى ذلك ، فقدمت إلى بغداد ، وعزيمتي الخروج إلى فارس ، فلم يتهيأ ذلك فخرجت إلى مصر »(1) .
__________________
(1) إثبات الوصية : 247 ، الخرائج والجرائح 1 : 448 / 35 ، بحار الأنوار 50 : 296 / 70.
وهكذا كان عليهالسلام يثبت إمامته لبعض المشككين باظهار الدلالة ، مما يسكّن قلوبهم ، ويكون له الأثر في هدايتهم إلى سواء السبيل.
روى علي بن جعفر عن الحلبي ، قال : « اجتمعنا بالعسكر وترصدنا لأبي محمد عليهالسلام يوم ركوبه ، فخرج توقيعه :ألا لا يسلمنّ عليّ أحد ، ولا يشير إليّ بيده ولا يؤمئ ، فانكم لا تأمنون على أنفسكم. قال : وإلى جنبي شاب فقلت : من أين أنت ؟ قال : من المدينة. قلت : ما تصنع هاهنا ؟ قال : اختلفوا عندنا في أبي محمد عليهالسلام فجئت لأراه وأسمع منه ، أو أرى منه دلالة ليسكن قلبي ، وإني لولد أبي ذرّ الغفاري.
فبينما نحن كذلك ، إذا خرج أبو محمد عليهالسلام مع خادم له ، فلما حاذانا نظر إلى الشاب الذي بجنبي. فقال :أغفاري أنت ؟ قال : نعم. قال :ما فعلت اُمك حمدويه ؟ فقال : صالحة ، ومرّ. فقلت للشاب : أكنت رأيته قط وعرفته بوجهه قبل اليوم ؟ قال : لا. قلت : فينفعك هذا ؟ قال : ودون هذا »(1) .
وعن يحيى بن المرزبان ، قال : « التقيت مع رجل من أهل السيب سيماه الخير ، فأخبرني أنه كان له ابن عم ينازعه في الإمامة والقول في أبي محمد عليهالسلام وغيره ، فقلت : لا أقول به أو أرى منه علامة ، فوردت العسكر في حاجة فأقبل أبو محمد عليهالسلام فقلت في نفسي متعنتاً : ان مدّ يده إلى رأسه ، فكشفه ثمّ نظر إليّ ورده قلت به. فلما حاذاني مدّ يده إلى رأسه فكشفه ، ثم برق عينيه فيّ ثم ردّها ، وقاليا يحيى ، ما فعل ابن عمك الذي تنازعه في الإمامة ؟ فقلت : خلّفته
__________________
(1) الخرائج والجرائح 1 : 439 / 20 ، بحار الأنوار 50 : 269 / 24.
صالحاً. فقال :لا تنازعه ، ثم مضىٰ »(1) .
كما كان عليهالسلام يحذّر من لايعتقد بإمامته إلا ببرهان ثم يعطى ذلك ويبقى على عناده بمصير وخيم يوم يفد على الله فرداً بلا ناصر أو معين.
روى المسعودي بالاسناد عن الربيع بن سويد الشيباني ، قال : حدثني ناصح البارودي ، قال « كتبت إلى أبي محمد عليهالسلام اُعزيه بأبي الحسن عليهالسلام وقلت في نفسي وأنا أكتب : لو قد خبر ببرهان يكون حجة لي. فأجابني عن تعزيني ، وكتب بعد ذلك :من سأل آية أو برهاناً فاُعطي ، ثمّ رجع عمن طالب منه الآية ، عذب ضعف العذاب ، ومن صبر أعطي التاييد من الله ، والناس مجبولون على جبلة إيثار الكتب المنشرة ، فاسأل السداد ، فإنّما هو التسليم أو العطب ، ولله عاقبة الأمور » (2) .
* * *
__________________
(1) الخرائج والجرائح1 : 440 / 21 ، بحار الأنوار 50 : 270 / 25.
(2) إثبات الوصية : 247 ، تحف العقول : 360 مختصراً.
الفصل الخامس
منزلته عليهالسلام ومكارم أخلاقه
حظي الإمام العسكري عليهالسلام كسائر آبائه المعصومين عليهمالسلام بمنزلة رفيعة ومكانة اجتماعية مرموقة ، تتمثّل بوافرٍ من مظاهر التعظيم والتبجيل والاحترام التي يكنّها له غالب من عاصره بمن فيهم الذين خاصموه وناوؤه وسجنوه ، وذلك للدرجات العالية من صفات الكمال ومعالي الأخلاق التي يتحلّى بها من العبادة والعلم والحلم والزهد والكرم والشجاعة وغيرها من مظاهر العظمة التي ميزت شخصه الكريم.
ولو استعرضنا ما نقله كتّاب سيرته عليهالسلام يتبيّن لنا سموّ مكانته في المجتمع الاسلامي آنذاك ، وأنّ أعداءه وأصدقاءه أجمعوا على تعظيمه وتقديره وإكباره ، بما في ذلك الوزراء والقوّاد والقضاء والفقهاء وطبقات المجتمع كلّها.
وهناك وثيقة تاريخية معتبرة تنقل لنا بعض أجواء ومظاهر ذلك التقدير والاحترام والمكانة والإجلال ، صادرة من بعض رجال الدولة ، وهو أحمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، عامل السلطان على الضياع والخراج في قم ، وكان
أبوه وزير المعتمد(1) ، فقد جرىٰ يوماً ذكر العلوية ـ أي المنتسبين إلى الإمام علي عليهالسلام ـ ومذاهبهم ، وكان شديد النصب والانحراف عن أهل البيت عليهمالسلام ـ والفضل ما شهدت به الأعداء ـ فقال : « ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا في هَديه وسكونه وعفافه ونبله وكبرته عند أهل بيته وبني هاشم كافة ، وتقديمهم إياه على ذوي السنّ منهم والخطر ، وكذلك كانت حاله عند القواد والوزراء وعامة الناس ».
فأنت ترى أن له عليهالسلام امتداداً من التعظيم في مواقع المجتمع كلّها ، سواء الذين يدينون بإمامته أو الذين يقفون ضدها ، وهو أمر يستحقّ التأمّل ، فكيف يستطيع شاب في مقتبل العمر أن يحظىٰ بالتقديم على ذوي السن والخطر ؟ وأن يتمتع بهذه المنزلة العالية والمكانة الكبيرة عند القواد والوزراء ، وعامة الناس ، وهو في خط مضاد لموقع الخلافة ، بل ويزدحم حوله الذين ينصبون له ولآبائه عليهمالسلام العداوة ويكنّون لهم البغضاء ؟ لقد فرض الإمام عليهالسلام نفسه على الواقع كلّه ، بسموّه الروحي والخلقي ، وعناصر العظمة التي يختزنها في شخصه ، ونشاطه الحركي في أوساط الاُمّة.
ويتابع ابن خاقان حديثه فيقول : « فأذكر أنني كنت يوماً قائماً على رأس أبي ، وهو يوم مجلسه للناس ، إذ دخل حجّابه فقالوا : أبو محمد ابن الرضا بالباب ، فقال بصوتٍ عالٍ : ائذنوا له ، فتعجّبت ممّا سمعت منهم ، ومن جسارتهم
__________________
(1) وهو عبيد الله بن يحيى بن خاقان التركي ، ولد سنة 209 ه ، واستوزره المتوكل والمعتمد ، واستمر في الوزارة إلى أن توفّي سنة 263 ه ، وكان عاقلاً سمحاً جواداً حازماً. سير أعلام النبلاء 13 : 9 / 5 ، أعلام الزركلي 4 : 198.
أن يكنّوا رجلاً بحضرة أبي ، ولم يكن يُكنّى عنده إلا خليفة ، أو وليّ عهد ، أو من أمر السلطان أن يكنّى » ذلك لأن ذكر الكنية مظهر من مظاهر التكريم والإجلال ، فكيف يكنّى رجل بحضرة الوزير ، وليس هو خليفة ولا ولي عهد ولا ممن أمر السلطان بتكنيته ؟ إنّه أمر ملفت للنظر ومثير للتعجّب.
ويواصل فيقول : « فدخل رجل أسمر ، حسن القامة ، جميل الوجه ، جيد البدن ، حديث السنّ ، له جلالة وهيئة حسنة ، فلما نظر إليه أبي قام فمشىٰ إليه خُطىً ، ولا أعلمه فَعَل هذا بأحدٍ من بني هاشم والقوّاد ، فلمّا دنا منه عانقه وقبّل وجهه وصدره ، وأخذ بيده ، وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه ، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه ، وجعل يكلّمه ويفدّيه بنفسه ، وأنا متعجّب مما أرى منه ، إذ دخل الحاجب فقال : الموفق ـ وهو أخو المعتمد العباسي ـ قد جاء ، وكان الموفّق إذا دخل على أبي يقدمه حجّابه وخاصّه قوّاده ، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سِماطين إلى أن يدخل ويخرج ، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد يُحدّثه حتى نظر إلى غلمان الخاصة فقال حينئذٍ له : إذا شئتَ جعلني الله فداك ، ثم قال لحجّابه : خذوا به خلف السماطين لا يراه هذا ـ يعني الموفق ـ فقام وقام أبي فعانقه ومضى.
فقلت لحجّاب أبي وغلمانه : ويلكم من هذا الذي كنّيتموه بحضرة أبي ، وفعل به أبي هذا الفعل ؟ فقالوا : هذا علويّ يقال له : الحسن بن علي ، يعرف بابن الرضا ، فازددت تعجّباً ، ولم أزل يومي ذلك قلقاً مفكراً في أمره وأمر أبي وما رأيته منه حتى كان الليل ، وكانت عادته أن يصلّي العتمة ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات ـ أي المراجعات ـ وما يرفعه إلى السلطان.
فلما صلى وجلس جئت فجلست بين يديه ، وليس عنده أحد ، فقال لي : يا أحمد ، ألك حاجة ؟ فقلت : نعم يا أبه ، فإن أذنت سألتك عنها ، فقال : قد أذنت. قلت : يا أبه ، من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل وفدّيته بنفسك وأبويك ؟
فقال : يا بني ذاك إمام الرافضة الحسن بن علي ، المعروف بابن الرضا ، ثم سكت ساعة وأنا ساكت ، ثم قال : يا بني ، لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العباس ، ما استحقّها أحد من بني هاشم غيره ، لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه ، ولو رأيت أباه ، رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً ، فازددت قلقلاً وتفكّراً وغيظاً على أبي وما سمعت منه فيه ، ورأيت من فعله به ، فلم يكن لي هِمّة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره والبحث عن أمره. فما سألت أحداً من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلا وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحلّ الرفيع والقول الجميل والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه ، فعظم قدره عندي ، إذ لم أر له ولياً ولا عدوّاً إلا وهو يُحسن القول فيه والثناء عليه »(1) .
ولسنا نريد من خلال شهادة أحد رجال الدولة أن ندخل في تقييم الإمام لمجرد أنّ هذا الرجل شهد له ، لأنّه عليهالسلام يختص من موقع إمامته بالدرجة الرفيعة عند الله ، ويتمتّع بملكات قدسية في جميع جوانب المعرفة والروحانية والصلاح
__________________
(1) أصول الكافي 1 : 503 / 1 باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام من كتاب الحجة ، إكمال الدين : 40 ـ مقدمة المصنف ، الإرشاد 2 : 321 ، روضة الواعظين : 249 ، إعلام الورى 2 : 147.
والخلق الرفيع ، وهي التي جعلت هذا الرجل وسواه يذعن لشخصيته عليهالسلام ويظهر له الإكبار والاحترام والثناء.
الذي نريد أن نقوله من خلال هذه الشهادة ، أنه ليس ثمة شخصية كبيرة وفاعلة في المجتمع إلا وهناك من يسيء القول فيها ، كما أنّ هناك من يحسن القول فيها ، لكننا نجد أنّ الغالبية العظمى قد اتفقت على تقدير الإمام عليهالسلام واحترامه وإجلاله ، وعلى حسن القول فيه ، بحيث أخذ بمجامع قلوب وعقول الأعداء والأصدقاء ، هذا مع أنه عليهالسلام عاش في مجتمع يقف من الناحية الرسمية ضد خطّ ولايته ، ويعمل على محاصرته ويضيق عليه ويسعى إلى أن ينقص من قدره.
وتلك المنزلة لم تكن مفروضة بقوة السلاح وصولة السلطان ، ولا هي وليدة التعاطف الجماهيري العفوي مع الإمام عليهالسلام ، بل هي إحدى مظاهر التسديد الإلهي الذي لا تعمل معه جميع محاولات السلطة الساعية إلى الحطّ من منزلته والوضع منه ، الأمر الذي اعترف به رأس السلطة آنذاك.
فقد روى الشيخ الصدوق والقطب الراوندي أنه ورد في ردّ الخليفة المعتمد على جعفر الكذاب حينما جاء بعد وفاة أخيه الإمام عليهالسلام يطلب مرتبته ، قوله : « إن منزلة أخيك لم تكن بنا ، إنّما كانت بالله ، ونحن كنا نجتهد في حطّ منزلته والوضع منه ، وكان الله يأبى إلا أن يزيده كلّ يوم رفعة لما كان فيه من الصيانة وحسن السمت والعلم والعبادة »(1) .
ويقع بعض النصارى في دائرة التقدير والاحترام للإمام عليهالسلام ، ومنهم أحد رجال الدولة الذي كان يتولّى الكتابة للسلطان ، واسمه أنوش النصراني ، الذي
__________________
(1) إكمال الدين : 479 ـ آخر باب 43 ، الخرائج والجرائح3 : 1109.
سأل السلطان أن يدعو الإمام عليهالسلام إلى بيته ليشارك في مناسبة خاصة يدعو فيها لولديه بالسلامة والبقاء ، فأرسل السلطان خادماً جليل القدر إلى دار الإمام كي يدعوه إلى حضور دار كاتبه أنوش ، فأخبر الخادم الإمام عليهالسلام أن أنوش يقول : « نحن نتبرك بدعاء بقايا النبوة والرسالة. فقال الإمام عليهالسلام :الحمد لله الذي جعل النصراني أعرف بحقنا من المسلمين. ثم قال :اسرجوا لنا. فركب حتى ورد دار أنوش ، فخرج إليه مكشوف الرأس ، حافي القدمين ، وحوله القسيسون والشمامسة(1) والرهبان ، وعلى صدره الانجيل ، فتلقّاه على باب داره وقال : يا سيدنا ، أتوسل إليك بهذا الكتاب الذي أنت أعرف به منا إلا غفرت لي ذنبي في عنائك. وحق المسيح عيسىٰ بن مريم وما جاء به من الانجيل من عند الله ، ما سألت أمير المؤمنين مسألتك [ في ] هذا إلا لأنّا وجدناكم في هذ الانجيل مثل المسيح عيسىٰ بن مريم عند الله. فقال عليهالسلام :الحمدُ لله »(2) .
ولعلّ أبرز وأصدق مظاهر التبجيل والتعظيم التي تعبّر عن مكانة الإمام عليهالسلام عند سائر الناس ، هو ازدحام الناس على جنازته عليهالسلام إلى حدّ وصفه بعض الرواة بالقيامة ، فقد قال أحمد بن عبيد الله ابن خاقان في حديثه الذي قدّمناه : « لمّا ذاع خبر وفاته صارت سرّ من رأى ضجّه واحدة ( مات ابن الرضا ). وعطلت الاسواق ، وركب بنو هاشم والقوّاد والكتّاب وسائر الناس
__________________
(1) الشسامة : جمع شماس ، وهو خادم الكنيسة بالسريانية.
(2) مدينة المعاجز / السيد هاشم البحراني 7 : 670 / 2655 عن الهداية الكبرى للخصيبي.
الى جنازته ، فكانت سرّ من رأى يومئذٍ شبيهاً بالقيامة »(1) .
يحظى الإمام العسكري عليهالسلام بهيبة حقيقية فرضت نفسها على الناس وسواهم من خلال اجتماع الملكات الروحانية ومقومات الصلاح والاخلاص والخلق الرفيع فيه عليهالسلام .
وقد جاء عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال :« المؤمن يخشع له كلّ شيء ويهابه كلّ شيء » وقال عليهالسلام :« إذا كان مخلصاً أخاف الله منه كلّ شيء حتى هوام الأرض والسباع وطير الهواء » (2) . فهذا حال المؤمن المخلص ودرجته ، فكيف إذا كان إماماً معصوماً وحجةً على الخلق ؟
قال القطب الراوندي في صفة الإمام العسكري : « له بسالة تذلّ لها الملوك ، وله هيبة تسخّر له الحيوانات كما سخّرت لآبائه عليهمالسلام بتسخير الله لهم إياها ، دلالة وعلامة على حجج الله ، وله هيئة حسنة ، تعظّمه الخاصة والعامة اضطراراً ، ويبجّلونه ويقدّرونه لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وصلاحه وإصلاحه »(3) .
من هنا فقد وصف أحد خَدَم الإمام عليهالسلام في حديث له ، حضور الناس يوم ركوبه عليهالسلام إلى دار الخلافة في كلّ اثنين وخميس ، بأن الشارع كان يغصّ
__________________
(1) أصول الكافي 1 : 505 / 1 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام من كتاب الحجة ، إكمال الدين : 43 ـ المقدمة ، الإرشاد 2 : 324.
(2) الدعوات / الراوندي : 227.
(3) الخرائج والجرائح 2 : 901.
بالدواب والبغال والحمير ، بحيث لا يكون لأحد موضع قدم ، ولا يستطيع أحد أن يدخل بينهم ، فإذا جاء الإمام عليهالسلام هدأت الأصوات وسكنت الضجّة وتفرّقت البهائم وتوسّع له الطريق حين دخوله وخروجه(1) .
وقد امتدت آثار هيبته عليهالسلام حتى إلى ساجنيه ، فكانوا يرتعدون خوفاً وفزعاً بمجرد أن ينظر إليهم ، حيث قال بعض الأتراك الموكلون به في سجن صالح ابن وصيف : « ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله ، ولا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة ، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا »(2) .
نأتي هنا إلى ذكر مقومات تلك المنزلة والهيبة التي تتمثل بالملكات القدسية والخصال الروحانية التي اجتمعت في شخصه عليهالسلام من العلم والعبادة والزهد والكرم والشجاعة وغيرها من معالي الفضيلة وعناصر العظمة التي تحلّىٰ بها أهل هذا البيت عليهمالسلام.
وقد وصفه أبوه علي الهادي عليهالسلام بقوله :« أبو محمد ابني أنصح آل محمد غريزة ، وأوثقهم حجة وهو الخلف ، وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها » (3) .
__________________
(1) راجع الحديث في غيبة الشيخ الطوسي : 215 / 179.
(2) أصول الكافي 1 : 512 / 23 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام من كتاب الحجة ، الإرشاد 2 : 334.
(3) أصول الكافي 1 : 327 / 11 ـ باب الاشارة والنص على أبي محمد عليهالسلام من كتاب الحجة.
وشهد له عليهالسلام بخلال الفضل ومعالي الأخلاق بعض المعاصرين له وغيرهم ، ومنهم وزير المعتمد عبيد الله بن يحيى بن خاقان ( ت 263 ه ) الذي وصفه فيما تقدم بالفضل والعفاف والهدي والزهد والعبادة وجميل الأخلاق والصلاح والنبل.
وذكر ابن أبي الحديد عن أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ( ت 255 ه ) في تعداد صفاته وصفات آبائه المعصومين عليهمالسلام قوله : « من الذي يعدّ من قريش أو من غيرهم ما يعدّه الطالبيون عشرة في نسق ؛كل واحد منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاكٍ ؟ فمنهم خلفاء ، ومنهم مرشّحون : ابن ابن ابن ابن ، هكذا إلى عشرة ، وهم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي عليهمالسلام ، وهذا لم يتّفق لبيتٍ من بيوت العرب ولا من بيوت العجم »(1) .
وذلك لأنهم غرس النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وفرعه النامي ، ومنه استوحوا رساليته وروحانيته وأخلاقيته ، وتجسدت فيهم شخصيته ، فكانوا اختصاراً لجميع عناصر الأخلاقية والروحية والانسانية ، وصاروا رمزاً للفضيلة والمروءة وقدوةً صالحة للانسانية.
قال قطب الدين الراوندي : « أما الحسن بن علي العسكري عليهالسلام ، فقد كانت خلائقه كأخلاق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان جليلاً نبيلاً فاضلاً كريماً ، يحتمل الأثقال ولا يتضعضع للنوائب أخلاقة على طريقة واحدة ، خارقة
__________________
(1) شرح نهج البلاغة 15 : 278.
للعادة »(1) .
وفيما يلي نذكر ما يسمح به المقام من مناقبة الفذّة وخصاله الفريدة :
كان الإمام العسكري عليهالسلام أعلم أهل زمانه ، وقد بدت عليه مظاهر العلم والمعرفة منذ حداثة سنه ، فقد روى المؤرخون « أنه رآه بهلول(2) وهو صبي يبكي والصبيان يلعبون ، فظنّ أنه يتحسّر على ما في أيديهم ، فقال : اشتري لك ما تلعب به ؟ فقال :ما للعب خُلِقنا. فقال له : فلماذا خلقنا ؟ قال :للعلم والعبادة. فقال له : من أين لك هذا ؟ قال :من قوله تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) (3) ثمّ وعظه بأبيات من الشعر حتى خرّ مغشياً عليه »(4) .
وشهد للإمام عليهالسلام برجاحة العلم طبيب البلاط بختيشوع ، وكان ألمع شخصية في علم الطبّ في عصره ، فقد احتاج الإمام عليهالسلام إلى طبيب فأرسل اليه
__________________
(1) الخرائج والجرائح 2 : 901.
(2) لعلّ المراد به بهلول بن إسحاق بن بهلول ( 204 ـ 298 ه ) أو أخوه المعروف بابن بهلول ، وهو أحمد بن إسحاق بن بهلول ( 231 ـ 318 ه ) وكلاهما من العلماء المعاصرين له. عليهالسلام راجع : سير أعلام النبلاء 13 : 535 / 268 و 14 : 497 / 281 ، أعلام الزركلي 1 : 95.
(3) سورة المؤمنون : 23 / 115.
(4) راجع : إحقاق الحق 12 : 473 و 19 : 620 و 29 : 65 عن عدة مصادر منها : الصواعق المحرقة لابن حجر ، ونور الأبصار للشبلنجي ، ووسيلة المآل للحضرمي ، وروض الرياحين لعفيف الدين اليافعي وغيرها.
بختيشوع بعض تلامذته وأوصاه قائلاً : « طلب مني ابن الرضا من يفصده ، فصر إليه ، وهو أعلم في يومنا هذا بمن هو تحت السماء ، فاحذر أن لا تعترض عليه فيما يأمرك به »(1) .
واستطاع الإمام عليهالسلام بعلمه الذي لا يجارى وفكره الثاقب ونظره الصائب أن يكشف الحقائق ويظهر الدقائق ، ومن ذلك أن السلطة أخرجته من السجن بعد أن شكّ الناس في دينهم وصبوا إلى دين النصرانية ، لأن أحد الرهبان كان يستسقي فيهطل المطر ، بينما يستسقي المسلمون فلم يسقوا ، فكشف الإمام عليهالسلام عن حيلة الراهب الذي كان يُخفي عظماً لأحد الأنبياء عليهمالسلام بين أصابعه ، فأزال الشك عن قلوب الناس وهدأت الفتنة(2) .
قال الحرّ العاملي في ارجوزته :
وفي حديث الراهب النصراني |
معجـزة من أوضح البرهانِ |
|
إذ كان في الحبس فصار جدب |
وكان سؤال المسلمين الخصب |
|
فخرجوا يدعون للاستسقا |
ثلاثة والأرض ليس تسقي |
|
فخرج الراهـب والنصاري |
يستمطرون الصيّب المـدرارا |
|
فجـاءهم غيثٌ غزيـر هاطل |
وكلّمـا دعوا أجاب الوابل |
|
فافتتن النـاس وراموا الـردّة |
لـمّا رأوا مـن فرجٍ وشـدّة |
|
فطلـبوا الإمام حتى خرجا |
ثمّ دعـا الله فنـال الفرجا |
|
وعندمـا أراد يدعـو الراهب |
وقرب الغيث وفاز الطالب |
__________________
(1) الخرائج والجرائح 1 : 422 / 3 ، بحار الأنوار 50 : 260 / 21.
(2) راجع تخريجات الحادثة في آخر الفصل الثاني.
أمر عبده الإمام فأخذ |
من يده عظماً فعندهما نبذ |
|
انقشع الغيم وزال المطر |
وزال عن دين الإله الخطر |
|
قال الإمام إنه عظم نبيّ |
فليس ما رأيتم بعجبِ |
|
إذ كلّما أظهر للسماء |
أمطرت الغيث بلا دعاء(1) |
وللإمام عليهالسلام رصيد علمي وعطاء معرفي على صعيد ترسيخ أصول الاعتقاد والأحكام والشرائع ، والتصدي لبعض الدعوات المنحرفة والشبهات الباطلة ، سنأتي إلى ذكره في الفصل السادس باذن الله.
كان دأب الإمام العسكري عليهالسلام التوجّه إلى الله تعالى والانقطاع إليه في أحلك الظروف وأشدّها ، فقد كان يحيى الأيام التي أمضاها في السجن بالصيام والصلاة وتلاوة القرآن على رغم التضييق عليه.
قال الموكلون به في سجن صالح بن وصيف : « أنه يصوم النهار ويقوم الليل كلّه لا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة »(2) .
وحينما أودع في سجن علي بن جرين ، كان المعتمد يسأله عن أخباره في كلّ وقت ، فيخبره أنه يصوم النهار ويصلي الليل(3) .
وكان عليهالسلام معروفاً بطول السجود ، فقد روي عن أحد خدمه المعروف
__________________
(1) إحقاق الحق 12 : 462 ـ 463.
(2) أصول الكافي 1 : 512 / 23 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام من كتاب الحجة ، الإرشاد 2 : 334.
(3) إثبات الوصية : 252 ، مهج الدعوات : 343 ، بحار الأنوار 50 : 314.
بمحمد الشاكري أنه قال : « كان استاذي أصلح من رأيت من العلويين والهاشميين كان يجلس في المحراب ويسجد ، فأنام وانتبه وأنام وهو ساجد »(1) .
كان الإمام العسكري عليهالسلام مثالاً للزهد والاعراض عن زخارف الدنيا وحطامها ، والرغبة فيما أعدّه الله له في دار الخلود من النعيم والكرامة.
قال كامل بن إبراهيم المدني ، وهو أحد أصحابه عليهالسلام : « لما دخلت على سيّدي أبي محمد عليهالسلام نظرت إلى ثياب بياض ناعمة عليه ، فقلت في نفسي : وليّ الله وحجّته يلبس الناعم من الثياب ، ويأمرنا نحن بمواساة الإخوان وينهانا عن لبس مثله ؟ فقال : متبسماً :يا كامل ـ وحسر عن ذراعية ، فإذا مسح أسود خشن على جلده ـهذا لله وهذا لكم »(2) .
وجاء في حديث خادمه محمد الشاكري « أنه عليهالسلام كان قليل الأكل ، وكان يحضره التين والعنب والخوخ وما شاكله ، فيأكل منه الواحدة والثنتين ، ويقول :شل هذا يا محمد إلى صبيانك ، فأقول : هذا كلّه ؟ فيقول :خذه »(3) .
كان الإمام العسكري عليهالسلام معروفاً بالسماحة والبذل ، وهي خصلة بارزة في سيرته وسيرة آبائه المعصومين عليهمالسلام. قال خادمه محمد الشاكري : « ما رأيت قطّ
__________________
(1) الغيبة / الشيخ الطوسي : 217 / 179 ، بحار الأنوار 50 : 253.
(2) الغيبة / الشيخ الطوسي : 247 / 216.
(3) الغيبة / الشيخ الطوسي : 217 / 179.
اسدىٰ منه ». وقال الشيخ الطوسي : « كان عليهالسلام مع إمامته من أكرم الناس وأجودهم »(1) .
وكان عليهالسلام يحثّ أصحابه على المعروف ، فقد روى أبو هاشم الجعفري عنه عليهالسلام أنه قال :« إن في الجنّة باباً يقال له المعروف ، لا يدخله إلا أهل المعروف ، قال : فحمدت الله تعالى في نفسي وفرحت بما أتكلّف به من حوائج الناس ، فنظر إليّ أبو محمد عليهالسلام فقال :نعم فَدُم على ما أنت عليه ، فإن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ، جعلك الله منهم يا أبا هاشم ورحمك » (2) .
وسجل الإمام العسكري عليهالسلام دوراً بارزاً في الانفاق والبذل في سبيل الله وإعانة المعوزين والضعفاء من أبناء المجتمع الاسلامي آنذاك ، رغم حالة الحصار والتضييق الذي مارسته السلطة ضدّه ، وكان مصدر تلك العطاءات والمساعدات الأموال والحقوق الشرعية التي تجلب إليه أو إلى وكلائه من مختلف بقاع الاسلام التى تحتوي على قواعد شعبية تدين بإمامته ، وكان يسدّ بها حاجة ذوي الفاقة على قدر ما يزيل عنهم حالة العوز دون إسراف في العطاء والبذل ، فهو عليهالسلام يقول :« إن للسخاء مقداراً ، فإن زاد عليه فهو سرف » (3) .
ومن جملة عطاءاته التي سجلتها كتب الحديث ، أنه أعطى علي بن إبراهيم ابن موسى بن جعفر مائتي درهم للكسوة ، ومائتي درهم للدَّين ، ومائة درهم
__________________
(1) الغيبة / الشيخ الطوسي : 217.
(2) المناقب / لابن شهر آشوب 4 : 464 ، الفصول المهمة 2 : 1082.
(3) بحار الأنوار 78 : 377 / 3.
للنفقة ، وأعطى لابنه محمد بن علي بن إبراهيم مائة درهم في ثمن حمار ، ومائة للكسوة ، ومائة للنفقة(1) .
وشكا إليه أبو هاشم الجعفري الحاجة فأعطاه مرة خمسمائة دينار ، وأرسل إليه مرة اُخرى مائة دينار حينما أخلي سبيله من السجن(2) .
وشكا إليه إسماعيل بن محمد بن علي بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس الفاقة والحاجة ، فأعطاه مائة دينار(3) .
وأعطى برذونه الكميت إلى على بن زيد بن علي بن الحسين بعد موت فرسه(4) ، وأكرمه مائة دينار في ثمن جارية بعد أن ماتت جاريته(5) .
ووهب حمزة بن محمد بن أحمد بن علي بن الحسين ثلاثمائة دينار ، وكان مصاباً بالشلل ، على رغم عدم قوله بإمامته عليهالسلام (6) .
وبعث إلى عمرو بن أبي مسلم خمسين ديناراً على يد محمد بن سنان الصوّاف في ثمن جارية(7) ، وغير ذلك كثير.
* * *
__________________
(1) أصول الكافي 1 : 506 / 3 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام من كتاب الحجة.
(2) أصول الكافي 1 : 507 / 5 و 508 / 10 من الباب المتقدم.
(3) أصول الكافي 1 : 509 / 14 من الباب المتقدم.
(4) أصول الكافي 1 : 510 / 15 من الباب المتقدم.
(5) بحار الأنوار 50 : 264 / 23.
(6) الثاقب في المناقب : 573 / 520.
(7) بحار الأنوار 50 : 282 / 58 ، عن فرج المهموم لابن طاوُس.
الفصل السادس
عطاؤه العلمي
على رغم إقصاء الإمام العسكري عليهالسلام عن موقعه الريادي والقيادي ، فقد استطاع أن ينهض بمهمته الرسالية ، فكان له رصيد علمي وعطاء معرفي واسع ، حيث واصل نشاط مدرسة آبائه المعصومين عليهمالسلام من حيث المنهج والمصدر والمادة ، ومهّد لمدرسة الفقهاء والمحدثين من أصحابه التي سارت على خطاها ، فكان له دورٌ بارزٌ في رفد تلك المدرسة بالمادة العلمية اللازمة على مختلف الأصعدة ، سيما في مجال ترسيخ أصول الاعتقاد ، وإيصال سنن جده المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الأمة في أحلك الظروف أقساها ، وقد نسبت إليه بعض الآثار في هذا الاتجاه ، كما أعدّ جيلاً من الأصحاب الثقات الذين رفدوا الواقع الشيعي بمصادر يستقى منها العلم ومناهل تؤخذ منها المعرفة ، وكان بعضها يعرض عليه لينال تصحيحه وتوثيقه ، وتصدى الإمام عليهالسلام لبعض الدعوات المنحرفة والشبهات الباطلة التي تشكل موطن خطرٍ على الرسالة وبيّن زيفها وبطلانها ، فأسهم في إنقاذ الاُمة من حالة التعثّر في مهاوي الضلال والانحراف. وفيما يلي نقف عند بعض تلك العطاءات في المباحث التالية :
نحاول هنا إثارة بعض الكلمات التي وردت عن الإمام العسكري عليهالسلام في شؤون العقيدة والكلام ، وما يتصل بذلك من التمهيد لغيبة ولده الحجة المهدي عليهالسلام ، وملاحظة بعض الأفكار المنحرفة لردّها وتفنيدها ، وكما يلي :
ففي باب التوحيد لم يدع الإمام عليهالسلام مناسبة دون أن يوجه أصحابه إلى التوحيد الخالص والتحذير من رواسب الشرك مهما دقّت وصغرت ، ومن ذلك ما رواه أبو هاشم الجعفري قال : « سمعت أبا محمد عليهالسلام يقول :من الذنوب التي لا تغفر قول الرجل : ليتني لا اؤاخذ إلا بهذا ، فقلت في نفسى : إن هذا لهو الدقيق ، ينبغي للرجل أن يتفقّد من أمره ومن نفسه كلّ شيء ».
فكأنّ الإمام عليهالسلام عرف ما في نفسه ، وهناك أحاديث كثيرة عنه وعن آبائه عليهمالسلام تذكر أنّ بعض الناس كان يسمع الجواب من الإمام وهو يفكرّ ، أي لم يطرح السؤال بعد ، حيث إنّ الملكة القدسية تجعله عليهالسلام يعرف ما يضمرون من قبل ان يتحدّثوا به. فقال عليهالسلام :« يا أبا هاشم ، صدقت فالزم ما حدّثت به نفسك ، فإنّ الاشراك في الناس أخفى من دبيب الذرّ على الصفا في الليلة المظلمة ، ومن دبيب الذرّ على المسح الأسود » (1) .
وكان الجدل يدور في صفات الله تعالى منذ عهد الإمام الباقر عليهالسلام حتى عهد الإمام العسكري عليهالسلام ، ولعلّ أبرز المسائل التي كانت مدار البحث والجدل هي
__________________
(1) الغيبة / الشيخ الطوسي : 207 / 176 ، الثاقب في المناقب : 567 / 509 ، إثبات الوصية : 249 ، الخرائج والجرائح 2 : 688 / 11.
مسألة الرؤية والتجسيم والتصوير ، وكان منهج الأئمة عليهالسلام هو أنهم يتحدثون بلغة القرآن وباُسلوبه وبمفرادته في العقيدة ، ليوجّهوا الناس إلى الأخذ بالعناوين الكبرى في العقيده من القرآن الكريم لا من غيره.
فعن يعقوب بن إسحاق ، قال : « كتبت إلى أبي محمد عليهالسلام أسأله : كيف يعبد العبد ربّه وهو لا يراه ؟ فوقّع عليهالسلام :يا أبا يوسف ، جل سيدي ومولاي والمنعم عليّ وعلى آبائي أن يُرى ».
قال : وسألته : « هل رأى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ربه ؟ فوقّع عليهالسلام :إنّ الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحبّ » (1) .
وعن سهل بن زياد ، قال : « كتب إلى أبي محمد عليهالسلام سنة خمس وخمسين ومائتين : قد اختلف يا سيدي أصحابنا في التوحيد » وهذا يدلّ على أن الجدل الكلامي في التوحيد كان يدور حتى في أوساط أتباع أهل البيت عليهمالسلام « فمنهم من يقول هو جسم ، ومنهم من يقول : هو صورة ، فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه ، فعلت متطولاً على عبدك ؟ » والعبودية هنا من باب التواضع.
« فوقّع بخطّه عليهالسلام :سألت عن التوحيد ، وهكذا منكم معزول ، الله واحد أحد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، خالق وليس بمخلوق ، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك وليس بجسم ، ويصور ما يشاء وليس بصورة جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه أن يكون له شبه ، هو
__________________
(1) أصول الكافي 1 : 95 / 1 ـ باب ابطال الرؤية من كتاب التوحيد ، التوحيد / الشيخ الصدوق : 108 / 2 ـ باب ما جاء في الرؤية.
لا غيره ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير » (1) .
فلقد أراد عليهالسلام أن يقول للسائل بأن لا يستغرق في الجدل الكلامي عندما يتحدث عن الله سبحانه وتعالى ، ولكن طلب إليه أن يقرأ كتاب الله فيما أنزله من آياته ، فهو أعرف بنفسه من مخلوقاته كلها ؛ لأن المخلوق لا يستطيع أن يعرف من ربّه إلا ما عرّفه ربه ، وإلا فلا يمكن للعقل أن يدرك صفاته جل جلاله ذاتياً ، فهو ليس بجسم لأنّه خالق الأجسام ، وهو ليس بصورة لأنّه خالق الصورة ومبدعها.
وعن أبي هاشم الجعفري ، قال : « سأل محمد بن صالح الأرمني أبا محمد عليهالسلام عن قول الله تعالى : ( يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ ) (2) فقال :هل يمحو إلا ما كان ، وهل يثبت إلا ما لم يكن. فقلت في نفسي : هذا خلاف ما يقول هشام : إنّه لا يعلم الشيء حتى يكون. فنظر إليّ أبو محمد عليهالسلام فقال :تعالى الجبّار العالم بالأشياء قبل كونها ، الخالق إذ لا مخلوق ، والربّ إذ لا مربوب ، والقادر قبل المقدور عليه ، فقلت : أشهد أنّك ولي الله وحجته والقائم بقسطه ، وأنّك على منهاج أمير المؤمنين »(3) ، فلقد أكّد أن المخلوقين يحتاجون إلى معرفة الأشياء في صورتها الوجودية ، أما الله سبحانه فهو الذي
__________________
(1) أصول الكافي 1 : 103 / 10 ـ باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى من كتاب التوحيد ، التوحيد / الشيخ الصدوق : 101 / 14 ـ باب أنه عزوجل ليس بجسم ولا صورة.
(2) سورة الرعد : 13 / 39.
(3) إثبات الوصية : 249 ، الغيبة / الشيخ الطوسي : 430 / 421 ، الثاقب في المناقب : 566 / 507 ، الخرائج والجرائح2 : 687 / 10.
يخلق الوجود ، فهو يعرف ما يريد أن يخلقه قبل أن يخلقه.
أكد الإمام العسكري عليهالسلام في الكثير من كلماته على فرض الولاية لأهل البيت عليهمالسلام وضرورة معرفتهم والتصديق بهم والتمسك بهديهم وأداء حقوقهم التي جعلها الله لهم ، ولولا ذلك لا يستكمل المرء خصال الايمان.
ومن ذلك ما جاء في كتابٍ له عليهالسلام إلى إسحاق بن إسماعيل النيسابوري :« إنّ الله بمنّه ورحمته لمّا فرض عليكم الفرائض ، لم يفرض ذلك عليكم لحاجةٍ منه إليكم ، بل برحمة منه ـ لا إله إلا هو ـ عليكم ، ليميز الخبيث من الطيب ، وليبتلي ما في صدوركم ، وليمحص ما في قلوبكم ، لتسابقوا إلى ; ولتتفاضل منازلكم في جنّته.
ففرض عليكم الحج والعمرة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والولاية ، وجعل لكم باباً تستفتحون به أبواب الفرائض ، ومفتاحاً إلى سبيله ، لولا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم والأوصياء من ولده لكنتم حيارى كالبهائم ، لا تعرفون فرضاً من الفرائض ، وهل تدخل مدينة إلا من بابها ، فلمّا مّن عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيكم ، قال الله في كتابه : ( اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) (1) وفرض عليكم لأوليائه حقوقاً أمركم بأدائها ليحلَّ لكم ماوراء ظهوركم من أزواجكم وأموالكم ومآكلكم مشاربكم ، قال الله تعالي : ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ
__________________
(1) سورة المائدة : 5 / 3.
عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) (1) »(2) .
وفي حديث أبي هاشم الجعفري : « أنّ الإمام العسكري عليهالسلام قال له مبيناً منزلة أهل البيت عليهمالسلام :ما ظنك بقومٍ من عرفهم عرف الله ، ومن أنكرهم أنكر الله ، ولا يكون مؤمناً حتى يكون لولايتهم مصدقاً ، وبمعرفتهم موقناً » (3) .
قال أبو هاشم : « وقلت في نفسي : اللهمّ اجعلني في حزبك وفي زمرتك. فأقبل عليّ أبو محمد عليهالسلام فقال :أنت في حزبه وفي زمرته إن كنت بالله مؤمناً ولرسوله مصدقاً ، وبأوليائه عارفاً ، ولهم تابعاً ، فابشر ثم أبشر » (4) ، فالانتماء إلى حزب الله ليس مجرد دعوى ، بل هو ارتباط عقائدي ومنهج سلوكي يقتضي الإيمان بالله والتصديق برسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ومعرفة أوليائه ، وبذلك حدّد عليهالسلام مبدأ الولاية لله وللرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ولعترته الطاهرة.
وفي حديث آخر عن الحسن بن ظريف بيّن فيه الإمام العسكري عليهالسلام المصداق البارز لحزب الله عند اختلاف الكلمة ، قال : « كتبت إلى أبي محمد عليهالسلام أسأله : ما معنى قول رسول الله لأمير المؤمنين عليهالسلام : من كنت مولاه فعلي مولاه ؟ فقال :أراد بذلك أن جعله علماً يعرف به حزب الله عند الفرقة » (5) .
__________________
(1) سورة الشورى : 42 / 23.
(2) تحف العقول : 358 ، علل الشرائع / الشيخ الصدوق 1 : 291 / 6 باب 182 علل الشرائع واُصول الاسلام.
(3) الثاقب في المناقب : 567 / 508 ، إثبات الوصية : 249.
(4) إعلام الورى 2 : 143.
(5) كشف الغمة / الاربلي 3 : 303 ، بحار الأنوار 50 : 290 / 50.
وجاء في كتاب المحتضر للحسن بن سليمان عنه عليهالسلام في هذا السياق ما يؤكد فضل أهل البيت عليهمالسلام ووجوب ولايتهم ، قال : « روي انه وجد بخط مولانا أبي محمد العسكري عليهالسلام :فنحن السنام الأعظم ، وفينا النبوة والولاية والكرم ، ونحن منار الهدى والعروة الوثقى ، والأنبياء كانوا يقتبسون من أنوارنا ، ويقتفون آثارنا ، وسيظهر حجة الله على الخلق بالسيف المسلول لإظهار الحق »(1) .
وفي كتابٍ آخر له عليهالسلام إلى محمد بن الحسن بن شمّون :« نحن كهف لمن التجأ إلينا ، ونور لمن استبصر بنا ، وعصمة لمن اعتصم بنا ، من أحبّنا كان معنا في السنام الأعلى ، ومن انحرف عنا فإلى النار » (2) .
سار الإمام العسكري عليهالسلام على خطى أبيه عليهالسلام في التخطيط لمستقبل الإمامة والتحضير لزمان الغيبة بتهيئة المقدمات الضرورية للانتقال من مرحلة الإمامة الظاهرة إلى الإمامة الغائبة ، وتعويد الشيعة على ذلك فكراً وسلوكاً.
وكانت المهمة التي نهض بها الإمام العسكري عليهالسلام في هذا السبيل صعبة للغاية ؛ ذلك لأنه والد الإمام الثاني عشر عليهالسلام ويقع عليه العبء الأكبر في ترسيخ مبدأ الغيبة التي بدأت تباشيرها وأوشك زمانها في وقت عصيب عملت فيه السلطة الحاكمة على عزل الإمام عليهالسلام عن أصحابه ومواليه وشدّدت الرقابة عليه ، ووقفت ضدّه وضدّ فكرة الغيبة بالذات ، سيما وأنهم يدركون أنه قد آن
__________________
(1) بحار الأنوار 26 : 264 / 49.
(2) كشف الغمة / الإربلي 3 : 300 ، بحار الأنوار 50 : 299.
أوانها وأن الإمام الثاني عشر على وشك الولادة ، مما يهدّد كيانهم ويقضّ مضاجعهم ، فالتبليغ في هذا الاتجاه يعتبر في منطق السلطة خروجاً وتحدياً يستحق أقصى العقاب.
لكن مع ذلك استطاع إمامنا الممتحن الصابر عليهالسلام أن ينهض بهذه المهمة العسيرة بكلّ جدارة وقوة ، فعمل على تأصيل هذا المبداء العقائدي الذي هو من صميم الدين وضرورياته في نفوس أصحابه ، للحفاظ على خطّهم الرسالي من الضياع والانهيار والتحذير من الاختلاف والفرقة وغيرها من التداعيات المحتملة للفترة الانتقالية من الظهور إلى الغيبة ، كما استطاع أن يتّخذ تدابير الحيطة والسرية للحفاظ على حياة ولده الحجة عليهالسلام من براثن السلطة وأدوات رقابتها وقمعها.
من هنا يمكن تلخيص نشاط الإمام العسكري عليهالسلام في هذا الاتجاه بما يلي :
من البديهي أنه لو غاب الإمام الحجة عليهالسلام عن شيعته ، وأوكل إدارة اُمورهم ابتداءً إلى القيّم أو السفير الذي يعيّنه لأداء هذه المهمة ، لكان ذلك مدعاة للاستغراب ، ولتولّد عنه مضاعفات ونتائج غير محمودة.
من هنا فقد اتخذ الإمام العسكري عليهالسلام ومن قبله أبوه عليهالسلام اُسلوباً شبيهاً بمنهج الإمام المهدي عليهالسلام في الاحتجاب عن الناس وإيكال أمر تبليغ الأحكام وقبض الحقوق المالية وإيصال التواقيع الصادرة عن الإمام إلى الوكلاء الذين يختارهم من خاصة أصحابه ، لغرض تهيئة الذهنية العامة كي تستسيغ هذا الأسلوب ويحسن تقبّلها له.
قال المسعودي في أواخر ( إثبات الوصية ) : « روي أنّ أبا الحسن صاحب العسكر عليهالسلام احتجب عن كثير من الشيعة إلا عن عددٍ يسير من خواصّه ، فلما أفضى الأمر إلى أبي محمد عليهالسلام كان يكلم شيعته الخواص وغيرهم من وراء الستر إلا في الأوقات التي يركب فيها إلى دار السلطان ، وإن ذلك إنما كان منه ومن أبيه قبله مقدمةً لغيبة صاحب الزمان عليهالسلام لتألف الشيعة ذلك ، ولا تنكر الغيبة ، وتجري العادة بالاحتجاب والاستتار »(1) .
وحينما يطغى اُسلوب الاحتجاب على معظم حياة الإمام عليهالسلام ، يكون اتخاذ نظام الوكلاء ألزم وأقرب ، وكان هذا النظام ـ أي نظام الوكلاء ـ معمولاً به حتى قبل الامامين العسكريين عليهمالسلام لأنّه يحقّق ارتباط الأئمة عليهمالسلام بالبلاد البعيدة ذات القواعد الموالية لهم عليهمالسلام ، لكنه أصبح ظاهرة ملموسة تمارسها حتى القوعد القريبة خلال إمامة العسكريين عليهماالسلام .
وكان من بين الوكلاء الذين اعتمدهم الإمام العسكري عليهالسلام للنهوض بهذا الأمر : إبراهيم بن عبدة النيسابوري ، وأحمد بن إسحاق الأشعري ، وأيوب بن نوح بن دراج ، وجعفر بن سهيل الصيقل ، وحفص بن عمرو العمري ، وأبو عمرو عثمان بن سعيد العمري ، وعلي بن جعفر الهمّاني ، والقاسم بن العلاء الهمداني ، ومحمد بن أحمد بن جعفر القمي ، وأبو جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري ، ومحمد بن صالح بن محمد الهمداني وغيرهم.
ويمكن القول إن وكالة عثمان بن سعيد للإمام العسكري عليهالسلام كانت بمثابة التمهيد للسفارة المهدوية ؛ لأنّ عثمان بن سعيد كان السفير الأول للإمام
__________________
(1) إثبات الوصية : 272.
الحجة عليهالسلام ، وذلك مما يزيد من ثقة الشيعة به ، سيما وإنّه منصوص على ثقته وأمانته وعدالته وصلاحه لهذا الأمر من قبل الإمامين العسكريين عليهماالسلام (1) .
وكانت أداة الإمام عليهالسلام في الإتصال بشيعته هي المكاتبات والتواقيع التي يتحمّل الوكيل العبء الأكبر في إيصالها من وإلى الإمام ، فكان الأصحاب يكتبون إلى الإمام عليهالسلام بعض المسائل التي تشكل عليهم في اُمور دينهم ودنياهم ، والإمام عليهالسلام يجيب عليها عن طريق التواقيع.
وقد تفشّىٰ هذا الأسلوب حتى اتخذت المكاتبات والتواقيع حيّزاً واسعاً في تراث الإمامين العسكريين ، وبلغت من الكثرة بحيث أصبحت مادة للجمع والتأليف من قبل بعض الأصحاب المعاصرين للعسكريين عليهماالسلام ، ومنهم : عبد الله بن جعفر الحميري ، الذي صنّف ( مسائل الرجال ومكاتباتهم أبا الحسن الثالث عليهالسلام ) و ( مسائل لأبي محمد الحسن عليهالسلام على يد محمد بن عثمان العمري ) و ( مسائل أبي محمد وتوقيعاته )(2) . وعلي بن جعفر الهمّاني البرمكي ، وله ( مسائل لأبي الحسن عليهالسلام )(3) ، ومحمد بن الحسن الصفار ت 290 ه ، وله ( مسائل كتب بها إلى أبي محمد الحسن العسكري عليهالسلام )(4) ، ومحمد بن الريان بن الصلت الأشعري ، وله ( مسائل لأبي محمد الحسن العسكري عليهالسلام )(5) ، ومحمد بن سليمان ابن الحسن الزراري ، وله ( مسائل وجوابات لأبي محمد الحسن
__________________
(1) راجع : كتاب الغيبة / للشيخ الطوسي : 354 / حديث 315 وما بعده.
(2) رجال النجاشي : 220 / 573.
(3) رجال النجاشي : 280 / 740.
(4) الفهرست / للشيخ الطوسي : 408 / 622.
(5) رجال النجاشي : 370 / 1009.
العسكري عليهالسلام )(1) ، ومحمد بن علي بن عيسىٰ القمي ، وله ( مسائل لأبي محمد العسكري عليهالسلام )(2) وغيرهم.
وصفوة القول إن الإمام العسكري عليهالسلام استطاع من خلال التخطيط للارتباط به عن طريق الوكلاء ، أن يمهّد لنفس الأسلوب الذي اعتمده ولده الإمام المهدي عليهالسلام خلال غيبته الصغري ( 260 ـ 329 ه ) وبذلك اعتاد الشيعة هذا الأمر وتقبّلوه بشكل تدريجي يزيح معه كلّ عوامل الارتياب والشكّ ، وهكذا كانت غيبة الإمام الصغرى أيضاً تمهيداً للغيبة الكبرى التي أمر الإمام عليهالسلام شيعته بالرجوع إلى رواة حديثهم واتّباع الفقهاء العدول من أتباع مدرستهم.
وهذا الأمر يتطلب المزيد من الحذر والحزم والموازنة بين نقيضين ؛ الأول يتطلب عرض الإمام المهدي عليهالسلام على أصحابه للتأكد من ولادته والإشهاد عليها وإثبات النص عليه ، والثاني يتطلب إخفاء ولادته والتكتم على شخصه خشية من السلطة التي كانت مستعدة لبذل مختلف وسائل الاغراء والتهديد في سبيل القبض عليه.
وقد استطاع الإمام العسكري عليهالسلام الموازنة بين الأمرين متحرياً الحيطة والدقة ، متبعاً أقصى درجات السرية والكتمان ، حيث حدثت الولادة المباركة في النصف من شعبان سنة 255 ه ، وجهد الإمام العسكري عليهالسلام خلال السنوات
__________________
(1) رجال النجاشي : 347 / 937.
(2) رجال النجاشي : 371 / 1010.
الخمس التي قضاها مع ابنه المهدي عليهالسلام من أجل إخفاء ولادته واسمه ومكانه وسائر اُموره عن أسماع السلطة ومراقبة عيونها.
فمن أساليب الكتمان أنه عليهالسلام لم يعقّ عن ابنه عليهالسلام في داره ، بل أوصى أحد أصحابه لأداء هذ المهمة ، وقد روي أنه أمر أبا عمرو عثمان بن سعيد أن يعق عنه بكذا وكذا شاة(1) ، كما روي أنه عليهالسلام وجّه إلى إبراهيم بن إدريس بكبشين ، وكتب إليه« عقّ هذين الكبشين عن مولاك ، وكُل هنأك الله ، وأطعم إخوانك » (2) .
أما من حيث تبليغ أصحابه بالولادة أو النص ، فمن الطبيعي أنّهم يختلفون في مقدار ضبطهم وصمودهم أمام وسائل الاغراء والتهديد من قبل الجهاز الحاكم ، لهذا اختار الإمام العسكري عليهالسلام من أصحابه الأشخاص الذين يتوقع منهم صلابة الإرادة وقوة الإيمان وعمق الإخلاص ، وحمّلهم أمانة الوصية ومسؤولية النص على ولده الحجة عليهالسلام بعد عرضه عليهم.
ورد في الحديث أنه عليهالسلام كان يتخيّر لهذه المهمة الأقرب لقرابته والأولى لولايته وذوي الكرامة عند الله سبحانه ، ومع ذلك يأخذ عليهم بالكتمان ويوصيهم بالستر والسريّة.
ففي كتابٍ له عليهالسلام بخطّه بعثه إلى أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري ، جاء فيه :« ولد لنا مولود ، فليكن عندك مستوراً ، وعن جميع الناس مكتوماً ، فانا
__________________
(1) إكمال الدين : 431 / 6 باب 42 ما روي في ميلاد القائم صاحب الزمان حجة الله ابن الحسن عليهالسلام ...
(2) إثبات الوصية : 260 ، غيبة الطوسي : 246 / 214.
لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والولي لولايته » (1) .
وجاء في حديث آخر :« يا أحمد بن إسحاق ، لولا كرامتك على الله عزوجل وعلى حججه ، ما عرضت عليك ابني هذا إنّه سمي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وكنيّه الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ».
إلى أن قال :« يا أحمد بن إسحاق هذا أمر من أمرالله ، وسرّ من سرّ الله ، وغيب من غيب الله ، فخذ ما آتيتك واكتمه ، وكن من الشاكرين تكن معنا في علّيين » (2) .
ويمكن القول إن اُسلوب الاحتجاب الذي اعتمده الإمام عليهالسلام ساعد كثيراً على إخفاء الولادة المباركة ، فضلاً عن انشغال الدولة آنذاك بحوادث كبرى اشرنا إليها في الفصل الأول ، كان على رأسها ثورة صاحب الزنج وحركات يعقوب بن الليث الصفار وبعض الخوارج الشراة وغيرهم ، مما شغل الدولة عن الالتفات إلى الولادة ، وفوق ذلك كلّه القدرة على الاستتار عن الانظار التي حباها الله لوليه الحجة بن الحسن عليهالسلام ، فكان مثله في هذه الأمة مثل الخضر عليهالسلام ومثل ذي القرنين ، كما جاء في كثير من الروايات التي تحدثت عن صفة القائم المهدي عليهالسلام . كلّ ذلك جعل السلطة تسقط اسم الحجة عليهالسلام من حسابها القانوني على الأقل ، كما ورد على لسان أوثق أصحاب الإمام عليهالسلام ، وهو أبو عمرو عثمان
__________________
(1) إكمال الدين : 433 / 16 باب 42 ماروي في ميلاد القائم صاحب الزمان حجة الله بن الحسن عليهالسلام ...
(2) إكمال الدين : 384 / 1 باب 38 ما روي عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليهالسلام من وقوع الغيبة بابنه القائم عليهالسلام ...
ابن سعيد العمري حينما سأله عبد الله بن جعفر الحميري عن اسم الإمام عليهالسلام فقال : « إياك أن تبحث عن هذا ، فانّ عند القوم أن هذا النسل قد انقطع »(1) .
وفي حديث آخر عنه أيضاً قال الحميري : « قلت : فالاسم ؟ قال العمري : محرم عليكم أن تسألوا عن ذلك ، ولا أقول هذا من عندي ، فليس لي أن أحلّل ولا اُحرّم ، ولكن عنه عليهالسلام ، فإنّ الأمر عند السطان أنّ أبا محمد عليهالسلام مضى ولم يخلف ولداً ، وقسّم ميراثه ، وأخذه من لا حق له فيه ، وهو ذا عياله يجولون ليس أحدٌ يجسر أن يتعرّف إليهم أو ينيلهم شيئاً ، وإذا وقع الاسم وقع الطلب ، فاتقوا الله وأمسكوا عن ذلك »(2) .
وتحريم السؤال عن الاسم الوارد في هذا الحديث هو من أساليب الكتمان التي انتهجها الإمام العسكري عليهالسلام لإخفاء ولده ، لأنّ الإسم يدلّ على المسمىّ ، فإذا أشير إلى المسمّى وقع الطلب عليه ، ولعلّ التحريم كان للتقية ويقتصر على تلك الفترة التي اشتد الطلب بها على الإمام الثاني عشر عليهالسلام وكثر السؤال عنه ، كما ذكر بعض الأعلام(3) ،
__________________
(1) إكمال الدين : 442 / 14 باب 43 ذكر من شاهد القائم عليهالسلام ورآه وكلّمه.
(2) أصول الكافي 1 : 330 / 1 باب في تسمية من رآه.
(3) وقد تعارضت الأخبار في هذه المسألة بين مانع ومجوز للتسمية ، وتعارف عند الشيعة ذكره عليهالسلام بالقابه كالحجة والقائم والخلف وصاحب الدار والناحية والغلام والغريم وغيرها. وللسيد محسن الأمين رأي يجمع بين الأخبار خلاصته أن التصريح بالاسم مكروه مطلقاً ، والتسمية تصريحاً وكناية محرمة في زمان الخوف. راجع : المجالس السنية / السيد محسن الأمين 5 : 678 ـ دار التعارف ـ بيروت ، في رحاب أئمة أهل البيت عليهمالسلام / السيد محسن الأمين ـ القسم الخامس : 5 ـ 6 ـ دار التعارف ـ بيروت.
وإلا فانّه عليهالسلام معلوم الاسم والكنية منذ زمن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه.
ثمّ إنّ إشارة العمري رضياللهعنه إلى تقسيم الميراث ، هي دلالة واضحة على أنّ السلطة قد غضّت النظر عن الإمام الحجة عليهالسلام ولو في حساباتها القانونية الآنيّة ، وثبت ذلك عند القاضي ، كما جاء في حديث أحمد بن عبيد الله بن خاقان ، وهو من رجال السلطة ، قال : « فلمّا دُفِن ـ أي الإمام العسكري عليهالسلام ـ وتفرّق الناس ، اضطرب السلطان وأصحابه في طلب ولده ، وكثر التفتيش في المنازل والدور ، وتوقّفوا على قسمة ميراثه ، ولم يزل الذين وكّلوا بحفظ الجارية التي توهّموا عليها الحبل ملازمين لها سنتين وأكثر حتى تبين لهم بطلان الحبل ، فقسّم ميراثه بين اُمّه وأخيه جعفر ، وادّعت اُمّه وصيّته ، وثبت ذلك عند القاضي »(1) .
على أن السلطة لم تغضّ النظر على المدي البعيد ، بل يبقى هاجس الخوف يساورها إلى ما بعد 18 سنة من شهادة الإمام العسكري عليهالسلام ، كما جاء في مجلس أحمد بن عبيد الله بن خاقان الذي عقده في شعبان سنة 278 ه حينما كان عاملاً من قبل السلطان على الخراج والضياع في قم ، وجاء في آخر المجلس : « والسلطان يطلب أثر ولد الحسن بن علي عليهالسلام حتى اليوم »(2) وقوى الشرّ إلى اليوم ما انفكّت تخشى من اسم المهدي ومن حكومته الموعودة في يوم الخلاص والانعتاق من الظلم والجور الذي غطّى أنحاء الأرض.
ومهما يكن فإنّ الإمام العسكري عليهالسلام استطاع أداء التكليف المتعلق به ، وهو التبليغ لولده الحجة عليهالسلام بعرضه على أصحابه والاشهاد على ولادته والنص
__________________
(1) إكمال الدين : 43 ـ المقدمة.
(2) إكمال الدين : 43 ـ المقدمة ـ والمجلس يبدأ من ص40 ـ 43.
عليه ، بالقدر الذي تقوم به الحجة على الناس مع الضمان الكامل لنجاته من تطلّب الجهاز الحاكم ، وفيما يلي نقتصر على ذكر الأشخاص الذين حمّلهم الإمام العسكري عليهالسلام مسؤولية حفظ النص على ولده بالإمامة ، أو اُولئك الذين أثبت عليهم الحجة قولاً وعملاً بعرض ولده المهدي عليهالسلام عليهم ، دون أن نذكر الأحاديث بلفظها كي لا يطول المقام.
لابدّ من الاشارة أولاً إلى أن النص على ظهور الإمام المهدي عليهالسلام في آخر الزمان جاء في تراث المسلمين متواتراً عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد أثبته مؤلفو الصحاح والمسانيد(1) ، كما روى النص على الإمام المهدي عليهالسلام وكونه ابن الحسن العسكري عليهالسلام وأنه الثاني عشر من أئمة أهل البيت المعصومين ، جملة أصحاب الأئمة عليهمالسلام جيلاً بعد جيل حتى أصبح الاعتقاد بالغيبة من ضروريات مذهب التشيع ، فكان كلّ واحد من الأئمة المعصومين عليهمالسلام يؤدّي دوره الكافي في هذا الإطار ، لتوعية الناس وارشادهم إلى هذه العقيدة الكبرى ، كما صرحوا بصفات الإمام الغائب قبل ولادته ، فأخبروا عن كونه ابن سيدة الإماء ، وأنه خفي الولادة معروف النسب ، وأن الناس لا يرون شخصه ولا يحلّ لهم ذكره باسمه ، وأخبروا عن غيبته قبل وقوعها ، وأن له غيبتين إحداهما أطول من الأخرى ، وأنه الإمام المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره ، فيملأ الأرض قسطاً
__________________
(1) راجع : المهدي المنتظر عليهالسلام في الفكر الإسلامي / السيد ثامر العميدي ـ الإصدار الأول من اصدارات مركز الرسالة.
وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً(1) ، إلى غير ذلك من الصفات التي لا تنطبق إلا على الإمام محمد بن الحسن المهدي عليهالسلام .
وجاء دور الإمام العسكري عليهالسلام ليقع عليه العبء الأكبر في هذا المجال ، باعتباره الوالد المباشر للإمام الحجة عليهالسلام ، فصرّح لبعض أصحابه كما ذكرنا ، وفي فترات متفاوتة من أول الولادة المباركة حتى قبل مضيّه بأيام قلائل ، بكون ولده محمد عليهالسلام هو الإمام من بعده والخليفة على أصحابه ، ومن بين الذين سمعوا النص عنه عليهالسلام : أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري ، وأحمد بن محمد بن عبد الله ، وأبو هاشم داود بن القاسم الجعفري ، وأبو عمرو عثمان بن سعيد العمري ، وعمرو الأهوازي ، وأبو غانم الخادم ، ومحمد بن أيوب بن نوح ، ومحمد بن عثمان العمري ، ومحمد بن علي بن بلال ، ومعاوية بن حكيم ، وموسى بن جعفر بن
__________________
(1) راجع : إكمال الدين : 256 / من باب24 ـ ما روي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في النص على القائم عليهالسلام وأنه الثاني عشر من الأئمة عليهمالسلام ـ إلى باب 38 ص 384 ـ ما روي عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليهالسلام من وقوع الغيبة بابنه القائم عليهالسلام وأنه الثاني عشر من الأئمة عليهمالسلام ، إثبات الوصية : 262 ، أصول الكافي 1 : 332 ـ 343 باب في النهي عن الاسم ، وباب نادر في حال الغيبة ، وباب في الغيبة ، الإرشاد 2 : 345 ـ باب ما جاء من النص على إمامة صاحب الزمان الثانى عشر من الأئمة صلوات الله عليهم في مجمل ومفصل على البيان ، دلائل الإمامة : 529 ـ معرفة ما ورد من الأخبار في وجوب الغيبة ، إعلام الورى 2 : 223 ـ الباب الثاني ـ في ذكر النصوص الدالة على إمامته عليهالسلام من آبائه ، إلى غير ذلك من المصادر وهي كثيرة ولعلّ أهمهما غيبة النعماني وغيبة الطوسي.
وهب ، ويعقوب بن منقوش وغيرهم(1) .
وعرض الإمام العسكري عليهالسلام ولده على بعض أصحابه الذين تقدم ذكرهم وغيرهم من خدم الدار ، ليكون أبلغ في تأكيد الحجة وتبليغ النص ، فتشرف بعضهم برؤيته في يومه الأول ، وبعضهم في اليوم الثالث ، وبعضهم حينما بلغ السنة الثالثة أو الخامسة من عمره الشريف ، وكان من بينهم : أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري الذي رآه في سنته الثالثة ، وحكيمة ابنة الإمام محمد الجواد عليهالسلام وهي عمة أبيه الإمام الحسن العسكري عليهالسلام وكانت قابلته ، وحمزة بن أبي الفتح ، وحمزة بن نصر غلام أبي الحسن عليهالسلام ، وأبو نصر ظريف الخادم ، وجارية أبي علي الخيزراني ، وأبو عمرو عثمان بن سعيد العمري ، وعمرو الأهوازي ، وأبو غانم الخادم ، وكامل بن إبراهيم المدني ، ومارية ونسيم وكانتا
__________________
(1) راجع : أصول الكافي 1 : 328 ـ باب الاشارة وانص إلى صاحب الدار عليهالسلام من كتاب الحجة ، إكمال الدين : 384 / 1 ـ 9 باب 38 ما روى عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليهالسلام من وقوع الغيبة بابنه القائم عليهالسلام وأنه الثاني عشر من الأئمة عليهمالسلام ، وص 424 / 1 ـ 16 باب 42 ما روي في ميلاد القائم صاحب الزمان حجة الله بن الحسن بن علي ، وص 434 / 1 ـ باب 43 ذكر من شاهد القائم عليهالسلام ورآه وكلمه ، غيبة الشيخ الطوسي : 229 ـ 251 ـ فصل 2 ، الإرشاد 2 : 348 ـ باب ما جاء من النص على إمامة صاحب الزمان عليهالسلام ، إعلام الورى 2 : 248 ـ الفصل 3 في ذكر النصوص عليه ( صلوات الله عليه ) من جهة أبيه الحسن ابن علي عليهالسلام خاصة ، بحار الأنوار 51 : 158 / باب 9نص العسكريين ( صلوات الله عليهما ) على القائم عليهالسلام .
من خدم الدار ، ويعقوب بن منقوش رآه حينما كان خماسياً(1) .
وعرضه عليهالسلام قبل مضية بأيام قلائل على أربعين من أصحابه منهم : معاوية ابن حكيم ، ومحمد بن أيوب بن نوح ، ومحمد بن عثمان العمري ، قائلاً لهم :« هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم ، أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا ، أما إنّكم لا ترونه بعد يومكم هذا » (2) .
سبق عن النبي المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته المعصومين عليهمالسلام في أحاديث كثيرة(3) التأكيد على الغيبة وحتمية تحققها وضرورة الإيمان بها ، وكونها سبباً للابتلاء والتمحيص والحيرة ، مما يتطلب مستوى عالياً من الصبر وانتظار الفرج ، للثبات على الدين ، وتقوية نوازع الاخلاص والاستقامة وقوة الارادة رجاء اليوم الموعود بظهور المصلح والاستخلاف في الأرض وتأسيس دولة الحق في آخر الزمان.
__________________
(1) راجع المصادر المتقدمة ، وأصول الكافي 1 : 329 ـ باب في تسمية من رآه عليهالسلام من كتاب الحجة ، إثبات الوصية : 257 ، الإرشاد 2 : 351 ـ باب ذكر من رأى الإمام الثاني عشر عليهالسلام ، دلائل الإمامة : 505 معرفة من شاهده في حياة أبيه عليهالسلام ، إعلام الورى 2 : 214 فصل 2 في ذكر مولده عليهالسلام واسم امه ، وص (218) الفصل 3 في ذكر من رآه عليهالسلام ، بحار الأنوار 52 : 1 ـ باب 18 ذكر من رآه ( صلوات الله عليه ).
(2) إكمال الدين : 435 / 2 باب 43 ، الغيبة الشيخ الطوسي : 357 / 319.
(3) راجع : أصول الكافي 1 : 333 ـ باب نادر في حال الغيبة وص 335 باب في الغيبة من كتاب الحجة ، ودلائل الإمامة : 529 معرفة ما ورد من الأخبار في وجوب الغيبة.
وسار الإمام العسكري عليهالسلام في ذلك على خطى آبائه عليهمالسلام ، ويمكن تلخيص دوره في هذا الاتجاه بالنقاط التالية :
أ) معرفة الحجة رغم طول الغيبة والحيرة ، ففي حديث محمد بن عثمان العمري ، قال : « سمعت أبي يقول : سئل أبو محمد الحسن بن علي عليهالسلام وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائه عليهمالسلام :أنّ الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه إلى يوم القيامة ، وأن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية. فقال عليهالسلام :إنّ هذا حق كما أنّ النهار حقّ. فقيل له : يابن رسول الله ، فمن الحجة والإمام بعدك ؟ فقال :ابني محمد ، هو الإمام والحجة بعدي من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية ، أما إنّ له غيبة يحار فيها الجاهلون ، ويهلك فيها المبطلون ، ويكذب فيها الوقّاتون ، ثم يخرج فكأني أنظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة » (1) .
وفي حديث الحسن بن محمد بن صالح البزاز ، قال : « سمعت الحسن بن علي العسكري عليهالسلام يقول : إن ابني هو القائم من بعدي ، وهو الذي تجري فيه سنن الأنبياء عليهمالسلام بالتعمير والغيبة حتى تقسو القلوب لطول الأمد ، فلا يثبت على القول به إلا من كتب الله عزوجل في قلبه الإيمان وأيّده بروح منه »(2) .
ب) التحذير من الاختلاف والشكّ والدعوة إلى الثبات على الدين ، كما جاء في الحديث الذي قدّمناه آنفاً« ولا تتفرقوا من بعدي في أديانكم
__________________
(1) إكمال الدين : 409 / 9 ـ باب 38.
(2) إكمال الدين : 524 / 4 باب 46 ما جاء في التعمير.
فتهلكوا » (1) .
وحذّر الإمام العسكري عليهالسلام في أكثر من مناسبة أصحابه من أن تميل بهم الأهواء أو تعصف بقلوبهم الفتن لطول الغيبة وشدّة الريبة ، وأكد على ضرورة التمسك بالإمام من بعده وطاعته ، كما ورد في حديث موسى بن جعفر بن وهب البغدادي ، قال : « سمعت أبا محمد الحسن بن علي عليهالسلام يقول :كأني بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف منّي ، أما إن المقرّ بالأئمة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المنكر لولدي ، كمن أقرّ بجميع أنبياء الله ورسله ثمّ أنكر نبوة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والمنكر لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كمن أنكر جميع أنبياء الله ؛ لأن طاعة آخرنا كطاعة أولنا ، والمنكر لآخرنا كالمنكر لأولنا ، أما إنّ لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلا من عصمه الله عزوجل » (2) .
ورغم هذا فقد اختلف ذوي الريب بعد شهادة الإمام العسكري عليهالسلام كما ورد في أول الحديث ، ولم يثبت على الحقّ إلا ثلّة مؤيدة برحمة الله ولطفه وعنايته ، كان لها الأثر في حفظ الدين وسلامة المنهج ، وتوقّع الإمام العسكري عليهالسلام ذلك حتى أنه حدد تاريخه بالضبط ، كما في حديث أبي غانم ، قال :« سمعت أبا محمد الحسن بن علي عليهالسلام يقول : في سنة مائتين وستين تفترق شيعتي. قال : ففيها قبض أبو محمد عليهالسلام وتفرقت الشيعة وأنصاره ، فمنهم من انتمى إلى جعفر ، ومنهم من تاه ، ومنهم من شكّ ، ومنهم من وقف على تحيّره ،
__________________
(1) إكمال الدين : 435 / 2 باب 43 ذكر من شاهد القائم عليهالسلام ورآه وكلمه.
(2) إكمال الدين : 409 / 8 باب 38 ما روي عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليهالسلام من وقوع الغيبة بابنه القائم.
ومنهم من ثبت على دينه بتوفيق الله عزوجل »(1) فكان لتحذير الإمام عليهالسلام من الفرقة وتأكيده على التمسك بولاية الحجة عليهالسلام ، دور فاعل في حفظ الدين وسلامة العقيدة من الزيغ.
ج) التأكيد على الصبر وانتظار الفرج في أيام الغيبة لربط الأمة بقائدها المنتظر حتى يأذن الله بظهور دولته وانطلاق دعوته ، ومن ذلك ما كتبه الإمام العسكري عليهالسلام إلى أبي الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمي« عليك بالصبر وانتظار الفرج ، قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : أفضل أعمال اُمتي انتظار الفرج ، ولا تزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشّر به النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ، فاصبر يا شيخي يا أبا الحسن عليّ ، وأمر جميع شيعتي بالصبر ، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين » (2) .
هناك الكثير من الأخبار التي تدلّ على أن الإمام العسكري عليهالسلام كان يتابع بدقة ما يجري على الساحة الفكرية ، فيلاحق الأفكار المنحرفة والشبهات التي تطرح هنا وهناك في مواجهة الفكر الاسلامي الأصيل ، خصوصاً تلك التي تعمد إلى تهديم الاسس الاسلامية على المستوى العقائدي أو الفقهي ، فكان يواجهها بالحجة والاسلوب العلمى والجدل الموضوعي.
__________________
(1) إكمال الدين : 408 / 6 باب 38 ما روي عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليهالسلام من وقوع الغيبة بابنه القائم.
(2) المناقب / لابن شهر آشوب 4 : 459 ، بحار الأنوار 50 : 317 / 14.
أ ـ من ذلك ما نقله ابن شهر آشوب عن أبي القاسم الكوفي في كتاب التبديل : أن إسحاق الكندي(1) ، كان فيلسوف العراق في زمانه ، أخذ في تأليف تناقض القرآن ، وشغل نفسه بذلك ، وتفرّد به في منزله ، فسلّط الإمام عليهالسلام عليه أحد طلابه بكلامٍ قاله له ، مما جعله يتوب ويحرق أوراقه.
وملخص الفكرة التي أبداها الإمام عليهالسلام للتلميذ ، هي احتمال أن يكون المراد بالآيات القرآنية غير المعاني التي فهمها وذهب إليها ، باعتبار أن اللغة العربية مرنة متحركة ، فقد يفهم بعض الناس الكلام على أنه الحقيقة وهو من المجاز ، وقد يفهم أن المراد هو المعني اللغوي والمقصود هو المعني الكنائي.
وطلب الإمام عليهالسلام من تلميذ الكندي أن يتلطّف في مؤانسة استاذه قبل إلقاء الاحتمال ، ووصفه عليهالسلام بقوله :« إنّه رجل يفهم إذا سمع ». فصار التلميذ إلى الكندي ، وألقى إليه ذلك الاحتمال ، فتفكر في نفسه ، ورأى أن ذلك محتمل في اللغة ، وسائغ في النظر.
فقال : « أقسمت عليك إلا اخبرتني من أين لك هذا ؟ فقال : إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك. فقال : كلا ، ما مثلك من اهتدى إلى هذا ، ولا من بلغ هذه المنزلة ، فعرفني من أين لك هذا ؟ فقال : أمرني به أبو محمد. فقال : الآن جئت به ، وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت. ثم إنّه دعا بالنار وأحرق
__________________
(1) كذا ، واسم الكندي إذا أريد به فيلسوف العراق فهو يعقوب بن إسحاق ، وكان معاصراً للإمام عليهالسلام حيث توفي سنة 260 ه ، وقيل : إنّه همّ بأن يعمل شيئاً مثل القرآن : ثم أذعن بالعجز راجع : سير أعلام النبلاء 12 : 337 / 134 ، الاعلام للزركلي 8 : 195.
جميع ما كان ألفه »(1) .
وفي هذا الخبر دلالات مهمة جديرة بالذكر :
1 ـ إن الإمام الحسن العسكري عليهالسلام كان يتابع حركة الثقافة في زمانه ، وكان يتحرك على كلّ الاتجاهات المضادة التي تنطلق في مواجهة الاسلام ، فلم يكن خارج نطاق الواقع الثقافي ، وهذا ينطلق من مسؤولية الإمام عن تصحيح المسار الاسلامي في كلّ ما يمكن أن يعرض عليه من الانحرافات.
2 ـ يُستوحى من هذه القصة أنك عندما تريد أن تحاور إنساناً وتجادله ، فلا يكن العنف سبيلك إلى ذلك ، ولا يكن القلب القاسي وسيلتك إلى الانفتاح عليه ، بل حاول أن تتلطف به أولاً وان تؤانسه ثانياً ، حاول أن تربح قلبه قبل أن تخاطب عقله ، لأن أقرب طريق إلى عقل الانسان هو قلبه.
3 ـ الأسلوب الذي اتبعه الإمام عليهالسلام في مخاطبة هذا العالم هو الانفتاح على علمه وتفكيره ، حيث ألقى إليه الفكرة على سبيل الاحتمال ليدفعه إلى التأمّل.
4 ـ إن قول الكندي « لقد علمت انه لا يخرج هذا إلا من أهل هذا البيت » يدلّ على الثقة العلمية العالية التي كان يحملها الفلاسفة والمثقفون في علم أهل البيت عليهمالسلام ، مما يوحي أنهم كانوا قد بلغوا القمة في العلم حتى خضع الآخرون لعلمهم ، وانحنوا لهذا المستوى الكبير من الثقافة.
ب ـ وهناك حديث آخر يحال الإمام العسكري عليهالسلام أن يرد فيه بعض الشبهات ، رواه ثقة الاسلام الكليني باسناده عن إسحاق بن محمد النخعي ، قال : « سأل الفهفكي أبا محمد عليهالسلام : ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً
__________________
(1) المناقب / لابن شهر آشوب 4 : 457.
واحداً ويأخذ الرجل سهمين ؟ فقال : أبو محمد عليهالسلام :إنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا عليها معقلة ، إنّما ذلك على الرجال ، فقلت في نفسي : قد كان قيل لي : إنّ ابن أبي العوجاء سأل أبا عبد الله عليهالسلام عن هذه المسألة ، فأجابه بهذا الجواب ، فأقبل أبو محمد عليهالسلام عليّ. فقال :نعم ، هذه المسألة مسألة ابن أبي العوجاء ، والجواب منّا واحد إذا كان معنى المسألة واحداً ، جرى لآخرنا ما جرى لأوّلنا ، وأوّلنا وآخرنا في العلم سواء ، ولرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأمير المؤمنين عليهالسلام فضلهما » (1) .
ج ـ لقد أثيرت مسألة خلق القرآن منذ زمان المأمون ، وانقسم العلماء فيها إلى قسمين ، فمنهم من قال بقدم كلام الله سبحانه ، ومنهم من قال بحدوثه ، مما أدّى إلى خلق فتنة ومحنة راح ضحيتها الكثير من الأعلام ، وكان جواب الأئمة عليهمالسلام المعاصرين لتلك المحنة واضحاً ، يقوم على أساس التفريق بين كلام الله تعالى وبين علمه ، فكلامه تعالى محدث وليس بقديم ، قال تعالى : ( مَا يَأْتِيهِم مِن ذِكْرٍ مِن رَبِّهِم مُحْدَثٍ ) (2) ، وأما علمه فقديم قدم ذاته المقدسة ، وهو من الصفات التي هي عين ذاته.
ونرى بعض امتدادات هذه المسالة في زمان الإمام العسكري عليهالسلام ، فقد روي عن أبي هاشم الجعفري أنه قال : « فكّرت في نفسي ، فقلت : أشتهي أن أعلم ما يقول أبو محمد عليهالسلام في القرآن ؟ فبدأني وقال :الله خالق كلّ شيء ، وما
__________________
(1) الكافي 7 : 85 / 2 ـ باب علة كيف صار للذكر سهمان وللانثىٰ سهم ، من كتاب المواريث.
(2) سورة الأنبياء : 21 / 2.
سواه وفهو مخلوق » (1) .
د ـ تقدمت الاشارة إلى أن الإمام العسكري عليهالسلام تصدى لكشف واحدٍ من أهم وسائل التموية والتلبيس على أذهان العامة ، حين حاول أحد الرهبان تضليل العقول الضعيفة وتشكيكهم في دينهم ، فكشف الإمام عليهالسلام زيف ذلك الراهب وكذبه وبيّن وسائل تمويهه ، وذلك في حادثة الاستسقاء الشهيرة التي تواطأت على نقلها الكثر من المصادر(2) .
ه ـ تصدّىٰ الإمام العسكري عليهالسلام لبعض الاتجاهات العقائدية المنحرفة والفرق الضالة ومنهم الغلاة الذين كانوا في زمانه ، وهم الذين خرجوا عن الجادة ووصفوا الأئمة عليهمالسلام بصفات الالوهية ، فتبرأ أهل البيت عليهمالسلام منهم ولعنوهم وحاربوا مقالاتهم الباطلة. ومن هؤلاء إدريس بن زياد الكفرتوثائي ، قال : « كنت أقول فيهم قولاً عظيماً ، فخرجت إلى العسكر للقاء أبي محمد عليهالسلام ، فقدمت وعليّ أثر السفر ووعثاؤه ، فألقيت نفسي على دكان حمام فذهب بي النوم ، فما انتبهت إلا بمقرعة أبي محمد عليهالسلام قد قرعني بها حتى استيقظت ، فعرفته فقمت قائماً اُقبّل قدميه وفخذه وهو راكب والغلمان من حوله ، فكان أول ما تلقاني به أن قال :يا إدريس ( بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ *لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (3) . فقلت : حسبي يا مولاي ، وإنّما جئت أسألك عن هذا. قال :
__________________
(1) الثاقب في المناقب : 568 / 511 ، الخرائج والجرائح 2 : 686 / 6.
(2) راجع آخر الفصل الثاني من هذا الكتاب.
(3) سورة الأنبياء : 21 / 26 ـ 27.
فتركني ومضى »(1) .
ويبدو من بعض الأخبار أن الإمام العسكري عليهالسلام كان لا يترحّم على الغلاة ولو كانوا من الوالدين ، وذلك لكي يؤدّب أصحابه للوقوف بشدة ضدّ هذه النزعة الهدامة ، فقد نقل الحميري في الدلائل عن أبي سهل البلخي ، قال : « كتب رجل إلى أبي محمد يسأله الدعاء لوالديه ، وكانت الاُمّ غالية ، والأب مؤمناً ، فوقّع عليهالسلام :رحم الله والدك » (2) .
ومن هؤلاء أيضاً الواقفة ، وهم الذين وقفوا على الإمام الكاظم عليهالسلام بسبب بعض النوازع المادية ، حيث تجمعت لديهم أموال طائلة من الحقوق المالية في وقتٍ كان فيه الإمام عليهالسلام في سجن الرشيد ، فطمعوا فيها وادعوا بعد شهادة الإمام عليهالسلام أنه حيّ لم يمت ، واصبح الوقف تياراً فكرياً يتبناه بعض من لم تترسخ لديه مبادئ العقيدة الحقة ، فيقف عند بعض الأئمة عليهمالسلام. وقد صرح الإمام العسكري عليهالسلام بالبراءة منهم ، ودعا أصحابه إلى أن لا يعودوا مرضاهم ولا يشهدوا جنائزهم ولا يصلوا عليهم.
ومنه ما رواه الإربلي والقطب الراوندي بالاسناد عن أحمد بن محمد بن مطهر ، قال : « كتب بعض أصحابنا إلى أبي محمد عليهالسلام من أهل الجبل ، يسأله عمّن وقف على أبي الحسن موسى عليهالسلام أتولاهم أم أتبرا منهم ؟ فكتب عليهالسلام :أتترحّم على عمّك ؟ لا رحم الله عمك. وتبرّأ منه ، أنا إلى الله منهم بريء ، فلا تتولاهم ، ولا تعد مرضاهم ، ولا تشهد جنائزهم ، ولا تصلّ على أحدٍ منهم
__________________
(1) المناقب / لابن شهر آشوب 4 : 461.
(2) كشف الغمة 3 : 306 ، بحار الأنوار 50 : 294 / 69.
مات أبدأ.
من جحد إماماً من الله ، أو زاد إماماً ليست إمامته من الله ، كان كمن قال إنّ الله ثالث ثلاثة ، إن الجاحد أمر آخرنا جاحدٌ أمر أولنا ، والزائد فينا كالناقص الجاحد أمرنا »(1) .
وروى الكشي بالاسناد عن إبراهيم بن عقبة ، قال : « كتبت إلى العسكري عليهالسلام : جعلت فداك ، قد عرفت هؤلاء الممطورة ، فأقنت عليهم في الصلاة ؟ قال عليهالسلام :نعم ، اقنت عليهم في صلاتك »(2) .
وتصدّى الإمام عليهالسلام لمقالات الثنوية ، فقد روى ثقة الاسلام الكليني بالاسناد عن محمد بن الربيع الشائي ، قال : « ناظرت رجلاً من الثنوية بالأهواز ، ثم قدمت سرّ من رأى وقد علق بقلبي شيء من مقالته ، فإنّي لجالس على باب أحمد بن الخضيب إذ أقبل أبو محمد عليهالسلام من دار العامة يوم الموكب ، فنظر إليّ وأشار بسبّابته :أحد أحد فرد ، فسقطت مغشياًعليّ »(3) .
وأدّب أصحابه على عدم الترحّم عليهم ولو كانوا ذوي قربى ، فقد نقل الإربلي عن دلائل الحميري بالاسناد عن أبي سهل البلخي ، قال : « كتب رجل يسأل الدعاء لوالديه ، وكانت الأمّ مؤمنة ، والأب ثنوياً ، فوقّع :رحم الله والدتك ، والتاء منقوطة »(4) .
__________________
(1) رجال الغمة 3 : 312 ، بحار الأنوار 50 : 274 / 46 عن الخرائج والجرائح.
(2) رجال الكشي 2 : 762 / 875.
(3 و 4) أصول الكافي 1 : 511 / 20 باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام من كتاب الحجة.
ووقف الإمام العسكري عليهالسلام بوجه بعض الوضّاعين والصوفية المتصنعين ، وعرّف أصحابه بسوء نواياهم ، وأمرهم بالبراءة منهم لئلا يفسدوا عقائدهم ، ومنهم عروة بن يحيى الدهقان الذي كان يكذب على الإمام عليهالسلام وعلى أبيه من قبله ، ويختلس الأموال التي ترد على الإمام عليهالسلام .
روى الكشي بالاسناد عن محمد بن موسى الهمداني ، قال : « إن عروة بن يحيى البغدادي المعروف بالدهقان ( لعنه الله ) كان يكذب على أبي الحسن علي بن محمد ابن الرضا عليهالسلام وعلى أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام بعده ، وكان يقتطع أمواله لنفسه دونه ، ويكذب عليه حتى لعنه أبو محمد عليهالسلام وأمر شيعته بلعنه ، ودعا عليه بقطع الأموال لعنه الله »(1) .
وفي المناقب لابن شهر آشوب : « كان عروة الدهقان كذب على علي بن محمد ابن الرضا ، وعلى أبي محمد الحسن بن علي العسكري بعده ، ثمّ أنه أخذ بعض أمواله فلعنه أبو محمد عليهالسلام ، فما أمهل يومه ذلك وليلته حتى قبض إلى النار »(2) .
ومنهم أحمد بن هلال العبرتائي ، الذي عدّه الشيخ الطوسي من الوكلاء المذمومين(3) ، وكان يتظاهر بالتدين والورع والزهد ، ويخفي الانحراف في العقيدة والعمل وسوء الطوية ، فأطلق عليه الإمام عليهالسلام لفظ ( الصوفي المتصنّع ) وكتب إلى أصحابه يحذرهم إياه ويبيّن سوء سيرته وفساد مذهبه في أكثر من توقيع.
قال الشيخ الطوسي : « روى محمد بن يعقوب ، قال : خرج إلى العمري في
__________________
(1) رجال الكشي 2 : 842 / 1086.
(2) المناقب 4 : 467.
(3) راجع : الغيبة : 353 / 313.
توقيع طويل اختصرناه :ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ابن هلال لا رحمه الله ، وممن لا يبرأ منه ، فأعلم الاسحاقي وأهل بلده مما أعلمناك من حال هذا الفاجر ، وجميع من كان سألك ويسألك عنه »(1) .
وروى الكشي بالاسناد عن أبي حامد أحمد بن إبراهيم المراغي ، قال : « ورد على القاسم بن العلاء نسخة ماكان خرج من لعن ابن هلال ، وكان ابتداء ذلك أن كتب عليهالسلام إلى قوّامه بالعراق :احذروا الصوفي المتصنع.
قال : وكان من شأن أحمد بن هلال أنه قد كان حجّ أربعاً وخمسين حجة ، عشرون منها على قدميه ، قال : وكان رواة أصحابنا بالعراق لقوه وكتبوا منه ، فأنكروا ما ورد في مذمّته ، فحملوا القاسم بن العلاء على أن يراجع في أمره ، فخرج إليه :قد كان أمرنا نفذ إليك في المتصنّع ابن هلال لا رحمه الله بما قد علمت ، لم يزل ـ لا غفر الله له ذنبه ولا أقاله عثرته ـ يداخل في أمرنا بلا إذن منا ولا رضىً ، يستبد برأيه ، فيتحامىٰ من ديوننا ، لا يمضي من أمرنا إياه إلا بما يهواه ويريد ، أرداه الله في نار جهنم ، فصبرنا عليه حتى بتر الله عمره بدعوتنا ، وكنا قد عرّفنا خبره قوماً من موالينا ، في أيامه ، لا رحمه الله ، وأمرناهم بالقاء ذلك إلى الخاص من موالينا ونحن نبرأ إلى الله من ابن هلال لا رحمه الله وممن لا يبرأ منه الى أن يقول عليهالسلام :فإنّه لا عذر لأحدٍ من موالينا في التشكيك فيما يؤديه عنا ثقاتنا ، قد عرفوا بأنّنا نفاوضهم سرنا ونحمله إياه إليهم » إلى آخر التوقيع(2) .
__________________
(1) الغيبة : 353 / 313.
(2) رجال الكشي 2 : 816 / 1020.
نسبت إلى الإمام العسكري عليهالسلام عدّة كتب ونسخ ومسائل في مجال الأحكام والشرائع والتفسير وغيرها ، كما وصلتنا العديد من كتبه ورسائله ومواعظه ووصاياه مدونة في مصادر الحديث والرجال المعتبرة ، نذكرها كما يلي :
1 ـ كتاب عمل ، ولعلّه يشبه الرسائل العملية في أحكام العبادات والمعاملات. روى النجاشي في ترجمة محمد بن أحمد بن عبد الله بن مهران بن خانبه الكرخي ، بالاسناد عن الصفواني ، قال : « حدّثنا الحسن بن محمد بن الوجناء ، أبو محمد النصيبي ، قال : كتبنا إلى أبي محمد عليهالسلام ، نسأله أن يكتب أو يخرج إلينا كتاباً نعمل به ( يعمل به ) فأخرج إلينا كتاب عمل. قال الصفواني : نَسَخْتُهُ ، فقابل به كتاب ابن خانبه زيادة حروف أو نقصان حروف يسيرة »(1) .
2 ـ كتاب المقنعة ، قال ابن شهر آشوب : « خرج من عند أبي محمد عليهالسلام في سنة خمس وخمسين ومائتين كتاب ترجمة في جهة(2) رسالة المقنعة ، يشتمل على أكثر علم الحلال والحرام ، وأوله : أخبرني علي بن محمد بن موسى. وذكر الحميري في كتاب سماه ( المكاتبات الرجال عن العسكريين عليهماالسلام ) من قطعه ومن
__________________
(1) رجال النجاشي : 346 / 935.
(2) كذا.
أحكام الدين »(1) .
وسماه الشيخ آقا بزرك كتاب المنقبة ، قال : « كتاب المنقبة ، المشتمل على أكثر الأحكام ومسائل الحلال والحرام ، عن مناقب ابن شهر آشوب ، والصراط المستقيم للبياضي أنه تصنيف الإمام أبي محمد العسكري عليهالسلام ، حكاه الميرزا محمد هاشم في آخر رسالته في ( فقه الرضا عليهالسلام ) وجعل الاحتمال الخامس اتحاده مع هذا الكتاب »(2) .
وفي ( إقبال الأعمال ) للسيد ابن طاووس عليهالسلام عند ذكره إسناد أكثر الأدعية اختصاراً ، وهو دعاء وجده يُدعى به بين كلّ ركعتين من نوافل شهر رمضان ، قال : « علي بن عبد الواحد باسناده إلى رجاء بن يحيى بن سامان ، قال : خرج إلينا من دار سيدنا أبي محمد الحسن بن علي صاحب العسكري سنة خمس وخمسين ومائتين ، فذكر الرسالة المقنعة بأسرها »(3) .
وذكرها النجاشي بنفس العنوان في ترجمة رجاء بن يحيى غير أنه يوحي أنّها للإمام الهادي عليهالسلام ، قال : « رجاء بن يحيى بن سامان ، أبو الحسين العبرتائي الكاتب ، وروى عن أبي الحسن علي بن محمد صاحب العسكر عليهالسلام ، وقيل : إنّ سبب وصلته كانت به : أن يحيى بن سامان وكلّ برفع خبر أبي الحسن عليهالسلام ، وكان إمامياً فحظيت منزلته ، وروى رجاء رسالة تسمّىٰ المقنعة في أبواب
__________________
(1) كذا ، والظاهر : منه قطعة في أحكام الدين. راجع المناقب 4 : 457.
(2) الذريعة / آقا بزرك 23 : 149 / 8450.
(3) إقبال الأعمال : 282 ـ الباب التاسع ـ ادعية عقيب كلّ نافلة من شهر رمضان ـ مؤسسة الأعلمي ـ لبنان.
الشريعة ، رواها عنه عليهالسلام أبو المفضّل الشيباني »(1) .
3 ـ مسائل وجوابات ، رواها عنه عليهالسلام محمد بن سليمان بن الحسن بن الجهم بن بُكير بن أعين الزراري ، المولود سنة 237 ه ، والمتوفّى سنة 301 ه(2) .
4 ـ مسائل رواها عنه عليهالسلام محمد بن علي بن عيسىٰ القمي(3) .
5 ـ نسخة رواها عنه عليهالسلام عبدان بن محمد الجُويني ، أبو مُعاذ(4) .
6 ـ مسائل له عليهالسلام على يد محمد بن عثمان العمري ، جمعها عبد الله بن جعفر الحميري(5) .
7 ـ مسائل وتوقيعات له عليهالسلام ، جمعها أيضاً عبد الله بن جعفر الحميري(6) .
8 ـ مسائل كتب بها إليه عليهالسلام محمد بن الحسن الصفار القمي(7) .
9 ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليهالسلام ، وهو يحتوي على تفسير سورتي الحمد والبقرة مع استطرادات كثيرة ، وقد طبع في طهران مستقلاً سنة 1268 ه ش ، واُخرى سنة 1315 ه ش في حواشي تفسير علي بن إبراهيم القمي ، وطبع في قم محققاً سنة 1409 ه ، بالاعتماد على نسخ أقدمها المؤرخة سنة 886 ه.
قيل : إن الرجلين اللذين يرويان التفسير عن الإمام عليهالسلام مجهولاً الحال ،
__________________
(1) رجال النجاشي : 166 / 439.
(2) رجال النجاشي : 347 / 937.
(3) رجال النجاشي : 371 / 1010.
(4) رجال النجاشي : 304 / 831.
(5 و 6) رجال النجاشي : 220 / 573.
(7) الفهرست / الطوسي : 408 / 622.
وأن في سنده اضطراباً ، وفي متنه خلط وتعارض وتهافت لا يصح نسبتها إلى المعصوم عليهالسلام .
من هنا اختلفت كلمة العلماء في صحّة صدوره واعتباره وحجيته نفياً وإثباتاً ، وقد ألف الشيخ محمد جواد البلاغي ت 1352 ه رسالة في نسبة هذا التفسير ، فصّل فيها أوجه الاضطراب والخلط ، وخلص إلى كونه موضوعاً مكذوباً على الإمام عليهالسلام . وجمع الشيخ رضا استادي أقوال العلماء جميعاً حول هذا الكتاب سنداً ومتناً في مجلة ( نور علم )(1) .
نقل المحدثون مزيداً من الرسائل والوصايا والأدعية والحكم والمواعظ التربوية والبيانات التفصيلية في تفسير القرآن وغيرها ، وقد خاطب بها الإمام العسكري عليهالسلام أصحابه في مختلف ديار الإسلام ، موجهاً إلى الأخلاق الحميدة والصفات الكريمة ، مبيناً مفاهيم الإسلام وتعاليمه السامية وعقائده الحقّة ، حاثاً على العمل بها ، موضحاً أحكام الشريعة ومسائل الحلال والحرام ، وفيما يلي نذكر نماذج منها ، أو نكتفي بذكرها مع الاشارة إلى مظانها.
1 ـ قصار الحكم والمواعظ ، وهي تجري مجري مواعظ آبائه عليهمالسلام في جزالة ألفاظها ومتانة اُسلوبها وعمق محتواها ، وقد وصف ابن أبي الحديد باب الحكم والمواعظ من نهج البلاغة بقوله : « اعلم أنّ هذا الباب من كتابنا كالروح من البدن ، والسواد من العين ، وهو الدرّة المكنونة التي سائر الكتاب صدفها »(2) .
__________________
(1) العدد 1 ـ السنة الثانية ص 118 ـ 151.
(2) شرح ابن أبي الحديد 18 : 81.
ومن مواعظ الإمام العسكري عليهالسلام قوله :« لا تمارِ فيذهب بهاؤك ، ولا تمازح فيُجْتَرأ عليك. ليست العبادة كثرة الصيام والصلاة ، وإنّما العبادة كثرة التفكّر في أمر الله. بئس العبد يكون ذا وجهين وذا لسانين ، يطري أخاه شاهداً ، ويأكله غائباً ، إن اُعطي حسده ، وإن ابتُلي خانه. الغضب مفتاح كلّ شرّ. أقلّ الناس راحةً الحقود. الاشراك في الناس أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة. أورع الناس من وقف عند الشبهة. أعبد الناس من أقام على الفرائض. أزهد الناس من ترك الحرام. أشدّ الناس اجتهاداً من ترك الذنوب. إنّكم في آجال منقوصة وأيام معدودة ، والموت يأتي بغتة. قلب الأحمق في فمه ، وفم الحكيم في قلبه. لا يشغلك رزق مضمون عن عمل مفروض. ما ترك الحقّ عزيز إلا ذلّ ، ولا أخذ به ذليل إلا عزّ. جرأة الولد على والده في صغره تدعوا إلى العقوق في كبره. من وعظ أخاه سراً فقد زانه ، ومن وعظه علانية فقد شأنه. ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبةٌ تذلّة ! أضعف الأعداء كيداً من أظهرعداوته. لا يعرف النعم إلا الشاكر ، ولا يشكر النعمة إلا العارف. حسن الصورة جمال ظاهر ، وحسن العقل جمال باطن. إذا نشطت القلوب فأودعوها ، وإذا نفرت فودّعوها. من ركب ظهر الباطل نزل به دار الندامة. السهر ألذّ للمنام ، والجوع أزيد في طيب الطعام. إن الوصول إلى الله عزوجل سفر لا يدرك إلا بامتطاء الليل. من لم يحسن أن يمنع لم يحسن أن يعطي » (1) وغيرها من الحكم البليغة والمواعظ الحكيمة التي تجري على هذا المنوال.
__________________
(1) تحف العقول : 360 ـ 363 ، بحار الأنوار 78 : 370 ـ 380 ـ باب 29.
2 ـ كتب إليه عليهالسلام بعض بني أسباط كتاباً يعرّفه اختلاف الشيعة في إمامته ، فأجابه بكتاب بيّن فيه طبقات الناس في الاعتقاد بإمامته عليهالسلام ، ودعاه إلى أن يدع من ذهب يميناً وشمالاً من أهل الباطل ، وحذّره من الإذاعة وطلب الرئاسة ، وأمر أصحابه بتقوى الله وأداء الامانة(1) .
3 ـ كتابه عليهالسلام إلى أهل قم وآبة ، أوصاهم فيه بالسير على هدى أسلافهم في التمسك بمودة أهل البيت عليهمالسلام ، باعتبارها منهاج الصدق وسبيل الرشاد ومورد الفائزين(2) .
4 ـ كتابه عليهالسلام إلى أبي الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، أوصاه فيه بالصبر وانتظار الفرج في زمان غيبة ولده الحجة عليهالسلام (3) ، وقد تقدّم بعضه في المبحث الأول من هذا الفصل.
5 ـ كتاب طويل كتبه عليهالسلام إلى إسحاق بن إسماعيل النيسابوري ، يحتوي على جملة وصايا عقائدية وأخلاقية ، أوصى فيه شيعته بطاعة الله ورسوله واُولي الأمر من عترة النبي المعصومين عليهمالسلام ، وبين فيه فرائض الدين ، وبعض الأوامر والنواهي إلى وكلائه عليهالسلام (4) .
6 ـ كتاب إلى شيعته ، فيه وصايا مهمة ، نذكره بنصّه لما فيه من جوامع الكلم وجملة مبادئ الاسلام ، قال عليهالسلام :« اُوصيكم بتقوى الله ، والورع في
__________________
(1) تحف العقول : 360 ، بحار الأنوار 50 : 296 / 70 عن كشف الغمة 3 : 293.
(2) مناقب ابن شهر آشوب 4 : 458.
(3) مناقب ابن شهر آشوب 4 : 458.
(4) تحف العقول : 358 ، رجال الكشي 2 : 844 / 1088 ، بحار الأنوار 50 : 319 / 16.
دينكم ، والاجتهاد لله ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من بَرّ أو فاجر ، وطول السجود ، وحسن الجوار ، فبهذا جاء محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم .
صلّوا في عشائرهم ، واشهدوا جنائزهم ، وعودوا مرضاهم ، وأدّوا حقوقهم ، فانّ الرجل منكم إذا ورع في دينه ، وصدق في حديثه ، وأدّى الأمانة ، وحسن خلقه مع الناس ، قيل : هذا شيعي ، فيسّرني ذلك.
اتقوا الله ، وكونوا زيناً ، ولا تكونوا شيناً ، جرّوا إلينا كلّ مودة ، وادفعوا عنا كلّ قبيح ، فإنّه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله ، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك لنا في كتاب الله ، وقرابة من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلا كذاب. أكثروا ذكر الله ، وذكر الموت ، وتلاوة القرآن ، والصلاة على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنّ للصلاة على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عشر حسنات ، احفظوا ما وصّيتكم به وأستودعكم الله ، وأقرأ عليكم السلام » (1) .
7 ـ الصلوات على النبي والآل عليهمالسلام ، وهي طويلة ، رواها الشيخ الطوسي بالاسناد عن أبي محمد عبد الله بن محمد العابد ، قال : « سألت مولاي أبا محمد الحسن بن علي عليهالسلام في منزله بسرّ من رأى ، سنة خمس وخمسين ومائتين ، أن يملي عليَّ من الصلاة على النبي وأوصيائه عليه وعليهم السلام ، واحضرت معي قرطاساً كثيراً ، فأملى عليَّ لفظاً من غير كتاب »(2) .
8 ـ الأدعية والزيارات ، وهي كثيرة ، منها : دعاؤه عليهالسلام قبل اصفرار
__________________
(1) تحف العقول : 361.
(2) مصباح المتهجد : 399 ـ أعمال الجمعة ـ مؤسسة فقه الشيعة ـ بيروت.
الشمس(1) ، ودعاؤه عند الصباح(2) ، ودعاؤه في القنوت(3) ، ودعاؤه على موسى بن بغا حينما شكاه أهل قم(4) ، ودعاؤه عقيب كلّ نافلة من نوافل شهر رمضان(5) ، ودعاؤه عند دخول المسجد(6) ، ودعاؤه للحوائج ، رواه عنه عليهالسلام عبد الله بن جعفر الحميري ، وهو دعاء طويل كتبه إلى أحد أصحابه ، وكان قد أرسل إليه عليهالسلام رقعة من الحبس يذكر فيها ثقل الحديد وسوء الحال وتحامل السلطان(7) ، وزيارة أمير المؤمنين عليهالسلام في يوم الغدير(8) ، والدعاء في يوم ولادة الإمام الحسين عليهالسلام ، خرج في توقيع منه عليهالسلام إلى القاسم بن العلاء الهمداني(9) ، وغيرها كثير.
لا ريب أن دور الأئمة عليهمالسلام في تبليغ أحكام الشريعة والتحديث والافتاء يختلف بحسب الظروف السياسية المحيطة بهم ، ومقدار الحرية المتاحة لهم ، وقد
__________________
(1) مصباح المجتهد : 517 ـ أدعية الساعات.
(2) مهج الدعوات : 277.
(3) مهج الدعوات : 62 ، بحار الأنوار 85 : 228.
(4) مهج الدعوات : 67 ، بحار الأنوار 85 : 229 / 1.
(5) إقبال الأعمال : 282 ـ الباب التاسع ـ أدعية عقيب كلّ نافلة من نوافل شهر رمضان.
(6) بحار الأنوار 84 : 27 / 21 عن جمال الاسبوع للسيد ابن طاوس مسنداً عنه عليهالسلام .
(7) بحار الأنوار 102 : 238 / 5.
(8) بحار الأنوار 100 : 359 / 6.
(9) مصباح المتهجد : 826 ـ شعبان.
ذكرنا أنّ إمامنا العسكري عليهالسلام كان رهينة بيد السلطة التي مارست معه أعلى حالات التغييب والاقصاء ، فضلاً عن أنه عليهالسلام كان محكوماً بحالة الاحتجاب التي يهيء من خلالها شيعته لزمان الغيبة.
ورغم هذا وذاك استطاع إمامنا الممتحن عليهالسلام أن يقدّم إسهامات جادة على طريق الحفاظ على أصول الشريعة وقيم الرسالة ، وإيصال سنن جده المصطفى وآبائه الكرام ( صلوات الله عليهم ) إلى قطاعات واسعة من الأمة ، وذلك على يد ثلّة من أصحابه ووكلائه وطلاب مدرسته الفقهاء الرواة المنتشرين في طول البلاد وعرضها ، الذين حرصوا علي تبليغ رسالته عليهالسلام وإيصال كتبه ورسائله ، وهي تحمل أحكام الشريعة وفكرها الأصيل ، إلى قواعده في مختلف ديار الإسلام.
ويمكن أن نتلمس دور الإمام عليهالسلام في تبليغ أحكام الشريعة من خلال النقاط التالية :
أولاً : الرسائل والمسائل التي رواها عنه عليهالسلام أصحابه أو أخرجها إليهم ، سيما التي تخصّ أحكام الدين وعلم الحلال والحرام ، وقد ذكرناها في أول هذا المبحث ...
ثانياً : ما روي عنه عليهالسلام مكاتبة أو مشافهة في مجال الأحكام والسنن ، وقد بلغت أكثر من مئة حديث كما في مسنده عليهالسلام (1) ، وهي موزّعة على أبواب الفقه وموضوعاته المختلفة.
وروى عنه العامة حديثاً في تحريم الخمر واعتمدوه في بعض مصنّفاتهم ،
__________________
(1) راجع : مسند الإمام العسكري عليهالسلام / العطاردي : 239 ـ 280.
قال سبط ابن الجوزي في ترجمة الإمام عليهالسلام : « كان عالماً ثقة ، روى الحديث عن أبيه عن جده ومن جملة مسانيده حديث في الخمر عزيز ، ذكره جدّي أبو الفرج في كتابه المسمى ( تحريم الخمر ) ونقلته من خطه وسمعته يقول » ثمّ أورد الإسناد من جده إلى أحمد بن عبد الله السبيعي ، عن الحسن بن علي العسكري عليهالسلام ، عن آبائه عليهمالسلام ، عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، عن جبرئيل ، عن ميكائيل ، عن إسرافيل ، عن اللوح المحفوظ ، ولفظ الحديث« شارب الخمر كعابد الوثن » .
قال : « ولما روى جدّي هذا الحديث في كتاب ( تحريم الخمر ) قال : قال أبو نعيم الفضل بن دكين : هذا حديث صحيح ثابت روته العترة الطيبة الطاهرة ، ورواه جماعة عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم منهم : ابن عباس ، وأبو هريرة ، وأنس ، وعبد الله بن أبي أوفى الأسلمي في آخرين »(1) .
ثالثاً : تنشئة جيل من أصحابه الرواة والفقهاء والمؤلفين ، ولا ريب أن دور الإمام عليهالسلام وملامح عمله تنكشف من خلال عمل أتباعه المعتمدين ، ويتعمق ذلك بمقدار اشتداد الظروف الداعية إلى السرية والاحتجاب.
وقد حرص الإمام العسكري عليهالسلام على الإتصال بأقطاب مدرسة آبائه عليهالسلام من خلال ممثلية من القيّمين والوكلاء المنتشرين في البلدان ، باتباع اسلوب المكاتبة والمراسلة ، وكان عليهالسلام يتبع مختلف الوسائل لإضفاء طابع السرية على الاتصال بهم ، حتى ورد أنه عليهالسلام كان يضع الكتب في خشبة كأنّها رجل باب مدورة طويلة ملء الكف ، ويدفعها إلى أحد الخدم ليوصلها إلى العمري ، كما
__________________
(1) تذكرة الخواص : 324.
ورد في رواية داود بن الأسود(1) .
وبالمقابل كان أصحابه يتفانون لأجل اللقاء به ، فإذا حظي أحدهم بذلك ، لم تطب نفسه ان يفوته حديثه ولو أضناه العطش ، روى ابن شهر آشوب عن أبي العباس محمد بن القاسم ، قال : « عطشت عند أبي محمد عليهالسلام ، ولم تطب نفسي أن يفوتني حديثه ، وصبرت على العطش وهو يتحدّث ، فقطع الكلام وقال :يا غلام أسق أبا العباس ماءً »(2) .
وكانوا يدقّقون في معرفة خطّه عليهالسلام لتفادي حالة الوضع والتزوير ، فيطلبون منه عليهالسلام أن يكتب لهم نموذجاً من خطّه ، ومنهم أحمد بن إسحاق الأشعري القمي ، وكان من خاصته وثقاته ، ومُوفَد القميين إلى الإمام عليهالسلام ، قال : « دخلت على أبي محمد عليهالسلام فسألته أن يكتب لأنظر إلى خطّه فأعرفه إذا ورد ، فقال :نعم ، ثم قال :يا أحمد ، إنّ الخطّ سيختلف عليك ما بين القلم الغليظ والقلم الدقيق فلا تشكنّ ، ثمّ دعا بالدواة »(3) .
وكانوا يدفعون كتبهم وما يجب عليهم من الأموال إلى الوكلاء الذين يغطّون على عملهم بمختلف الوسائل ، فكان أبوعمرو عثمان بن سعيد العمري يجعلها في جراب السمن وزقاقه ويحملها إلى الإمام العسكري عليهالسلام تقيةً وخوفاً ، وقد قيل له السمّان لأنه كان يتجر في السمن تغطيه على هذا الأمر(4) .
__________________
(1) مناقب ابن شهر آشوب 4 : 460.
(2) مناقب ابن شهر آشوب 4 : 472.
(3) مناقب ابن شهر آشوب 4 : 466.
(4) راجع : غيبة الشيخ الطوسي : 354.
وكان بعضهم يكاتب الإمام عليهالسلام عن طريق الخدم ، فقد كتب جعفر بن محمد القلانسي كتاباً إلى الإمام العسكري عليهالسلام يسأله عن مسائل كثيرة ، ودفعه مع محمد بن عبد الجبار الخادم ليوصله إليه عليهالسلام (1) .
ومارس الإمام عليهالسلام دور التربية والتوجيه والاعداد لخاصة أصحابه وقاعدته المؤمنة بمرجعيته الفكرية والروحية ، لتحصينهم من الانحراف العقائدي والفكري ، وتسليحهم بالفقه والمعرفة ، ونظرة واحدة إلى رسائله ووصاياه التي قدمناه بعضها ، تعتبر خير دليل على متابعة الإمام عليهالسلام لأصحابه وإشرافه على مختلف شؤونهم.
وكان من نتائج ذلك الاشراف والتواصل بين الإمام عليهالسلام وقاعدته أن اكتملت في عصره عليهالسلام معالم مدرسة الفقهاء الرواة الذين كانوا يعيشون في أوساط الناس ، وينقلون إليهم الأحكام والسنن والعقائد ، واستوفت تلك المدرسة كلّ متطلبات المدرسة العلمية من حيث المنهج والمصدر والمادة ، ومهّدت بذلك لعهد الغيبة الصغرى حيث انبثقت عنها مدرسة الفقهاء المحدثين(2) .
ولغرض الاطلاع على سعة تلك المدرسة وامتداد مرجعية الإمام العسكري عليهالسلام ومكانته العلمية ودوره في التشريع ، نذكر بعض أقطاب تلك المدرسة الثقات والمؤلفين وكما يلي :
__________________
(1) كشف الغمة 3 : 296 ، بحار الأنوار 50 : 298.
(2) راجع : تاريخ التشريع الاسلامي / د. عبد الهادي الفضلي : 194 وما بعدها ـ الكتاب الاسلامي ـ 1414 ه.
استطاعت شريحة واسعة من عشّاق مدرسة أهل البيت عليهمالسلام التواصل مع الإمام العسكري عليهالسلام بشتى الوسائل ، فتحمّلوا الرواية عنه ، وبلغوا الفتاوى والأحكام الصادرة عنه ، وأسهموا في نشر مبادئ تلك المدرسة.
وبلغ عدد الرواة عن الإمام أبي محمد العسكري عليهالسلام (103) كما في رجال الشيخ الطوسي(1) ، وإذا ضممنا إليهم ما ورد في رجال البرقي ومناقب ابن شهر آشوب ومسند الإمام العسكري ، وما وقعوا في إسناد الأخبار والتواقيع والمكاتبات ، يكون العدد (216) من عير تكرار ، وهو عدد كبير يدلّ على سعة الدور العلمي البارز الذي اضطلع به أصحاب الإمام العسكري مع قسوة الظروف المحيطة بعملهم ، ويدلّ على سموّ المقام المعرفي والمكانة العلمية التي يمثلها الإمام العسكري عليهالسلام ، لأنّ الرواة كانوا يمثلون أساتذة المجتمع أنذاك وليسوا مجرد أشخاص يسألون ويروون.
ومن الطبيعي أن هذا العدد من الرواة ، لم يكونوا على نمط واحد في العلم والمعرفة والثقة ، بل هم درجات متفاوتة ، وفما يلي نقتصر على ذكر الثقات منهم ، وهم : إبراهيم بن أبي حفص الكاتب ، إبراهيم بن عبدة النيسابوري ، أحمد بن إدريس القمي ، أحمد بن إسحاق بن عبد الله الأشعري ، أحمد بن الحسن ابن علي بن فضال ، إسحاق بن إسماعيل النيسابوري ، إسحاق بن الربيع الكوفي ، الحسن بن ظريف ، الحسن بن علي بن النعمان ، الحسين بن اشكيب المروزي ، الحسين بن مالك القمي ، حمدان بن سليمان النيسابوري ، داود بن أبي زيد
__________________
(1) راجع : رجال الشيخ : 395 ـ 403.
النيسابوري ، داود بن القاسم الجعفري ، الريان بن الصلت ، السندي بن الربيع ، علي بن جعفر وكيله عليهالسلام ، عبد الله بن جعفر الحميري ، عبد الله بن محمد بن خالد الطيالسي ، عثمان بن سعيد العمري وكيله عليهالسلام ، علي بن بلال ، الفضل بن شاذان النيسابوري ، محمد بن أحمد بن جعفر القمي ، محمد بن بلال ، محمد بن الحسن الصفار ، محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، محمد بن الريان بن الصلت ، محمد بن أبي الصهبان ، محمد بن عثمان العمري ، محمد بن علي بن بلال ، محمد بن علي بن محبوب الأشعري القمي ، محمد بن عيسىٰ بن عبيد اليقطيني ، هارون بن مسلم ابن سعدان ...
هؤلاء هم الذين ورد فيهم التوثيق من علماء الرجال ، ولو أردنا أن نذكر كلّ من ورد فيه مدح من أصحاب الإمام العسكري عليهالسلام لطال بنا المقام.
ومن بين الرواة من أصحابه عليهالسلام من اشتغل بالتصنيف في مجال الأحكام والسنن والعقائد وغيرها ، وقد صارت كتبهم منذ ذلك الوقت مصادر يُستقى منها العلم ، ومناهل تؤخذ منها المعرفة ، واُصولاً لمجاميع الحديث التالية لها ، ولا يزال بعضها متداولاً إلى اليوم كبصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار.
وفيما يلي نذكر أسماء المؤلفين من أصحاب الإمام العسكري ، ومن أراد التوسّع في معرفة مؤلفاتهم فليرجع إلى كتب الرجال ، وهم : أبو إسحاق إبراهيم ابن أبي حفص الكاتب ، إبراهم بن مهزيار الأهوازي ، أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الكاتب النديم ، أحمد بن إدريس القمي ، أحمد بن إسحاق بن عبد الله الأشعري ، أحمد بن الحسن بن علي بن فضال ، أحمد بن محمد بن سيار السياري ،
أيوب بن نوح بن دراج النخعي ، الحسن بن ظريف ، الحسن بن علي بن النعمان ، الحسن بن موسى الخشاب ، الحسين بن اشكيب المروزي ، داود بن أبي زيد النيسابوري ، داود بن القاسم الجعفري ، رجاء بن يحيى بن سامان العبرتائي ، سعد بن عبد الله الأشعري القمي ، أبو سعيد سهل بن زياد الآدمي ، أبو يحيى سهيل بن زياد الواسطي ، صالح بن أبي حماد الرازي ، عبد الله بن جعفر الحميري ، عبد الله بن محمد بن خالد الطيالسي الكوفي ، عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، علي بن بلال ، علي بن الحسن بن فضال الكوفي ، علي بن الريان بن الصلت الأشعري القمي ، الفضل بن شاذان ، محمد بن الحسن بن شمّون ، محمد بن الحسن بن فروخ الصفار ، محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، محمد بن عبد الحميد ابن سالم العطار ، محمد بن علي بن عيسىٰ الأشعري القمي ، محمد بن علي بن محبوب ، محمد بن عيسىٰ بن عبيد اليقطيني ، موسى بن جعفر البغدادي ، هارون ابن مسلم بن سعدان الكاتب.
رابعاً : تصحيح اُصول الحديث
وقف الإمام العسكري عليهالسلام على بعض الأصول الحديثية التي عرضت عليه ، فنظر فيها وتصفّحها ، أو قرئت عليه ، فقال فيها كلمته ، ومنها كتاب يوم وليلة ليونس بن عبد الرحمن ، وكتاب الفضل بن شاذان.
روى النجاشي بالاسناد عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري ، قال : « عرضت على أبي محمد صاحب العسكر عليهالسلام كتاب يوم وليلة ليونس ، فقال لي :تصنيف من هذا ؟ فقلت : تصنيف يونس مولى آل يقطين. فقال :أعطاه الله
بكل حرف نوراً يوم القيامة »(1) . وفي هذا الكلام ما لا يخفى من الحثّ على سلامة التصنيف في الحديث.
وعن بورق البوشنجاني ، وكان معروفاً بالصدق والصلاح والورع والخير ، قال : « خرجت إلى سرّ من رأى ، ومعي كتاب يوم وليلة ، فدخلت على أبي محمد عليهالسلام وأريته ذلك الكتاب ، فقلت له : جعلت فداك ، إن رأيت أن تنظر فيه ، فلما نظر فيه وتصفحه ورقة ورقة ، قال :هذا صحيح ينبغي أن يُعمَل به »(2) .
وذكر الكشي أن الفضل بن شاذان عرض كتابه على الإمام العسكري عليهالسلام ، فتناوله منه ونظر فيه ، فترحّم عليه وقال :« أغبط أهل خراسان لمكان الفضل ابن شاذان ، وكونه بين أظهرهم » (3) .
وعن الحسين بن روح رضياللهعنه : أن أبا محمد الحسن بن علي صلوات الله عليهما ، قد سئل عن كتب بني فضّال : فقالوا : كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملأىٰ ؟ فقال صلوات الله عليه :« خذوا بما رووا ، وذروا ما رأوا » (4) .
وهذا عطاء فكري آخر ، لكنّه يدخل في إطار التأثّر بالسيرة العملية للإمام العسكري عليهالسلام ، المتمثلة بسموّ الاخلاق وحسن السمت والهدي والصلاح ، ممّا له الأثر في هداية واستبصار المترددين والمخالفين ، وإخراجهم من ظلمات الجهل
__________________
(1) رجال النجاشي : 447 / 1208 ترجمة يونس بن عبد الرحمن.
(2) رجال الكشي 2 : 817 / 1023 ، وسائل الشيعة 27 : 100 / 33321.
(3) رجال الكشي 2 : 820 / 1027 ، وسائل الشيعة 27 : 101 / 33322.
(4) غيبة الشيخ الطوسي : 390 / 355.
والضلال إلى نور العلم وصراط الهداية. فقد جاء في الأخبار أن أبا العلاء صاعد ابن مَخْلَد النصراني(1) ، وزير المعتمد ، أسلم على يد الإمام العسكري عليهالسلام بعد أن رأى دلالاته وهديه ومكارمه(2) .
كما أسلم على يده راهب دير العاقول ، فقد ورد أنّ الإمام العسكري عليهالسلام أراد مرةً أن يفتصد ، فبعث إلى بختيشوع الطبيب طالباً أن يرسل إليه أخصّ أصحابه عنده ليفصده ، فبعث إليه أعلم تلامذته ، وقال له : « قد طلب مني ابن الرضا من يفصده ، فصر إليه وهو أعلم في يومنا هذا بمن هو تحت السماء ، فاحذر أن لا تعترض عليه فيما يأمرك به » فوصف له الإمام عليهالسلام طريقة في الفصد لم يألفها في الطب ، ففصده وقدّم له تخت ثياب وخمسين ديناراً ، وقال عليهالسلام :« خذ هذا واعذرنا وانصرف » فتحيّر الطالب واستاذه بختيشوع في معرفة ما وصفه الإمام عليهالسلام في الفصد ، فبعث بخيتشوع تلميذه ومعه كتاب إلى راهب دير العاقول ، وكان أعلم النصارى في الطب ، في ذلك الوقت ، فلما قرأ الكتاب طلب منه أن يوافي معه إلى سامراء ، فوصلوا إلى دار الإمام عليهالسلام وقد بقي من اليل ثلثه ، ومكث عنده عليهالسلام إلى الصباح ، ثم خرج الراهب وقد رمى بثياب الرهبانية ، ولبس ثياباً بيضاً وقد أسلم ، فقال : « خذ بي الآن إلى دار اُستاذك ، قال : فصرنا إلى دار بختيشوع ، فلما رآه بادر يعدو إليه ، ثم قال : ما الذي أزالك عن دينك ؟
__________________
(1) قال الذهبي في ترجمته : الوزير الكبير ، أبو العلاء الكاتب ، أسلم ، وكتب للموفق ، ثم وزر للمعتمد ، وهو من نصارى كسكر ، وله صدقات وبرّ وقيام ليل ، توفي سنة 276 ه. سير أعلام النبلاء 13 : 326 / 149.
(2) بحار الأنوار 50 : 281 / 57 عن فرج المهموم لابن طاوس.
قال : وجدت المسيح فاسلمت على يده. قال : وجدت المسيح ؟! قال : أو نظيره ، فإنّ هذه الفصدة لم يفعلها في العالم إلا المسيح ، وهذا نظيره في آياته وبراهينه ، ثم انصرف إليه ولزم خدمته إلى أن مات »(1) .
وذكرنا في الفصل الثاني أن الإمام العسكري عليهالسلام حبس أكثر من مرّة ، ونقلت لنا الأخبار كيف كان تأثيره في محيط السجن بحيث انقلب المتصدّون لسجنه من بغضه والحقد عليه إلى حبّه والإخلاص له ، ذلك لأن الانسان في السجن يعيش حالة نفسية صعبة ، لكنهم وجدوه عليهالسلام في أعلى درجات الارتباط بالله سبحانه وفي أعمق مواقع الاخلاص له تعالى.
روى ثقة الاسلام الكليني بالاسناد عن محمد بن إسماعيل العلوي ، قال : « حُبس أبو محمد عليهالسلام عند علي بن نارمش ، وهو أنصب الناس ، وأشدّهم على آل أبي طالب ، وقيل له : افعل به وفعل ، فما أقام عنده الا يوماً حتى وضع خدّيه له ، وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً ، فخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرةً وأحسنهم فيه قولاً »(2) .
وهكذا يستسلم السجّان للسجين الذي لا يملك حولاً ولا قوة غير تأثيره الروحي ، فيضع خديه له متذللاً خاضعاً ، ولا يرفع بصره إجلالاً وهيبة ، لأنّه استطاع أن يقلب تفكيره ووجدانه وسلوكه ، فتحول من عدو شديد العداوة إلى صديق شديد الصداقة ، بل تحول إلى داعية إلى الإمام عليهالسلام .
__________________
(1) الخرائج والجرائح 1 : 422 ، بحار الأنوار 50 : 260 / 21.
(2) أصول الكافي 1 : 508 / 8 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام من كتاب الحجة.
وفي رواية بهذا الاتجاه عن علي بن عبد الغفّار ، قال : « دخل العباسيون على صالح بن وصيف ، عندما حبس أبا محمد عليهالسلام ، فقالوا له : ضيّق عليه ولا توسّع. فقال لهم صالح : وما أصنع به ؟! قد وكلت به رجلين من شرّ من قدرت عليه ، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم ، ثمّ أمر باحضار الموكلين فقال لهما : ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل ؟ فقالا له : ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله ، لا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة ، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا ، وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا ، فلمّا سمع العباسيون ذلك انصرفوا خاسئين »(1) .
إذن فالإمام عليهالسلام استطاع أن يؤثر فيهما بقوة شخصيته الرحبة ، وبالجو الروحاني الذي لم يجدا مثله ، الأمر الذي جعل صالح بن وصيف المتولي لسجن الإمام قد أعيته الحيل والوسائل كلّها في التأثير على الإمام عليهالسلام .
وامتدت آثار الإمام الروحية إلى قاعدة واسعة من الناس ، بما فيهم عوائل المتولين للسجن ، فقد روي الشيخ الكليني بالاسناد عن علي بن محمد ، عن بعض أصحابنا ، قال : « سُلّم أبو محمد عليهالسلام إلى نحرير ، فكان يضيق عليه ويؤذيه ، قال : فقالت له امرأته ، ويلك اتق الله ، لا تدري من في منزلك ؟ وعرّفته صلاحه وقالت : إني أخاف عليك منه »(2) .
هذه هي بعض آثار الإمام العسكري عليهالسلام في مخالفيه ، فعلينا أن ننفتح عليها لنزداد هدياً من هديه ، وعلماً من علمه ، ووعياً ممّا يعطينا من عناصر الوعي.
__________________
(1) أصول الكافي 1 : 512 / 23 ـ من نفس الباب المتقدم ، الإرشاد 2 : 334.
(2) أصول الكافي 1 : 513 / 26 ـ من نفس باب المتقدم.
الفصل السابع
شهادة الإمام العسكري عليهالسلام
ذكرنا أن الإمام العسكري عليهالسلام كان بصدد تهيئة شيعته لعصر الغيبة ، وكان من جملة أفعاله في هذا الاتجاه أنه نعى نفسه المقدسة لأصحابه في أكثر من مناسبة ، وكتب كتباً لهم قبل ليلة من وفاته ، كي لايفجأهم الأمر ولا يهولهم الاختلاف الحاصل بسبب الانتقال من الإمامة الظاهرة إلى عصر الإمامة الغائبة.
فقد ورد عن المسعودي : « أنه أمر أبو محمد عليهالسلام والدته بالحج في سنة 259 ، وعرّفها ما يناله في سنة (260) ، وأحضر الصاحب عليهالسلام فأوصى إليه ، وسلّم الاسم الأعظم والمواريث والسلاح إليه ، وخرجت اُمّ أبي محمد مع الصاحب عليهالسلام جميعاً إلى مكة ، وقبض عليهالسلام في شهر ربيع الآخر سنة 260 ه »(1) .
وعن محمد بن أبي الزعفران ، عن اُمّ أبي محمد عليهالسلام قالت : « قال لي أبو محمد يوماً من الأيام :تصيبني في سنة ستين حزازة أخاف أن أنكب فيها نكبة ،
__________________
(1) إثبات الوصية : 255 ـ 256 ، بحار الأنوار 50 : 336 / 13 عن عيون المعجزات مسنداً عن أحمد بن إسحاق بن مصقلة.
فإنّ سلمت فالى سنة سبعين ، قالت : فأظهرت الجزع وبكيت ، فقال :لابد لي من وقوع أمر الله فلا تجزعي »(1) .
وعن أبي غانم ، قال : « سمعت أبا محمد الحسن بن علي عليهالسلام يقول :في سنة مائتين وستين تفترق شيعتي . فيها قبض أبو محمد وتفرقت الشيعة وأنصاره »(2) .
وقال الشيخ الصدوق : « وجدت مثبتاً في بعض الكتب المصنفة في التواريخ ولم أسمعه إلا عن محمد بن الحسين بن عباد أنه قال : مات أبو محمد الحسن بن علي عليهالسلام يوم جمعة مع صلاة الغداة ، وكان في تلك الليلة قد كتب بيده كتباً كثيرة إلى المدينة ، وذلك في شهر ربيع الأول لثمان خلون منه سنة ستين ومائتين من الهجرة ، ولم يحضره في ذلك الوقت إلا صقيل الجارية ، وعقيد الخادم ومن علم الله عزوجل غيرهما »(3) .
قال الشيخ المفيد : مرض أبو محمد الحسن عليهالسلام في أول شهر ربيع الأول سنة 260 ه ، ومات يوم الجمعة لثمان خلون من هذا الشهر في السنة المذكورة(4) . وقد اتفق المؤرخون على أنّ شهادة الإمام العسكري عليهالسلام كانت في سنة 260 ه(5) ،
__________________
(1) بحار الأنوار 50 : 330 ، عن بصائر الدرجات : 482.
(2) إكمال الدين : 408 / 6 باب 38.
(3) إكمال الدين : 473 / 25 ـ باب 43 ذكر من شاهد القائم عليهالسلام ورآه وكلمه.
(4) الإرشاد 2 : 336.
(5) راجع : مروج الذهب 4 : 442 ، الكامل في التاريخ 6 : 249 ، تذكرة الخواص :
وذلك بعد مضي نحو أربع سنوات من خلافة المعتمد ، وأنه دفن إلى جنب أبيه عليهالسلام في داره بسرّ من رأى ، غير أنّهم اختلفوا في اليوم والشهر الذي استشهد فيه على عدة أقوال :
1 ـ يوم الجمعة الثامن من ربيع الأول ، وهو القول المشهور(1) .
2 ـ يوم الأحد الثامن من ربيع الأول(2) .
3 ـ اليوم الأول من ربيع الأول(3) .
__________________
324 ، مرآة الجنان / اليافعي 2 : 172 مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ، شذرات الذهب / ابن العماد 2 : 141 ، المنتظم / ابن الجوزي 12 : 158 ـ دار الكتب العلمية ، الانساب / السمعاني 4 : 194.
(1) راجع : أصول الكافي 1 : 503 باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام الإرشاد 2 : 313 و 336 ، التهذيب6 : 92 ـ كتاب المزار ـ باب 42 ، دلائل الإمامة : 424 ، مناقب ابن شهر آشوب 4 : 455 ، روضة الواعظين : 251 ، تاريخ بغداد 7 : 266 وزاد : وقيل يوم الاربعاء ، الفصول المهمة 2 : 1089 ، مرآة الجنان 2 : 172 على أحد قوليه ، مصباح الكفعمي : 510 على أحد قوليه ، التتمة في تواريخ الأئمة عليهمالسلام : 144 ، إعلام الورى 2 : 131 و 151 ، الأئمة الاثنا عشر لابن طولون : 113 وزاد : أو يوم الاربعاء ، بحار الأنوار 50 : 335 / 8 و 10 ، 336 / 7 عن كشف الغمة 3 : 272.
(2) الدروس / للشهيد الأول : 154 ـ نشر صادقي ـ قم ، بحار الأنوار 50 : 335 / 9 عنه.
(3) مصباح المجتهد / الشيخ الطوسي : 791 ، توضيح المقاصد / بهاء الدين العاملي : 519 ضمن مجموعة نفيسة ـ بصيرتي ـ قم ، مصباح الكفعمي : 510 على أحد قوليه ، بحار الأنوار 50 : 335 / 12 عنه.
4 ـ يوم الجمعة السادس من ربيع الأول(1) .
5 ـ في ربيع الآخر(2) .
6 ـ في الثامن من جمادي الاولى(3) .
استشهد الإمام العسكري عليهالسلام وهو في شرخ الشباب ، حيث كان له من العمر يوم شهادته 28 عاماً(4) ، وقيل : 29 عاماً(5) ، بحسب الاختلاف الذي مضى في تاريخ ولادته عليهالسلام .
إن دراسة الأخبار الواصلة إلينا عن المدّة القصيرة من إمامة الإمام العسكري عليهالسلام ( 254 ـ 260 ه ) تقودنا إلى الاعتقاد بأن السلطة العباسية كانت منذ زمن المعتز ( 252 ـ 255 ه ) بصدد الفتك بالإمام قبل أن يُولَد له ، ذلك لأنّها تعتقد أن المولود له هو المهدي الموعود خاتم أئمة الحق الاثني عشر الذي يقصم
__________________
(1) مرآة الجنان 2 : 172على أحد قوليه.
(2) إثبات الوصية / المسعودي : 256 ، بحار الأنوار 50 : 336 / 13 عن عيون المعجزات ، المنتظم 12 : 158.
(3) وفيات الأعيان 2 : 94 ، الأئمة الاثنا عشر لابن طولون : 113.
(4) أصول الكافي 1 : 503 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام الإرشاد 2 : 313 ، روضة الواعظين : 251 ، الصواعق المحرقة : 206 ـ القاهرة ، الفصول المهمة 2 : 1090 ، إعلام الورى 2 : 131.
(5) مروج الذهب 4 : 442 ، دلائل الإمامة : 423 ، إثبات الوصية : 256 ، تذكرة الخواص : 324 ، بحار الأنوار 50 : 236 / 7 عن كشف الغمة 3 : 272.
الجبارين ، ويبدد دول الظالمين ، ويرسي دعائم دولة الحق ، وينشر العدل والقسط ، وقد حاول المعتز تنفيذ تلك السياسة ، حيث أمر سعيد بن صالح الحاجب أن يحمل الإمام العسكري عليهالسلام إلى الكوفة ويضرب عنقه في الطريق ، فاجتهد الإمام عليهالسلام بالدعاء عليه ، فقتل قبل أن ينفذ عزمه(1) .
وروى ثقة الاسلام الكليني بالاسناد عن أحمد بن محمد بن عبد الله ، قال : « خرج عن أبي محمد عليهالسلام حين قتل الزبيري :هذا جزاء من اجترأ على الله في أوليائه ، يزعم أنه يقتلني وليس لي عقب ، فكيف رأى قدرة الله فيه ؟ وولد له ولد سماه محمداً »(2) .
وحاول المهتدي العباسي ( 255 ـ 256 ه ) تنفيذ هذه السياسة ، فهدّد الإمام عليهالسلام بالقتل قائلاً : « والله لأجلينهم عن جديد الأرض » غير أنه قتل قبل تنفيذ هذا الغرض(3) .
ولم يخرج المعتمد ( 256 ـ 279 ه ) عن هذا الإطار ، فتعرض الإمام العسكري عليهالسلام في زمانه لشتّىٰ أنواع التحديات والضغوط ، وحاول قتل الإمام عليهالسلام لنفس السبب الذي قدّمناه ، وهو الاطمئنان لانقطاع الإمامة دون
__________________
(1) راجع : المناقب لابن شهر آشوب 4 : 464 ، غيبة الطوسي : 208 / 177 ، الخرائج والجرائح 1 : 451 / 36 ، دلائل الإمامة : 427 / 391.
(2) أصول الكافي 1 : 329 / 5 باب الاشارة والنص إلى صاحب الدار ، إكمال الدين : 430 / 3 باب 42.
(3) أصول الكافي 1 : 510 / 16 باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام ، الإرشاد 2 : 333 ، وراجع : إثبات الوصية : 245 ، مهج الدعوات : 343 ، المناقب لابن شهر آشوب 4 : 463 ، غيبة الطوسي : 173 / 205 و 233 / 187.
نسل ، على الرغم من حدوث الولادة في زمان المعتمد ، لأن الدولة على المستوى الرسمي لم تكن مطلعة عليها ، بسبب اجراءات الإمام عليهالسلام القائمة على أساس الكتمان والسرية في هذا الأمر ، وأبى الله سبحانه إلا أن يتمّ نوره ، فأخفى وليه الذي ينتظره العالم كلّه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
روى الشيخ الصدوق بالاسناد عن سعد بن عبد الله ، قال : حدثني موسى ابن جعفر بن وهب البغدادي ، أنه خرج من أبي محمد عليهالسلام توقيع :« زعموا أنّهم يريدون قتلي ليقطعوا هذا النسل ، وقد كذب الله عزوجل قولهم والحمدلله » (1) وتكذيب قولهم كان بحدوث الولادة المباركة وحفظه مع أبيه عليهماالسلام من تحديات السلطة.
ومما تقدم يتبين أن واقع الحال يشير إلى أن المعتمد متّهم بقتل الإمام عليهالسلام ، فضلاً عن أنه ورد التصريح بموت الإمام عليهالسلام مسموماً عن كثير من محدثي الشيعة وغيرهم.
قال أمين الاسلام الطبرسي : « ذهب كثير من أصحابنا إلى أنه عليهالسلام مضى مسموماً ، وكذلك أبوه وجده وجميع الأئمة عليهمالسلام خرجوا من الدنيا بالشهادة ، واستدلوا على ذلك بما روي عن الصادق عليهالسلام من قوله :ما منا إلا مقتول شهيد. والله أعلم بحقيقة ذلك »(2) .
__________________
(1) إكمال الدين : 407 / 3 باب 38.
(2) إعلام الورى 2 : 131 ، وورد التصريح بموت الإمام العسكري عليهالسلام مسموماً في عدة مصادر اُخرى ، منها : الفصول المهمة 2 : 1093 ، مصباح الكفعمي : 510 وقال : سمه المعتمد ، دلائل الإمامة : 424 ، الصواعق المحرقة : 206 ، بحار
بناءً على ذلك فإنّ جميع الأئمة عليهمالسلام خرجوا من الدنيا بالقتل ، وليس فيهم من يموت حتف أنفه ، وقاتلهم دائماً هو الحاكم الذي يحذر نشاطهم ويتوجس منهم خيفة ، لأنهم يمثلون جبهة المعارضة ضد الانحراف الذي يمثله الحاكم(1) .
وصرّح بعض أعلام الشيعة في أرجازهم بموت الإمام عليهالسلام مسموماً من قبل المعتمد ، مؤكدين على ما يقوّي هذا الاحتمال وهو كون الإمام عليهالسلام في سن الشباب ، وأوج الصحة والقوة والعنفوان.
قال الحرّ العاملي في ارجوزته :
قتله بسمّه المعتمد |
بقوّة يرقّ منها الجلمد |
|
وعمره تسع وعشرون وقد |
قيل ثمان بعد عشرين فُقِد |
|
وعاش من بعد أبيه خمسا |
وقيل ستاً ثمّ حلّ الرمسا(2) |
وقال الشيخ محمد حسين الاصفهاني :
حتى قضىٰ العمر بما يقاسي |
فسمّه المعتمد العباسي |
|
قضى على شبابه مسموما |
مضطهداً محتسباً مظلوما |
|
فناحت الحور على شبابه |
وصبّت الدموع في مصابه |
__________________
الأنوار 50 : 335 / 12 ، إحقاق الحق 12 : 474 عن ينابيع المودة 3 : 113 ، و 12 : 475 عن أئمة الهدى ص 138 تأليف : محمد عبد الغفار الهاشمي الحنفي ، وقال فيه : دسّ له المعتمد العباسي سماً ، فتوفّي منه.
(1) راجع بحثاً مفصلاً حول هذا الموضوع في تاريخ الغيبة الصغرى / للسيد محمد صادق الصدر : 229.
(2) إحقاق الحق 12 : 462 ، عن نزهة الجليس للسيد عباس المكي 2 : 121.
وانصدت لرزئه الجبال |
كأنه الساعة والأهوال(1)
|
ورد في حديث طويل عن أحد أقطاب السلطة ما يبين موقف السلطة قبل شهادة الإمام عليهالسلام وبعدها ، ويستعرض موقف جعفر بن علي أخي الإمام عليهالسلام الذي كان يتربّص الفرصة لاحتلال موقع الإمامة كذباً وبهتاناً على الله سبحانه ، والحديث بمجموعه يشير إلى تأكيد تهمة السلطة بدم الإمام عليهالسلام .
قال أحمد بن عبيد الله بن خاقان في مجلس له بتاريخ شعبان سنة 278 ، يصف موقف جعفر بعد وفاة أخيه الإمام الحسن العسكري عليهالسلام ، قال : « والله لقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن علي عليهالسلام ما تعجبت منه ، وما ظننت أنه يكون ، وذلك أنه لما اعتل بعث إلى أبي أن ابن الرضا قد اعتلّ ، فركب من ساعته مبادراً إلى دار الخلافة ، ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة نفر من خدّام أمير المؤمنين كلهم من ثقاته وخاصته ، فمنهم نحرير ، وأمرهم بلزوم دار الحسن بن علي عليهالسلام وتعرّف خبره وحاله ، وبعث إلى نفر من المتطببين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً ، فلما كان بعد ذلك بيومين جاءه من أخبره أنه قد ضعف ، فركب حتى بكّر إليه ، ثم أمر المتطببين بلزومه ، وبعث إلى القضاء فأحضره مجلسه ، وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه ، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن عليهالسلام وأمرهم بلزوم داره ليلاً ونهاراً ، فلم يزالوا هناك حتى توفي عليهالسلام لأيام مضت من شهر ربيع
__________________
(1) الأنوار القدسية / الشيخ محمد حسين الاصفهاني : 109 ـ مؤسسة الوفاء ـ بيروت.
الأول من سنة ستين ومائتين ، فصارت سرّ من رأى ضجّة واحدة : مات ابن الرضا.
وبعث السلطان إلى داره من يفتشها ويفتش حجرها ، وختم على جميع ما فيها ، وطلبوا أثر ولده ، وجاءوا بنساء يعرفن بالحبل ، فدخلن على جواريه فنظرن إليهنّ ، فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل ، فأمر بها فجعلت في حجرة ، ووكّل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم ، ثمّ أخذوا بعد ذلك في تهيئته ، وعطّلت الأسواق ، وركب أبي وبنوهاشم والقواد والكتاب وسائر الناس إلى جنازته عليهالسلام ، فكانت سر من رأى يومئذٍ شبيهاً بالقيامة.
فلمّا وضعت الجنازة للصلاة دنا أبو عيسى منها ، فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء والمعدّلين ، وقال : هذا الحسن بن علي بن محمد ، ابن الرضا ، مات حتف أنفه على فراشه ، حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ، ومن المتطببين فلان وفلان ، ومن القضاة فلان وفلان ، ثمّ غطّى وجهه وقام فصلّى عليه وكبّر عليه خمساً ، وأمر بحمله فحمل من وسط داره ، ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه عليهالسلام .
فلما دفن وتفرق الناس اضطرب السلطان وأصحابه في طلب ولده ، وكثر التفتيش في المنازل والدور ، وتوقّفوا على قسمة ميراثه ، ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهموا عليها الحبل ملازمين لها سنتين وأكثر حتى تبين بطلان الحبل ، فقسم ميراثه بين اُمه وأخيه جعفر ، وادعت اُمّه وصيته ، وثبت ذلك عند
القاضي والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده »(1) .
فهذا الخبر يدلّ على أن المعتمد لم يكن بريئاً من دم الإمام عليهالسلام ، لذلك أراد من خلال تلك الاجراءات المذكورة في الخبر أن يدفع التهمة عن نفسه ويبقي ثوبه نقياً منها على المستوى العام الذي يشير إليه باصبع الاتهام ، وذلك بادعاء موته عليهالسلام حتف أنفه مع الاشهاد على ذلك ، ولو لم يكن ضالعاً في تلك الجريمة النكراء ، لما طلب من أول وفد أرسله إلى دار الإمام بملازمته وتعرف خبره وحاله ، لأنّه في ذلك يجزم بموت الإمام عليهالسلام ولا يبدي أدنى احتمالٍ في شفائه ، سيما وأنه شاب قوي البنية لا تؤثر في مثله الأمراض عادة ، كما أنه عيّن جماعة يترقّبون موته لكشف السرّ الذي لا زال يحتفظ به الإمام عليهالسلام منذ خمسة أعوام ، وهو المهدي عليهالسلام الذي أخفى مولده وستر أمره ، لصعوبة الوقت وشدة طلب السلطان له واجتهاده في البحث عنه ، من هنا فقد أمر السلطان قبل كلّ شيء أن تُفتَشْ داره ويختم على محتوياتها ، وأن يُطلَب أثر الولد ، وحينما تعييهم الوسائل يقبضون على اُمّ الإمام المهدي عليهالسلام ( صقيل ) ولم تنج من قبضتهم إلا بعد سنتين أو أكثر لجملة أحداث شغلتهم عنها.
روى الشيخ الصدوق والطبري الامامي عن محمد بن الحسين بن عباد ، قال : « قدمت اُم أبي محمد عليهالسلام من المدينة واسمها ( حديث ) حين اتصل بها الخبر إلى سرّ من رأى ، فكانت لها أقاصيص يطول شرحها مع أخيه جعفر ومطالبته إياها بميراثه وسعايته إلى السلطان وكشفه ما أمر الله عزوجلّ بستره ، فادّعت عند ذلك صقيل أنها حامل ، فحملت إلى دار المعتمد ، فجعل نساء المعتمد وخدمه
__________________
(1) إكمال الدين ـ المقدمة : 42 ـ 43.
ونساء الموفق وخدمه ونساء القاضي ابن أبي الشوراب(1) يتعاهدون أمرها في كلّ وقت ، ويراعون إلى أن دهمهم أمر الصفار(2) وموت عبيد الله بن يحيى بن خاقان بغتة ، وخروجهم من سرّ من رأى ، وأمر صاحب الزنج بالبصرة وغير ذلك ، فشغلهم ذلك عنها »(3) .
أشارت بعض المصادر إلى أن هناك صلاة اُخرى غير تلك التي ذكرها ابن خاقان في حديثه المتقدم ، ولعلّ تلك الصلاة كانت على المستوى الرسمي ، أما الصلاة الاُخرى التي أشارت إليها المصادر فقد قام بها جعفر بن علي أخو الإمام العسكري عليهالسلام ، الذي اجتهد في المقام مقامه وأثار السلطة على عائلته ، ولعلّه أراد بتلك الصلاة الخاصة أن يظهر أنه الوريث الشرعي للإمام عليهالسلام ، فيستقطب بذلك الرأي الشيعي العام ، ويحوز على ميراثه وعلى الأموال التي تحمل إليه من أطراف البلاد.
وإذا كان جعفر قد حصل ـ ولو على المستوي الرسمي ـ على إرث
__________________
(1) هو قاضي القضاة أبو محمد الحسن بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب الأموي ، ولي قضاء المعتمد ، وقد ناب في قضاء سامراء منذ سنة 240 ه ، مات بمكة سنة 261 ه. سير أعلام النبلاء 12 : 518 / 193.
(2) هو يعقوب بن الليث الصفار ، مؤسس الدولة الصفارية منذ سنة ( 247 ه ) كانت له حرب طاحنة مع جيش الدولة العباسية في زمان المعتمد ، حينما أراد أن يستولي على بغداد ، وتوفي سنة 265 ه. سير أعلام النبلاء 12 : 513 / 191 ، أعلام الزركلي 8 : 201.
(3) إكمال الدين : 474 ، دلائل الأمة : 424 نحوه.
الإمام عليهالسلام ، فإنّه فشل في الوصول إلى الأهداف المهمة التي يبتغيها ، ولعلّ تلك الصلاة الخاصة كانت عنوان الفشل.
فقد روي عن أحد خدم الإمام العسكري أنه قال في حديث طويل يصف فيه تلك الصلاة : « فلما همّ ( جعفر ) بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة ، بشعره قطط ، بأسنانه تفليج ، فجبذ(1) برداء جعفر بن علي ، وقال : تأخّر يا عم ، فأنا أحقّ بالصلاةِ على أبي ، فتأخر جعفر وقد اربدّ وجهه واصفرّ »(2) .
ولم يستطع جعفر أن يقنع الرأي العام الشيعي بإمامته حتى اضطرّ أخيراً إلى التوسل بالسلطان ورجال البلاط فنهروه وطردوه ، لأن أفعاله تنافي الإمامة ، كما أنه خالي الوفاض من العلم والدلالة ، فضلاً عن أن الشيعة يعتقدون بأن الإمامة لا تجتمع في أخوين بعد الحسن والحسين عليهماالسلام على ما ورد عن أئمتهم عليهمالسلام الذين لقبوا جعفراً بالكذاب وتبرءوا منه ومن دعوته ، وهكذا فعل خلّص شيعتهم بعد رحيل الإمام العسكري عليهالسلام .
وهناك حديث آخر يصف لنا صلاة الإمام المهدي عليهالسلام على أبيه لم يرد فيه ذكر عمه جعفر ، رواه الشيخ الطوسي عن أحمد بن عبد الله الهاشمي من ولد العباس ، قال : « حضرت دار أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام بسرّ من رأى يوم توفي ، واُخرجت جنازته ووضعت ، ونحن تسعة وثلاثون رجلاً قعود ننتظر حتى خرج إلينا غلام عشاري(3) حافٍ عليه رداء قد تقنّع به ، فلمّا أن خرج قمنا
__________________
(1) أي جذب ، على القلب.
(2) إكمال الدين : 475 / 25 باب 43.
(3) قيل : المراد عشاري السنّ ، أي كأنّ له عشر سنين مع أنّ عمره نحو خمس
هيبةً له من غير أن نعرفه ، فتقدم وقام الناس فاصطفوا خلفه فصلى ، ومشىٰ فدخل بيتاً غير الذي خرج منه »(1) .
قال الشيخ محمد علي اليعقوبي يرثي الإمام العسكري عليهالسلام ويشير إلى حضور الإمام الحجة لجنازته :
افديه مضطهداً تجرّع من بني ال |
عباس صاب الظلم والعدوانِ |
|
بأبي الذي ختمت رزايا أهله |
فيق فليس لرزئه من ثانِ |
|
بأبي الذي خفّت حلوم اولي النهى |
لمصابه وبكى له الثقلانِ |
|
وقضىٰ قصيّ الدار لم ير حوله |
أحداً من الأنصار والأعوانِ |
|
بأبي الذي حضر المغيّب عنده |
سرّاً ولم تر شخصه عينانِ(2) |
عن الحسين بن روح ، قال : « قال أبو الحسن عليهالسلام :قبري بسرّ من رأى أمانٌ لأهل الخافقين »(3) .
وعن أبي هاشم الجعفري ، قال : « قال لي أبو محمد الحسن بن علي عليهالسلام :قبري بسرّ من رأى أمانٌ لأهل الجانبين »(4) .
وذكر محمد بن الحسن بن الوليد رحمهالله هذه الزيارة للامامين العسكريين عليهماالسلام
__________________
سنين ( 255 ـ 260 ) وذلك من حيث إنّه عليهالسلام كان جسيماً إسرائيلي القدّ على ما ورد في الروايات. راجع : بحار الأنوار 52 : 5 ـ 6 / 4.
(1) غيبة الشيخ الطوسي : 258 / 226.
(2) الذخائر : 66 ـ المطبعة الحيدرية ـ النجف.
(3) المناقب لابن شهرآشوب 4 : 459.
(4) التهذيب 6 : 93 ـ كتاب المزار باب 43 فضل زيارة أبي الحسن وأبي محمد عليهماالسلام .
فقال : « إذا أردت قبريهما تغتسل وتتنظف ، والبس ثوبيك الطاهرين ، فإن وصلت إليها وإلا أومأت من الباب الذي على الشارع وتقول : السلام عليكما يا وليي الله ، السلام عليكما ياحجتي الله ، السلام عليكما يا نوري الله في ظلمات الأرض ، السلام عليكما يا من بدا لله فيكما ، أتيتكما عارفاً بحقكما ، معادياً لأعدائكما ، موالياً لأوليائكما ، مؤمناً بما آمنتما به ، كافراً بما كفرتما به ، محققاً لما حققتما ، مبطلاً لما أبطلتما ، أسال الله ربي وربكما أن يجعل حظي من زيارتكما الصلاة على محمد وأهل بيته ، وأن يرزقني مرافقتكما في الجنان مع آبائكما الصالحين ، وأسأله أن يعتق رقبتي من النار ، ويرزقني شفاعتكما ومصاحبتكما ، ولا يفرق بيني وبينكما ، ولا يسلبني حبكما وحب آبائكما الصالحين ، ولا يجعله آخر العهد منكما ومن زيارتكما ، وأن يحشرني معكما في الجنة برحمته.
اللهم ارزقني حبهما ، وتوفّني على ملّتهما ، والعن ظالمي آل محمد حقهم وانتقم منهم ، اللهم العن الأولين منهم والآخرين ، وضاعف عليهم العذاب الأليم إنّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللهم عجل فرج وليك وابن نبيك ، واجعل فرجنا مع فرجهم يا أرحم الراحمين. وتجتهد أن تصلي عند قبريهما ركعتين ، وإلا دخلت بعض المساجد وصليت ودعوت بما أحببت إنّ الله قريب مجيب »(1) .
وصلّى الله على الإمام الحسن العسكري عليهالسلام وعلى آبائه عليهمالسلام وعلى ولده عليهالسلام حجة الله في الأرض ، سائلين الله أن ينفعنا ببركته وبركة آبائه ، وأن يرزقنا شفاعتهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
انتهى الكتاب بفضل الله ومنّه
__________________
(1) التهذيب 6 : 94 ـ 95 / باب 44 ـ زيارتهما عليهماالسلام .
المحتويات
المُقدَّمةُ7
الفصل الأوّل 11
الحياة السياسية11
في عصر الإمام العسكري عليهالسلام ( 232 ـ 260 ه )11
الحكام المعاصرون للإمام عليهالسلام :11
أهم سمات هذا العصر13
السمة الأولى ـ نفوذ الأتراك وضعف العباسيين 13
السمة الثانية ـ استئثار رجال السلطة بالأموال العامة15
السمة الثالثة ـ ميل العباسيين إلى البذخ والترف واللهو17
السمة الرابعة ـ تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية21
السمة الخامسة ـ التدهور وعدم الاستقرار23
أولاً : انتقاض أطراف الدولة23
ثانياً : ضعف الثغور الاسلامية25
ثالثا : أعمال الشغب والعصيان 25
رابعاً : الثورات الشعبية والحركات المتطرفة26
الفصل الثّاني 31
الإمام عليهالسلام والسلطة31
أولاً : مراقبة الإمام عليهالسلام وفرض الإقامة الجبرية عليه32
ثانياً : إيداعه عليهالسلام السجن 36
ثالثاً : ملاحقة شيعته ومواليه39
الاتجاه الأوّل : الدعاء على أعدائهم 41
الاتجاه الثاني : احسانه عليهالسلام إليهم 43
الاتجاه الثالث : تحذيرهم من الفتن 44
مواقف العباسيين :45
اولاً ـ المتوكل ( 232 ـ 247 ه )46
1 ـ استدعاء الإمام الهادي عليهالسلام إلى سامراء وايذاؤه48
أسباب الاستدعاء49
كتاب الاستدعاء50
الامام العسكري يرافق أباه عليهماالسلام 52
من المدينة إلى سامراء55
في سامراء :57
مداهمة دار الامام عليهالسلام :58
2 ـ هدم قبر الإمام الحسين عليهالسلام :61
3 ـ حصار آل أبي طالب وملاحقتهم :63
4 ـ ملاحقة الشيعة وقتلهم :65
قتل إمام العربية يعقوب بن السكّيت 66
دعاء المظلوم علي الظالم 66
مقتل المتوكل 69
ثانياً ـ المنتصر ( 247 ـ 248 ه ) :71
ثالثاً ـ المستعين ( 248 ـ 252 ه ) :73
مقتل المستعين :74
رابعاً ـ المعتز (252 ـ 255 ه )74
1 ـ مواقفه من الطالبيين :75
2 ـ شهادة الإمام الهادي عليهالسلام في زمان المعتز :76
3 ـ ما فعله المعتز بالإمام الحسن العسكري عليهالسلام :77
خلع المعتز وقتله :80
ما قاله الإمام العسكري بعد هلاك المعتز :81
خامساً ـ المهتدي ( 255 ـ 256 ه )81
1 ـ مواقفه من الطالبيين :83
2 ـ سيرة المهتدي مع الإمام العسكري عليهالسلام :85
هلاك المهتدي :87
سادساً ـ المعتمد ( 256 ـ 279 ه )88
1 ـ مواقفه من الطالبيين :88
2 ـ موقفه من الإمام العسكري عليهالسلام :90
الفصل الثّالث 93
الهوية الشخصية للإمام العسكري عليهالسلام 93
نسبه عليهالسلام 93
اُمّه رضي الله تعالى عنها :93
ولادته : عليهالسلام 95
ألقابه : عليهالسلام 97
كنيته عليهالسلام :99
حليته عليهالسلام :99
نقش خاتمه عليهالسلام :100
بوابه عليهالسلام :100
شاعره عليهالسلام :100
عمره ومدة إمامته عليهالسلام :101
زوجته عليهالسلام :102
وُلْدُه عليهالسلام :103
اخوته عليهالسلام :104
السيد محمد :105
الفصل الرابع 111
امامته عليهالسلام 111
أولاً : نص آبائه عليه عليهالسلام 111
ثانياً : نص أبيه عليه عليهالسلام 113
مزاعم بعض المرتابين بإمامة العسكري عليهالسلام :116
موقف الإمام العسكري عليهالسلام تجاه المدعيات الباطلة120
الأول : الرسائل والتوقيعات التوجيهية120
الثاني : اظهار الدلالة121
الفصل الخامس 125
منزلته عليهالسلام ومكارم أخلاقه125
منزلته عليهالسلام:125
هيبته عليهالسلام 131
مكارم أخلاقه132
1 ـ العلم 134
2 ـ العبادة136
3 ـ الزهد 137
4 ـ الكرم والسماحة137
الفصل السادس 141
عطاؤه العلمي 141
المبحث الأول : دوره عليهالسلام في ترسيخ العقائد الاسلامية142
أولاً : كلماته في التوحيد 142
ثانياً : كلماته في الإمامة145
ثالثاً : التمهيد لغيبة ولده الحجة عليهالسلام 147
1 ـ التمهيد العملي للغيبة148
2 ـ النصّ على ولده المهدي عليهالسلام وعرضه على أصحابه151
أ ـ رواة النص عن الإمام العسكري عليهالسلام 156
ب ـ الذين رأوا الإمام المهدي في حياة أبيه عليهماالسلام 158
3 ـ بيان التكليف في زمان الغيبة159
رابعاً : ردّ الشبهات وملاحقة الأفكار المنحرفة162
المبحث الثاني : دوره عليهالسلام في التصنيف والتشريع 171
أولاً : الكتب والرسائل والوصيا171
أ ـ المصنفات المنسوبة إليه عليهالسلام 171
ب ـ رسائله عليهالسلام ووصاياه ومواعظه174
ثانياً : دوره عليهالسلام في التشريع 178
1 ـ الثقات من أصحابه عليهالسلام 183
2 ـ المؤلفون من أصحابه عليهالسلام 184
المبحث الثالث : هداية الخلق إلى الخالق 186
الفصل السابع 191
شهادة الإمام العسكري عليهالسلام 191
الإمام العسكري عليهالسلام ينعى نفسه191
تاريخ شهادته عليهالسلام 192
مقدار عمره عليهالسلام 194
سبب شهادته عليهالسلام 194
تصرف السلطة198
الصلاة على الإمام عليهالسلام 201
فضل بقعته وزيارته203
المحتويات 205