أمّهات المعصومين عليهم السلام سيرة وتاريخ
التجميع مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الکاتب الشيخ كاظم البهادلي
لغة الکتاب عربی
سنة الطباعة 1404

أمّهات المعصومين عليهم السلام سيرة وتاريخ

عبد العزيز كاظم البهادلي



بسم الله الرحمن الرحيم



كلمة المركز

حظيت مسألة الأمومة في الفكر الإسلامي برعاية خاصّة باعتبارها واحدة من
أبرز عوامل نهضة المجتمع المسلم في توازن أجياله وتحمّلهم أعباء المسؤولية في
المستقبل كاملة ، الأمر الذي يؤكّد أصالة الدور الإنساني للأم في بناء الحضارة ، وهو
دور فرضه الإسلام للأم نتيجة للالتزامات الطبيعية التي تفرضها أوضاع ذلك الدور
المعقّد من الحمل والإرضاع والتربية وما إلىٰ ذلك.

ومن الواضح أنّ الإسلام لم يحصر دور المرأة في تربية الأطفال ورعاية الزوج
وإدارة شؤون المنزل ، بل وهبها مساحة واسعة للتحرّك ، تستطيع من خلالها القيام
بمسؤوليّاتها في نطاق ثقافتها وطاقاتها الاجتماعية في تشخيص مواطن الخلل
وإصلاحها ، كمن ترى في نفسها القدرة اللازمة على أن تهدي جمهوراً نسوياً إلىٰ
الطريق المستقيم.

ومن هنا نجد القرآن الكريم لم يلغِ مسؤوليتها بحجّة دورها المنزلي ، بل فرض
عليها التزامات طبيعية كمسلمة تجاه الإسلام في جهاده وحركته ، فحمّلها ـ مع
الرجل ـ مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما في قوله تعالىٰ :
( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنكَرِ
) ، وقد حدّثنا القرآن الكريم عن نماذج فريدة من النساء اللواتي تفوّقن
على الرجال في عصرهنّ ، في سعة النظرة ، ودقّة الفكر ، وعمق الوعي ، ووضوح الرؤية
كما هو الحال في شخصيّة مريم العذراء ، وامرأة فرعون ، وملكة سبأ.

وفي تاريخنا الإسلامي صفحات من نور لشخصيّات نسوية رائعة كان لموقعهنّ
الفاعل علىٰ مسرح الأحداث السياسية والاجتماعية والفكرية صدى كبير ، ومواقف
إيمانية صلبة ثابتة ، بحيث صارت تلك المواقف البطولية قدوة حسنة ومثلاً أعلى
للرجال والنساء معاً ، كما نجده واضحاً في حياة وسيرة أعظم نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمّ
المؤمنين خديجة الكبرى عليها‌السلام . ناهيك عمّا في تاريخ الإسلام من موقف نسوي
عبقري ورثته بطلة كربلاء من أمّها الزهراء عليهما‌السلام .

إنّ توفير الظروف الإسلامية المناسبة للمرأة يكفل لها إمكانيّات النموّ الروحي
والعقلي ، والالتزام العملي الذي تتوازن فيه عناصر شخصيّتها بشكل طبيعي ، بحيث
يمكنها التفوّق علىٰ الرجال ، وإلغاء فوارق الجنس بالإيمان والعقل والإرادة والمعرفة


والتضحية والموقف. وأمّا ما نشاهده ونستشعره اليوم من جوانب الضعف التي تعيشها المرأة المسلمة عموماً فليس هو من القضاء المحتّم في حياتها ، بل هو نتيجة للإهمال الكبير لعناصر القوّة والوعي في تربيّة شخصيّتها وبناء وجودها كما هو الحال تماماً في الرجل الضعيف الذي لم يجد الطريق التربوي الرحب في طفولته ، فضعف في فكره ، وتخلّف في وعيه ، وتعطّلت حركة حياته.

فالضعف المشاهد في المرأة المسلمة إذن ليس ناشئاً عن طبيعة في ذات المرأة بقدر ما هو ناشىء عن تقصير في تهيئة عوامل القوّة في الظروف المحيطة بها.

وإذا ما كان العنصر الأنثوي يختزن بعض الضعف في شخصية المرأة انطلاقاً من الجانب العاطفي الأكثر ظهوراً في مشاعرها ، أو من الجانب الجسدي الذي لا يتمتّع بالقوّة البدنية للرجال عادة ؛ فإنّ ذلك لا يمنع أبداً من إكسابها قوّة بتربية الفكر بالمعرفة ، وتقوية العقل بالممارسة ، وتقوية الجسد بالعبادات من الصلاة والنوافل التي هي رياضة بدنية راقية. وأمّا العاطفة فهي وإن كانت غريزة لا يمكن التغلّب عليها ولكن يمكن التحكّم بها من خلال الوعي القائم علىٰ مواجهة الأمور بطريقة موضوعية من خلال منهج تربوي عملي إسلامي متوازن. وبهذا نفسّر كيف قدّمت الكثير من الأمّهات أولادهنّ على مذبح الكرامة إحتساباً وقربة لله عزّ وجل ولم تمنعهنّ من ذلك عواطف الأمومة وحرارتها ، وبها نفهم سرّ الطاقات الهائلة التي امتلكتها بعض النسوة في تاريخ الإسلام لتقابل بها جبروت الرجال بكلّ قوّة وثبات كما حصل لسيّدة النساء ، وبطلة كربلاء عليهما‌السلام .

وهناك مواقف بطولية قادتها أمّ الخير البارقية ، وسودة بنت عمارة ، وأروى بنت الحارث بن عبدالمطّلب ، والزرقاء بنت عدي ، وبكارة الهلالية ، لقّنّ بها الطغاة المردة دروساً قاسية لازالت بعض فصولها محفوظة في التاريخ.

وقد اختار هذا الكتاب ـ عزيزي القارىء ـ الحديث عن الصفوة من النساء المسلمات بكلّ ما تعنيه كلمة الصفوة من معنى ، وهنّ أمّهات المعصومين عليهم‌السلام مسلّطاً الضوء علىٰ سيرتهنّ العطرة ، وتاريخهنّ المضيء المشرق ، بعبارة مختصرة وافية. سائلين المولى أن يُنتفع به ،

وهو الموفّق للصواب بمنه.

مركز الرسالة


المُقدَّمةُ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام علىٰ نبينا محمّد وآله الطاهرين.

الحديث عن أمهات المعصومين هو الحديث عن الصفوة من بنات حواء عليها‌السلام عبر التاريخ ، وإذا كان التاريخ بعناصره المشرقة ونماذجه الحيّة وصوره الرائعة يمثّل الجذر الممتد عبر الزمان فيجب المحافظة عليه وتعميقه وتأصيله علىٰ أساس الحق والعدل ؛ لأنّ كل أمة بلا جذور قابلة لأن تندرس وتُستأصل بسهولة ويسر.

والحديث عن سيرة أمهات المعصومين ليس من قصص قديم الزمان ، وإنما هو اكتشاف لما ينبغي أن تكون الأُم المسلمة عليه ، إذ لا مثل أعلىٰ في عالم المرأة المسلمة من أُمهات أهل البيت عليهم‌السلام ، وإننا إذ نعيش الماضي مع أُمهات المعصومين عليهم‌السلام فلا يعني ذلك أن نتجمّد علىٰ أعتاب التاريخ ، وإنما لنستلهم من محطاته ـ التي عبرت كل الحدود وتجاوزت الزمن ـ قيم الإسلام ومثله العليا التي يشعر المسلم من خلالها في كل زمان ومكان أنّ معه روحاً تحلّق لا يحسّ معها بشيء من أدران المادة وقوة كفيلة برسم معالم الطريق الصحيح.

ومن هنا كان اختيار هذا البحث الذي قسمت فيه أُمهات المعصومين عليهم‌السلام إلىٰ قسمين :


فالأوّل : أُمهات أصحاب الكساء عليهم‌السلام ، ويبدأ بالسيدة أم الامهات آمنة بنت وهب عليها‌السلام وينتهي بشهادة الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وقد أدخلنا السيدة خديجة الكبرىٰ عليها‌السلام في هذا القسم وإن لم تنجب من سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وآله إماماً معصوماً ، ولكنها أنجبت الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام أُم الأئمة الأطهار عليهم‌السلام .

والقسم الآخر : يشمل أُمهات الأئمة من ذرية الحسين عليهم‌السلام وأولهن أُم الإمام زين العابدين عليه‌السلام وآخرهن أُم الإمام المهدي عجّل الله تعالىٰ فرجه الشريف.

جدير بالذكر أنّ الأُمهات الطاهرات في القسم الأول كلهن من قريش وكذلك الحال مع أُم الإمام الباقر عليه‌السلام وأُم الإمام الصادق عليه‌السلام ، وأما الأُمهات الأخريات عليهن السلام فليس كذلك حيث شاء الله تبارك وتعالى أن تتشرّف الاُمم الاخرىٰ وتشاطر نساء مكّة المعظمة في شرف المزاوجة مع البيت النبوي الطاهر وأن يجعل أرحامهن مأوىٰ ومهبط لباقي الائمّة الطاهرين ، وبالتالي تفوز تلك النساء الطاهرات بحمل ذريّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المعصومين عليهم‌السلام ، ومن ثمّ تتشرّف تلك الاُمم الاُخرىٰ بأن أُمهات الأئمّة منهم وأنّهم أخوال أهل البيت عليهم‌السلام ، فقد تشرفت بلاد فارس بأنّهم أخوال الامام زين العابدين عليه‌السلام ، فيما تشرفت بلاد السودان والنوبة بخؤولة الإمام الكاظم عليه‌السلام ، وكذلك تشرّفت أُمم الترك والأقباط والبربر والقسطنطينية والاندلس بأنّهم أخوال أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام (الرضا والجواد والهادي والعسكري ومهدي آل محمّد أرواحنا فداه) ، وهكذا امتدّت رحمة الله الواسعة لتشمل كثيراً من الاُمم مع بني هاشم في إنجاب وإيواء الذريّة الطاهرة لحمل مشاعل الهداية للناس ، وهنا لا بأس بإيضاح بعض الفوارق بين نساء القسمين :


أولاً : إن نساء القسم الأول يعود أصلهن إلىٰ مكّة المعظمة وإلىٰ المدينة المنورة وإلىٰ قبيلة قريش حيث يُعرَفن بالوجاهة والسؤدد عند أهل مكّة.

الثاني : إن أمهات القسم الأول قد اضطلعن بأدوار جسيمة بحكم معاصرتهن للأحداث الكبرى التي واجهها الإسلام في بداية انطلاقته ، ويبدأ هذا الدور بأم المؤمنين خديجة الكبرىٰ عليها‌السلام حيث آمنت به ، صلى‌الله‌عليه‌وآله علناً وأنفقت كل ما عندها من أموال ولم تأل جهداً في الدفاع عن حصن النبوّة حتّىٰ ماتت صابرة محتسبة بعدما كانت تجارتها قد غطّت كل أصقاع الجزيرة ، وكذا تحمّلت السيدة فاطمة بنت أسد عليها‌السلام الجوع والفقر والمعاناة من أجل حماية ورعاية نبي الإسلام محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّىٰ قال عنها بأنها أمّه !(١) بعدها جاء دور الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام حيث قامت من أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله مقام البنت والأُم في آن واحد ، حتىٰ قال في حقّها صلى‌الله‌عليه‌وآله :« فاطمة أُم أبيها » (٢) ، وبعد انتهاء دور النبوة بوفاة الخاتم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومجيء دور الإمامة وما رافقها من أحداث مؤلمة حيث سارعت الصديقة فاطمة عليها‌السلام لاحقاق الحق وابطال الباطل حتى سقطت أوّل شهيدة(٣) في طريق الامامة بعد أن ذللت كل المصاعب بوجه خليفة رسول الله أمير

_____________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤.

(٢) أُسد الغابة ٥ : ٥٢٠ ، الاستيعاب ٤ : ٣٨٠ ، المناقب / ابن المغازلي : ٣٤٠ / ٣٩٢ ، مقاتل الطالبيين : ٥٧ ، في مقتل الحسن بن علي عليه‌السلام ، ط ١ ، انتشارات المكتبة الحيدرية ، عن الإمام الباقر عليه‌السلام : « كانت فاطمة عليها‌السلام تكنىٰ أُم أبيها ».

(٣) الكافي / الكليني ١ : ٤٥٨ باب مولد فاطمة الزهراء عليها‌السلام حديث ٢ بسند معتبر عن الإمام الكاظم عليه‌السلام قال : « ان فاطمة صدّيقة شهيدة ».


المؤمنين عليه‌السلام مضحيةً بنفسها (والجود بالنفس أقصى غاية الجود) وعلى هذا فان دور تلك النسوة (نساء القسم الأول) كان بارزاً وملحوظاً عندما كان الإسلام ضمن نطاق مكّة والمدينة والطائف.

وأمّا بعد اقصاء الخلافة عن امير المؤمنين عليه‌السلام وتقمّص غيره للمناصب الإلهيّة من جهة ، واتساع رقعة الإسلام والدولة الإسلامية من جهة أُخرىٰ ، فلم يكن لنساء القسم الثاني دورٌ بارز وملحوظ سيما وأن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام قد تعرّضوا في هذه الفترة للملاحقة والمتابعة والمراقبة ، ولذا لم يصل إلينا منهنّ سلام الله عليهنّ إلّا الروايات القليلة التي تشير وتشيد بأدوارهنّ أو تذكر فضائلهنّ ، ولكن لا ينسىٰ ما قمن به من الاقتران بأئمّة أهل البيت وانجاب أولادهم المعصومين وتحمل الأعباء الكبيرة من أجل تربيتهم وترويج الإسلام الصحيح رغم مراقبة حكام الجور وتحمّل المصاعب والمخاطر ليل نهار ، فجزاهنّ الله خير الجزاء عن النّبي وأهل بيته الأطهار عليهم‌السلام .

* *


توطئة :

في بيان دور المرأة وجهادها في الإسلام

ما إن سطعت شمس الرسالة الإسلامية وصدع النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة المقدسة داعياً ومبشراً ونذيراً حتى سارعت المرأة المسلمة لتسهم بدورها في اعتناق الإسلام ونشره والتصديق برسوله والإيمان بمبادئه. لقد هبّت المرأة من رُقادها وأجابت دعوة الإسلام بقلب ملؤه التقوىٰ ونفس فيّاضة بالإيمان.

إنّ النساء المؤمنات ما زلن في كلّ عصر ومصر يضاهين الرجال بالاخلاص لعقيدتهن ومبادئهن والاندفاع في سبيل بناء صرح الإسلام الخالد ، لذا نرىٰ أنّ المؤمنات في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل وحتى الفترة التي تلت وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كنّ شريكات المؤمنين في نهضتهم والجهاد في نشر الإسلام وجهاد المشركين.

نعم ، لقد استيقظت المرأة وانبعثت مواهب النساء المؤمنات وبرزت كفاءاتهن التي كانت مطمورة ترزح تحت اثقال فادحة من قوانين المجتمع الجاهلي وسخافات التقاليد الموروثة من العقائد البالية.

أجل عندما سطع نور الإسلام الخالد انبرت المرأة المسلمة للاسهام بنصيبها الأكبر في الجهاد ، فكانت مع أخيها المسلم المجاهد جنباً إلىٰ جنب في ساحات الوغىٰ ، تروي ظمأه إذا عطش ، وتضمد جراحه إذا اُصيب ، وقد صوّرت


إحدى الشاعرات ذلك علىٰ لسانهن بروعة :

نحن وإن لم نحسن الرمي ولم

تستطع إحدانا تقليب الظبا

نخدم الجرحىٰ ونقضي حقّهم

ونواسي في الوغىٰ من نُكبا(١)

لقد زخرت نفوس نساء صدر الإسلام بالعقيدة الإسلامية الفياضة ، واندفعت في عروقها دماء التضحية والفداء ، لقد كانت تثير الحماس في روحه وتعالجه اذا انتكس ، وأمّا اذا داهمها أعداء الله وتعرّضت للأهوال فانها تبادر للدفاع وتقف وقفة الأبطال ، وتقبل علىٰ محاربة الأعداء غير هيّابة ولا وجلة بشجاعة وثبات وصلابة عقيدة ، بل وكانت كلّما ادلهمّت الخطوب ازدادت حماساً واندفاعاً إيماناً بإسلامها.

لقد حمل صدر الدعوة الإسلامية التفاف النساء المضحيات حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله
وعطفهن عليه ، فكانت منهنّ المؤمنات الصادقات اللواتي استعذبن العذاب في
سبيله وسبيل دعوة الإسلام ، ولعل أصدق الصور المشرقة في تاريخ نساء صدر
الإسلام هي تضحيات أُم المؤمنين السيدة خديجة الكبرىٰ عليها‌السلام التي ضحّت بكلّ ما تملك من مال وجاه في سبيل نصرة زوجها العظيم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك تضحيات السيدة سميّة زوجة ياسر وأُم الصحابي الجليل عمار رضي‌الله‌عنه ، وكذلك تضحيات نخبة من المؤمنات كأُم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها(٢) ونسيبة المازنية. ثمّ تتابع جهاد المرأة حتىٰ تكلّل بسقوط أوّل شهيدة في سبيل الإمامة
_____________

(١) طلائع الشهداء من بني هاشم / السيدة مريم نور الدين فضل الله : ٤٠.

(٢) أُستشهد زوجـها في مـعارك المسلمين الاُولىٰ ثمّ تزوّجـها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عن
الإصابة / ابن حجر العسقلاني ٤ : ٤٠٨.


الحقّة والولاية الإلٰهية والتي كانت بحق تمثل الجسر الرابط بين النبوّة الخاتمة والولاية الحقّة ، ألا وهي الشهيدة الصديقة فاطمة الزهراء حيث كانت المحامي الأوّل وملاذ الأمير عليه‌السلام في تلك المحنة الدهماء.

ثمّ تتابع جهاد النساء المسلمات حيث وقفت عقيلة بني هاشم الحوراء زينب الكبرىٰ عليها‌السلام وأتمّت ثورة أخيها الإمام الحسين عليه‌السلام ، بجدارة واستطاعت بقوّة حجّتها وإيمانها وصبرها أن تزيل القناع الذي تجلبب به الطلقاء من بني اُميّة وادعاءاتهم الكاذبة من أنهم خلفاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوضحت زيف وكذب ادعاءاتهم بخطبها البليغة التي أيقظت الناس علىٰ حقيقة أباطيل أعداء الله ورسوله ، ولا زالت قافلة النساء المؤمنات وبنات الصديقة فاطمة عليها‌السلام يتسابقن لتسجيل أروع التضحيات في سبيل راية الإسلام.

وفي تاريخنا المعاصر أمثلة شتىٰ من المؤمنات المجاهدات الشهيدات ، وفي طليعتهن العلوية الطاهرة بنت الهدىٰ (آمنة الصدر) وكوكبة من تلميذاتها اللواتي نلن شرف الشهادة ، كالسيدة سلوىٰ البحراني ، والمهندسة رجيحة المسلماوي ، والمهندسة ابتهاج النوّاب ، والدكتورة شكريّة السمّان ، والدكتورة ساجدة العماري وغيرهن.

نعم ، رفع الإسلام مكانة الأُم إلىٰ حيث رفعها الله تعالىٰ إلىٰ موقعها ، كما يتبيّن من قول رسوله الكريم :« الجنّة تحت أقدام الأمهات » (١) .

لقد أوصى الرسول وأهل بيته عليهم‌السلام بالأُم وبالنساء عموماً ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فاتّقوا _____________

(١) كنز العمّال / المتّقي الهندي ١٦ : ٤٦١ / ٤٥٤٣٩ باب برّ الوالدين (برّ الأُم).


الله في النساء ، واستوصوا بهن خيراً » (١) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله :« المرأة ريحانة » (٢) ، وقال أيضاً :« من أخلاق الأنبياء حبّ النساء » (٣) بل تكلّلت تلك الأحاديث الشريفة الموصية بالمرأة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله :« حُبِّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب ، وجعلت قرّة عيني في الصلاة » (٤) فموقع المرأة في نظر الإسلام يتوسّط أمرين ومحاط بركنين أساسيين ، وهما الركن الدنيوي الممثّل لقمّة الحياة وهو عصارة جمال الطبيعة المتمثّل بالطيب والركن الآخر ، وهو الصلاة التي تمثّل صميم الإسلام وعمود الدين ، إذن فالمرأة المتوسطة في المنظور النبوي الشريف بين الطيب والصلاة ما هي إلّا المرأة المؤمنة والمحبّة للّه ورسوله وأهل بيته الطاهرين ، والتي هي ريحانة لأُمّها وأبيها ، والحبيبة لزوجها والمعاضدة له في رحلة الحياة الشاقّة ، والملهمة لأبنائها ، والمربية المرشدة والصانعة لأجيال المستقبل.

والمرأة الطاهرة هي الكائن الوحيد الذي باستطاعته أن يرفد المجتمع بالأفراد الصالحين ، ليتمكّن من خلالهم السير علىٰ طريق الاستقامة والقيم الإنسانية السامية.

إن وظيفة الاُمومة تُعد من أصعب وأشرف وظائف المرأة ، ولذا فليس من
السهل حصر حقوق الاُمهات في دائرة معيّنة ، بل إنّ أداء حقّها يعدّ من الصعوبة

_____________

(١) تحف العقول / الحسن ابن شعبة الحرّاني : ٣٠ خطبة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في
حجّة الوداع ، ط : مؤسسة الأعلمي.

(٢) تحف العقول / الحسن ابن شعبة الحرّاني : ٦٣ ، فقرة من كتاب أمير المؤمنين إلى ابنه الحسن عليهما‌السلام (باب وصايا أمير المؤمنين عليه‌السلام ).

(٣) الكافي / الكليني ٥ : ٣٢٠ / ١ باب حبّ النساء من كتاب النكاح.

(٤) كنز العمال ٧ : ٢٨٨ / ١٨٩١٣ باب فضائل الصلاة.


بمكان ، إلّا بعون الله وتوفيقه ، ولا يخفىٰ أنّ الرحمة والرأفة والحنان التي يحملها قلب الاُم ما هي إلّا تجلٍّ لرحمة الربّ عزّوجلّ ، وقد صوّر أحد أبناء تلك النسوة الطاهرات ـ وهو الإمام السجاد عليه‌السلام ـ حقّ الاُم الوارد في (رسالة الحقوق) قائلاً :

« وأما حقُّ اُمك ، فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحدٌ أحداً ، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحدٌ أحداً ، ووقتك بجميع جوارحها ، ولن تُبال أن تجوع وتُطعمك ، وتعطش وتسقيك ، وتعرىٰ وتكسوك ، وتظلك وتَضحىٰ ، وتهجر النوم لأجلك ، ووقتك الحر والبرد لتكون لها ، وأنك لا تطيق شكرها إلّا بعون الله وتوفيقه » (١) .

أجل لقد مزج رب العزة قلوب الاُمهات وأرواحهنّ بنور رحمته ، ولذا فانّ الرحمة الأزلية هي التي أكسبت الاُمهات تحمّل كل المشاقّ والعذاب منذ لحظة استقرار النطفة في الأرحام إلىٰ فترة الحمل ثمّ الولادة وما بعدها من حضانة وتربية حتّىٰ آخر العمر ، ومن هنا كان حقّها علىٰ ولدها يفوق حقّ أبيه عليه.

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « جاء رجلٌ إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله من أبرّ ؟ قال :أُمّك ، قال : ثمّ من ؟ قال :أُمك ، قال : ثمّ من ؟ قال :أُمك ، قال : ثمّ من ؟ قال :أباك »(٢) .

إنّ تربية الأولاد وتقديمهم كاملين للمجتمع لهو أشرف الأعمال ، ويلتقي مع الهدف الذي بُعِث من أجله الأنبياء والرسل علىٰ مرّ العصور منذ بدء الخليقة ونزول آدم عليه‌السلام وحتّىٰ ختم النبوات بمحمّد الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

_____________

(١) أمالي الصدوق : ٤٥٣ / ٦١٠ المجلس ٥٩.

(٢) الكافي / الكليني ٢ : ١٥٩ / ٩.


وإنّ أحضان الاُمهات مصنع الرجال العظماء ، ولهذا المعنى أشار سيد شباب أهل الجنّة عليه‌السلام في خطبته التي ألقاها صبيحة يوم العاشر من شهر محرم الحرام علىٰ مسامع جيوش بني أُميّة الزاحفة صوب قتاله لاتمام الحجّة عليهم ولإظهار عزّة المؤمنين قائلاً :

« ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين : بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبىٰ الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجورٌ طابت وطَهُرت ، وأُنوفٌ حميّة ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام علىٰ مصارع الكرام » (١) .

فذكر سلام الله عليه الدعامة الأُولىٰ لتربية الإنسان المسلم وسموّه ، وخصّها بتلك الحجور الطيبة الطاهرة التي فتح السبط عليه‌السلام عينيه وهو في أحضانها ، وفي زيارته الشريفة :« غذتك يد الرحمة ، ورضعت من ثدي الإيمان ، ورُبّيت في حجر الإسلام » (٢) .

أجل لقد قيّض الله سبحانه وتعالىٰ لهذه الأجساد النورانية ، والتي كانت أشباحاً(٣) معلّقة بقوائم العرش أن تهبط إلىٰ الأرض بسلام وأن تستقرّ في الصلب المبارك لآدم عليه‌السلام ، ثُمَّ تنتقل إلىٰ الرحم الطاهر للسيدة حواء ، ثُمَّ انتقلت عبر الأزمان من أصلاب شامخة إلىٰ أرحام مطهّرة لتصل إلىٰ الصلب المبارك لسيد مكّة (عبد المطّلب) ثُمَّ انقسم النور إلىٰ شطرين ؛ فاستقرّ أحدهما في صلب
_____________

(١) مقتل الخوارزمي ٢ : ٦.

(٢) مصباح الزائر / ابن طاووس : ٢٣٩ (زيارة الحسين عليه‌السلام ليلة ويوم عرفة).

(٣) الكافي ١ : ٤٤٢ / ١٠ باب مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله ووفاته ، من كتاب الحجّة.


السيد عبدالله عليه‌السلام ، فيما استقر الآخر في صلب أبي طالب عليه‌السلام (١) ، ثُمَّ قُدّر له أن ينتقل إلىٰ أرحام الطاهرتين (أُم النبي السيدة آمنة بنت وهب ، وأُم الأمير السيدة فاطمة بنت أسد عليهما‌السلام ) ثُمَّ ينحدر النور فيستقر في رحم الطاهرة السيدة خديجة الكبرىٰ عليها‌السلام ليثمر عن بزوغ أتقىٰ وأطهر وأنور السيدات العواتك ، نور النبوّة الزاهر الصدّيقة الوتر فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، ويعود هذا النور مرّة أخرىٰ فيلتقي مع نور الأمير علي عليه‌السلام (٢) ، ومن هنا فقد ورد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :« لولا أنّ الله تبارك وتعالى خلق أمير المؤمنين عليه‌السلام لفاطمة ، ما كان لها كفوٌ
علىٰ ظهر الأرض من آدم ومن دونه »
(٣) ويلتحم فيثمر ويزهر عن شروق بَدرَي الدجىٰ ـ الحسن والحسين عليهما‌السلام ـ سيدي شباب أهل الجنّة. ومن ثمّ ينتقل النور إلىٰ بقيّة التسعة المعصومين الهداة المهديين من ذريّة الحسين (سلام الله عليهم أجمعين).

* *

_____________

(١) معاني الأخبار / الصدوق : ٥٦ / ٤ باب معاني أسماء محمّد وعلي وفاطمة
والأئمة عليهم‌السلام .

(٢) في الحديث الشريف : «قال الملك : إن الله أمرني أن اُزوّج النور من النور ! قال
(رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : مَنْ مِنْ مَنْ ؟ قال الملك : فاطمةُ من عليٍّ» معاني الأخبار /
الصدوق : ١٠٤ ، ودلائل الإمامة : ٩٣ / ٢٧ فقرة من حديث خبر (محمود الملك
الهابط على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يبشّره بزواج فاطمة بالسماء).

(٣) الكافي ١ : ٤٦١ / ١٠ باب مولد الزهراء عليها‌السلام من كتاب الحجّة.


القسم الأول

أُمهات أصحاب الكساء عليهم‌السلام

أولاً : أُم خاتم الأنبياء والمرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله

اسمها : السيدة الجليلة آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة.

ولادتها : ولدت عليها‌السلام في حدود منتصف القرن السادس الميلادي.

أسرتها : سليلة الأُسرة المباركة من القبيلة ذات الشأن العظيم التي استأثرت وحدها بخدمة البيت العتيق وما نالها من خدمته من أمجاد وامتيازات ، أجل لقد كانت آمنة أفضل امرأة نسباً وموضعاً حيث امتازت بالذكاء وحسن البيان.

وتنتمي أُسرتها إلىٰ (زهرة) بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي ، وهو الأخ الشقيق (لِقصي) الذي ملك مدينة (مكّة) ثمّ تركها لِقريش ميراثاً مجيداً لم تنافسها في شيء منه قبيلة أخرىٰ حتىٰ جاءها (محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حفيد قصي بن كلاب بمجد الدهر وعزّ الأبد.(١)

_____________

(١) راجع السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٣٨ ، طبعة دار الفكر للثقافة والنشر
عام ١٤١٥ ه.


أمّا أُمهما (زهرة وقصي) : فهي فاطمة بنت سعد بن شبل أحد بني الجدرة حيث لقّبوا بذلك نسبة إلىٰ جدّهم (عامر بن عمرو الأزدي) الذي بنىٰ للكعبة المعظّمة جداراً حين دخلها السيل ذات مرة ففزعت قبيلة قريش لذلك ، وخافت من أثر السيل أن يجرف الكعبة حيث يذهب شرفها ودينها ، ولمّا التفتوا إلىٰ جدار عامر ، فسمّوه بالجادر ، حيث لقّبوا أولاده من بعده ببني الجدرة.

وكان (بنو زهرة) ممن سبقوا الىٰ تلبية النداء حين تداعت قبائل من قريش إلىٰ حلف (الفضول) ، وقد كان ذلك قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بنحو عشرين عاماً ، وكان أكرم حلف وأشرفه(١) . فمن هذه الأُسرة القرشية الكريمة التي عرفت بصلة الودّ والحبّ لبني عبدمناف بن قصي ، كانت السيدة (آمنة بنت وهب بن عبدمناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة) التي توّجت ذلك المجد العريق بالشرف الذي لا يُدرك.

لقد نشأت السيدة (آمنة) في أعزّ بيئة وأطيب منبت ، فاجتمع لها من أصالة النسب ورفعة الحسب ما تزهو به في مجتمع مكّة المتميِّز بكرم الأصول ومجد الأعراق ، فقد كانت زهرة قريش اليانعة ، وبنت سيد بني زهرة نسباً وشرفاً ، وقد ظلت في خدرها محجوبة عن العيون مصونة عن الابتذال حتىٰ ما يكاد الرواة يتبيّنون ملامحها أو يتمثّلونها في صباها الغض.

أبوها : هو (وهب بن عبد مناف) سيد بني زهرة شرفاً وحسباً ، وقد مدحه الشاعر حيث أنشد :

يا وهب يا بن الماجدين

زهرة سُدت كلابا بن مرّة

يا وهب يا بن الماجدين

             

_____________

(١) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١١٩ من موضوع حلف الفضول ، بتصرّف.


جدّها لأبيها : هو عبد مناف بن زهرة الذي يقرن اسمه بابن عمه عبد مناف بن قصي ، وكان يقال لهما (المنافان) تعظيماً وتكريماً(١) .

جدّتها لأبيها : هي أُم وهب عاتكة بنت الأوقص بن مرّة بن هلال السلمية ، إحدىٰ أكرم مخدرات آل سليم.

أُمّها : برّة بنت عبد العزّىٰ بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب.

جدّتها لأمّها : أُم حبيب بنت أسد بن العزىٰ بن قصي.

والدة جدّتها لأمّها : برّة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن لؤي بن غالب بن فهر(٢) .

وهكذا قيّض الله تعالىٰ لهذه الأسرة العريقة أن تنجب السيدة (آمنة) لتحمل في أحشائها مصباح الكون الأوحد وبحر الهداية المفرد إلىٰ البشر ، محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال :« اَنَا اَنفَسكم نسبا وصهراً وحسباً » (٣) .

كراماتها :

لا يخفى أنّ أُم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تحصىٰ كراماتها ، كيف وقد حملت في أحشائها أشرف الخلق والكائنات في الوجود الذي دنا فتدلّىٰ فكان قاب قوسين أو أدنىٰ ، وقد وردت جملة من الأحاديث المشيرة إلىٰ طهارتها عليها‌السلام :

كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله :« لم أزل اُنقل من أصلاب الطاهرين ، إلىٰ أرحام الطاهرات ، _____________

(١) جمهرة أنساب العرب / ابن حزم : ١٢ ، نسب قريش.

(٢) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٣٨.

(٣) عيون الأثر / ابن سيد الناس ١ : ٢٣ / ٢٤.


حتىٰ اسكنتُ في صلب عبد الله ورحم آمنة بنت وهب » (١) .

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله :« نُقلنا من الأصلاب الطاهرة إلىٰ الأرحام الزكيّة » (٢) .

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله :« ما ولدني من سفاح الجاهلية شيء ، وما ولدني إلّا نكاح
كنكاح الإسلام »
(٣) .

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله :« لم يلتق لي أبوان علىٰ سفاح قط ، لم يزل الله عزّوجلّ ينقلني
من الأصلاب الطيبة إلىٰ الأرحام الطاهرة (المطهرة) هادياً مهدياً »
(٤) .

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في (نهج البلاغة) واصفاً حسب ونسب النّبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله :
« فاستودعهم في أفضل مستودع ، وأقرّهم في خير مستقر ، تناقلتهم كرائم
الأصلاب إلىٰ مطهرات الأرحام ، كلّما مضىٰ منهم سلف قام منهم بدين الله
خلف ، حتّىٰ اقتضت كرامته سبحانه وتعالىٰ إلىٰ (محمّد
صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فأخرجه من
أفضل المعادن منبتاً ، وأعزّ الأرومات مغرساً ، من الشجرة التي صدع منها
أنبياءه ، وانتجب منها أُمنائه ، عترته خير العتر ، وأسرته خير الاُسر ، وشجرته
خير الشجر ، نبتت في حرم ، وسبقت في كرم ، لها فروع طوال ، وثمر لا
ينال ، فهو إمام من اتقىٰ ، وبصيرة من اهتدى ، سراج لمع ضوؤه ، وشهاب
سطع نوره ، وزند برق لمعه ، سيرته القصد ، وسنّته الرشد ، وكلامه الفصل ،
وحكمه العدل ، أرسله علىٰ حين فترة من الرسل ، وهفوة من العمل ، وغباوة
_____________

(١) إيمان أبي طالب / فخّار بن معد الموسوي : ٥٦.

(٢) المصدر السابق.

(٣) إحقاق الحق / القاضي التستري ٢ : ٢٧٥.

(٤) معاني الأخبار / الصدوق : ٥٥ / ٢.


من الاُمم » (١) .

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :« لم يزل الله ينقلني من
الأصلاب الطيبة إلىٰ الأرحام الطاهرة مصفّىً مهذّباً لا تتشعّب شعبتان إلّا
كنت في خيرهما »
(٢) .

وأخرج ابن الجوزي باسناده عن عليّ عليه‌السلام مرفوعاً :« هبط جبرئيل عليه‌السلام
عليّ فقال : إن الله يقرئك السلام ويقول : حرِّمت النار علىٰ صلب أنزلك ،
وبطن حملك ، وحجر كفلك »
، أمّا الصلب فعبدالله ، وأمّا البطن فآمنة ، وأمّا الحجر فعمّه ـ يعني أبا طالب ـ وفاطمة بنت أسد(٣) .

خطوبتها عليها‌السلام :

لقد عَرفت السيدة (آمنة) في طفولتها وحداثتها ابنَ عمّها (عبد الله بن عبد المطلب) حيث إنّ بني (هاشم) كانوا أقرب الأُسر جميعاً إلىٰ بني (زهرة) فجمعتهم أواصر الودّ القديم التي لم تنفصم عراه منذ عهد الشقيقين قصي وزهرة ولَدَي كلاب بن مرّة.

هكذا عرفته قبل أن ينضج صباها ويحجبها خدرها ، والتقت وإيّاه في
الطفولة البريئة علىٰ روابي مكّة وبين ربوعها وفي ساحة الحرم الآمن ، كما
_____________

(١) نهج البلاغة / بشرح محمّد عبدة ١ : ١٧٠.

(٢) إحقاق الحق / القاضي التستري ٢ : ٢٧٦ الحاشية ٣ في وجوب تنزّه الأنبياء
عن دناءة الآباء.

(٣) أخرجه ابن الجوزي بإسناده عن الإمام علي عليه‌السلام مرفوعاً ، راجع : كتاب الغدير
٧ : ٣٧٨ عن كتاب التعظيم والمنّة للحافظ السيوطي : ٢٥.


جمعتهما مجامع القبيلة ، إذ كان عبد المطلب سيد بني هاشم ، ووهب سيد بني زهرة يتزاوران ويجتمعان علىٰ ودّ ، وكذا يجتمعان كُلّما أهمّهُما وأهمّ قريش معضل ، ثمّ حجبت السيدة (آمنة) حين لاحت بواكير نضجها في الوقت الذي كانت فيه خطوات (عبد الله) تسرع من مرحلة الصبا إلىٰ غض الشباب.

أجل : إنّ شذىٰ عطرها ينبعث من دور بني زهرة ، فينتشر في أرجاء مكّة ويثير أكرم الآمال في نفوس شبانها الذين زهدوا في كثيرات سواها ، نعم لقد ابتذلتهن العيون والألسن.

ورَنَت أنظار الفتيان من بيوتات مكّة إلىٰ زهرة قريش ، وتسابقوا إلىٰ باب بيتها يلتمسون يدها ، ويزفّون إليها ما لهم من مآثر وأمجاد ، لقد تسابق إليها سلام الله عليها الكثيرون ، لكن (عبد الله) لم يكن من بين هؤلاء.

أمّا الذي منعه من زواجها وهي الجديرة بذلك ، هو نذر أبيه عبد المطلب ، لأنّه ما لم تنتهِ قضية النذر فإنّ زواجه منها لا يصحّ ، وصارت مسألة النذر تدور في فكر عبد المطلب.

وحدث ما حدث من مسألة ذبح عبد الله حينما أقرع صاحب الأقداح فخرج الذبح علىٰ عبدالله ، وهمّ عبد المطلب بذبح ابنه الحبيب ، وأخيراً انتهت المسألة بأن يُقرع بين عبد الله ونحر الابل ، حيث قام عبد المطلب يدعو الله ثمّ قرّبوا عبد الله وعشراً من الإبل وأقرعوا بينهما فخرج القدح علىٰ عبد الله ، ثمّ زادوهما عشرا عشرا وعبد المطلب يدعو الله بخالص الدعوات حتىٰ بلغت الإبل المائة فقرعوا بينهما ، فهتفت قريش ومن حضر من الناس انّه قد انتهى رضا ربّك يا عبد المطلب ! وخرج القدح علىٰ المائة من الإبل ، فهزّ عبد المطلب رأسه في ارتياب وقال : لا والله حتىٰ أضرب عليها ثلاث مرات ! فضربوا علىٰ


عبدالله وعلىٰ الإبل المائة ، وعبد المطلب يدعو الله فخرج القدح علىٰ الإبل ، ثمّ عادوا الثانية والثالثة والقدح يخرج علىٰ الإبل ! وعند ذلك اطمأن قلب شيخ قريش ونُحرت الإبل.

وبعد أن حصل الاقتراع بين (الأقداح وعبد الله) وانتهت المسألة بفداء عبد الله بمائة من الإبل ، انصرف عبد المطلب آخذاً بِيَدِ ابنه عبد الله ، وكان ذلك بعد حفر بئر زمزم بعشر سنوات(١) حتىٰ أتىٰ دار وهب بن عبد مناف ابن زهرة ، وهو يومئذ سيد بني زهرة نسباً وشرفاً ، ليطلب يد ابنته (آمنة) لابنه المفدّىٰ (عبدالله).

وهنا أقبلت أُمّها (برَّة) متهلّلةَ الوجه مشرقة الأسارير بعد أن رأت وهب زوجها يدنو منها ليقول لها في رقّة وحنو : إنّ شيخ بني هاشم قد جاء يطلب يد ابنتها (آمنة) زوجةً لابنه المفدّىٰ عبد الله ! ثمّ عاد أبوها من فوره إلىٰ ضيفه عبد المطلب ، ولكن السيدة آمنة اُصيبت بذهول ، وما لبثت أَن أفاقت علىٰ صوت قلبها يخفق عالياً حتىٰ ليكاد يبلغ مسمع اُمّها الجالسة إلىٰ جوارها ، أحقّاً آثرتْها السماء بفتىٰ هاشم زوجا لها ؟

وحينئذٍ توافدت سيّدات آل زهرة مهنّئات مباركات ، ثمّ توافدت نساء قريش علىٰ (زهرة قريش) مهنّئات اقترانها بفتى هاشم الصبيح ، ولهذا الحسب والنسب أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً :« ما ولدتني بغيٌّ قط مذ خرجت من صلب أبي
آدم ، ولم تزل تنازعني الاُمم كابراً عن كابر حتىٰ خرجت في أفضل حيّين
في العرب : هاشم وزهرة »
(٢) .

_____________

(١) إيمان أبي طالب / فخار بن معد الموسوي : ٤٣.

(٢) تاريخ ابن عساكر ٣ : ٤٠١ باب ذكر طهارة مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وطيب أصله وكرم
محتده.


عشية زواجها من عبد الله عليهما‌السلام :

توقّف الزمن مبتهجاً ، وأُضيئت المشاعل في شتىٰ أرجاء البلد الحرام مكّة ، وحفلت دار الندوة بوجوه قريش وساداتها ، وسمرت مسامر البلدة المقدسة تسترجع قصة الذبيح الأوّل حين مضىٰ به أبوه (إبراهيم الخليل عليه‌السلام ) إلى الجبل كَي يذبحه طاعةً وتعبّداً ، فافتداه الله بكبش عظيم بعد أن كاد الموت قاب قوسين أو أدنىٰ ! إنّها القصّة التي تناقلها الآباء والأجداد جيلاً بعد جيل ، تعود فتمثّل علىٰ المسرح نفسه ، وفي البيت العتيق الذي رفع إبراهيم قواعده وإسماعيل الذبيح المفتدىٰ الأوّل ، ولكن المفتدىٰ هذه المرّة هو حفيد أصيل من ذرّية إسماعيل عليه‌السلام . لقد هزّت قصة الفداء قلوب كل المكيّين تعلّقاً بالشاب الوسيم فتىٰ هاشم الذي مسّت الشفرة منحره الشريف ، لكن الله أنقذه بأغلىٰ فدية في ذلك الحين.

أجل استغرقت أفراح زواجه الميمون ثلاثة أيام بلياليها ، وكان عبد الله
أثناءها يقيم مع عروسه الجميلة والميمونة السيدة (آمنة) فتاة قريش في دار
أبيها ، وعلىٰ عادة القوم (١) ، حتىٰ إذا أشرق صباح اليوم الرابع سبقها إلىٰ داره
كي يتهيّأ لاستقبال عروسه الملاك. أجل تلقّاها (عبد الله) علىٰ باب داره متلهّفاً
مشتاقاً إليها ! وكان بيته رحباً مريحاً لهما ، وهنا ترك العريس (عبد الله) عروسه
في مخدعها مع رفيقاتها من سيدات (آل زهرة) وخرج إلىٰ رحبة داره الواسعة
حيث يستقبل ضيوفه الكرام الذين صحبوا عروسه المباركة في قدومها إلىٰ
بيته ، ومضىٰ وَهْنٌ من الليل والقوم ساهرون يباركون العروسين ويدعون لهما ،
_____________

(١) عيون الأثر / ابن سيد الناس ١ : ٢٥.


إذ هما أعزّ من عرفت مكّة حسباً وأعرقهم نسباً ، وقد كانت سوداء بنت زهرة الكلابية كاهنة قريش قد رأت السيدة آمنة فقالت : هذه (النذيرة) أو ستلد نذيراً(١) . ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ) (٢) . وأما زواجهما عليهما‌السلام فكان ليلة الجمعة المصادف عشية عرفة ، فما أعظم تلك المناسبتين وما أعظم العروسين !

فهنيئاً لك يا آمنة ، لقد ظفرت بمن تقطّعت قلوب سيدات مكّة من أجله !! ويذكر بودلي(٣) صاحب (كتاب الرسول) عن فتى هاشم :

إنّ عبد الله اشتهر بالوسامة ، فكان أجمل الشباب وأكثرهم سحرا وذيوعَ صيتٍ في مكّة ، ويقال انّه لمّا خطب السيدة (آمنة) تحطّمت آمال قلوب الكثيرات من سيدات مكّة اللاتي كُنّ يؤمّلنه ، فهو حلم عذارىٰ قريش ومرمىٰ آمال الفتيات ! الأمر الذي يشير إلىٰ كون عبد الله عليه‌السلام يوسف قريش في اتزانه وجماله.

شمائلها وصفاتها عليها‌السلام :

كانت من أحسن النساء جمالاً ، وأعظمهن كمالاً ، وأفضلهن حسباً ونسباً ، وكان وجهها كفلقة القمر المضيء ، وقد وصفها أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : قائلاً :

« والله ما في بنات مكّة مثلها ، لأنّها محتشمة ونفسها طاهرة مطهرة ،
عفيفة أديبة عاقلة ، فصيحة بليغة ، وقد كساها الله جمالاً لا يوصف »
.

والحق : إنّ السيدة آمنة كانت من أكابر النساء ، ومن أشراف النسوة
_____________

(١) الروض الأنف / السهيلي ١ : ٤١.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٣٤.

(٣) تراجم سيدات بيت النبوة / د. بنت الشاطئ : ١٠٤.


المكرّمات ، وإنّها من أعلىٰ العرب نسباً وحسباً ، سطع نور فخرها السماوات العلىٰ ، وهبت رياح عطرها في كل ذرات الهواء ، فلها الفضل الجميل الذي لم يسمح الدهر لغيرها بمثيل ، وكل ما يذكره المؤرّخون عنها سلام الله عليها أنّها كانت : (أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً)(١) ، ولهذا أشار في حقّها العباس بن عبد المطلب عليه‌السلام قائلاً : كانت ـ آمنة ـ من أجمل نساء قريش وأتمّها خُلقاً(٢) .

حملها بسيد الكائنات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله :

أجل تمَّ زواجهما عليهما‌السلام وسرعان ما بانت البشرىٰ لهما ، حيث نامت السيدة
آمنة ليلتها وعبد الله إلىٰ جانبها ساهر يقظان يرقب نور الفجر الوليد ، حتىٰ إذا
دنا الصبح استيقظت العروس (آمنة) من نومها الهنيء وأقبلت علىٰ زوجها
تحدّثه عن رؤياها : رأت كأنّ شعاعاً من النور انبلج من كيانها اللطيف يضيء
الدنيا من حولها حتىٰ انّها لترىٰ قصور بصرىٰ في الشام ، وسمعت هاتفاً يهتف
بها : لك البشرىٰ فانّك حملت بسيد هذه الاُمّة (٣) . وبقي عبد الله مع عروسه
الميمونة عدّة أيّام ، وقيل عشرة أيام (٤) ، وكان يشعر أنّ عروسه آمنة تحمل له
جنينه الغالي ، وقد بدت لعينيه في تلك اللحظات داخل إطار من نور مقدّس
ووسط هالة من الاشعاع السماوي ، ولكنه كان مضطرّاً إلىٰ السفر وهو علىٰ أمل
_____________

(١) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٣٨.

(٢) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق ١ : ١٧٥ / ٣٢.

(٣) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٤٠.

(٤) ذكر ذلك جمهور المؤرخين / وقيل : إن عمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمانية وعشرون شهراً ،
سيرة ابن هشام ١ ـ ٢ : ١٥٨ حاشية (٣).


اللقاء القريب ! إذ كان عليه أن يلحق بقافلة قريش التجارية المسافرة من مكّة المشرفة إلىٰ مدينة غزّة بفلسطين ثمّ الشام ، فسافر عليه‌السلام مودّعاً زوجته الحبيبة حيث أخبرها أنّ سفرته ليست طويلة ، وإنّما هي بضعة أسابيع ! وقد مضىٰ شهر واحد ولا جديد فيه سوىٰ أنّ السيدة (آمنة) شعرت بالبادرة الاُولىٰ للحمل ، وكان شعورها به رقيقاً لطيفاً.

روىٰ الحافظ ابن سيد الناس من طريق الواقدي بسنده إلىٰ وهب ابن زمعة عن عمّته قالت : كُنّا نسمع أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا حملت به اُمّه آمنة سلام الله عليها كانت تقول : ما شعرت بأنّي حامل فيه ، ولا وجدت له ثقلة كما تجد النساء ، إلّا أنّي أنكرت رفع حيضتي فقال : هل شعرت انك حملت ؟ فكأني أقول ، ما أدري ، فقال : انّك حملت بسيد هذه الاُمّة ونبيّها ، وذلك يوم الاثنين ، فكان ذلك مما أيقن عندي الحمل(١) .

وعن الزهري قال : قالت السيدة آمنة : لقد عَلِقتُ به فما وجدت مشقّة حتىٰ وضعته(٢) .

أمّا خبر حمل السيدة آمنة بوليدها ، ففي ديار الحجاز كانت قد علمت الكهنة بذلك نظراً لكثرة هطول بركات السماء وبزوغ بركات الأرض ، حيث إنّ العرب كان قد أصابها قحط ومخمصة ، وعند حمل السيدة بوليدها صلى‌الله‌عليه‌وآله نزل المطر وكثرت النعم عليهم حتىٰ سميت تلك السنة بسنة الأنقع(٣) .

_____________

(١) شرح المواهب اللدنية / الزرقاني ١ : ١٢٠.

(٢) الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ١ : ٩٨ خبر (ذكر حمل آمنة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

(٣) سنة الأنقع : يعني سنة نزول المطر وارتواء الأرض والناس والدواب من الماء.
منتهى الآمال / عباس القمّي ١ : ٥٦.


وفاة زوجها عليه‌السلام :

سافر عبد الله عليه‌السلام إلىٰ الشام علىٰ أمل العود إلىٰ عروسه الميمونة ، فلمّا وصل إلىٰ يثرب مرض هناك ومات ، وقيل : مات بالأبواء بين مكّة والمدينة ، ومضىٰ شهر واحد ولم تسمع شيئاً عن خبره ، وأخيراً عادت قافلة قريش وتعلّقت عينا السيدة آمنة بطرف الباب حتىٰ إذا فتح الباب بعد لحظة طالت كأنّها دهرٌ خذلتها قدماها فوقفت واجمة خائفة ! لأنه لم يكن زوجها الحبيب (عبد الله) هو الطارق والقادم ، بل جاء عمّها الشيخ عبد المطلب في صحبة أبيها ونفر من أهلها الأقربين ، وكانت وجوههم واجمة ، وكانت بركة أُم أيمن تمشي في أثرهم متخاذلة مطرقة برأسها ، تحاول أن تخفي دموعها التي ما برحت أن انهمرت من مقلتيها كالمطر ، ثمّ جاء الحارث وحده لينعىٰ أخاه العريس الشاب إلىٰ أبيه الشيخ عبد المطلب وزوجته العروس وبني هاشم وجميع القرشيين.

فأوكلت السيدة آمنة أمرها إلىٰ الله صابرة محتسبة ، وهنا أتمّت شهرها الثاني ، ولكن غائبها لم يعُد ولن يعود ، وكانت عاودتها في لحظات نومها القصيرة رؤيا منبّئة عن جنين عظيم تحمله وتسمع الهاتف يبشّرها بخير البشر !

لم تفتأ السيدة آمنة تذكر زوجها الحبيب وترثيه متوجعة حزينة باكية ، ومن قولها في هذه المأساة :

عفا جانب البطحاء من زين هاشم

وجاور لحداً خارجاً في الغماغم

دعته المنايا دعوة فأجابها

وما تركت في الناس مثل ابن هاشم

عشية راحوا يحملون سريره

تعاوده أصحابه في التزاحم

فإن تكُ غالته المنون وريبها

فقد كان معطاءً كثير التراحم(١)

_____________

(١) شرح المواهب / الزرقاني ١ : ١٢٠.


كما حزن عليه الشيخ عبد المطلب وأهل بيته وذويه حزنا شديدا ، ولبست مكّة حينها ثوب الحداد والعزاء علىٰ فتىٰ هاشم الذي غالته المنون ولمّا ينتزع عنه ثوب العرس ، ولم يمضِ حينها علىٰ فدائه إلّا شهرين وأيام ، وكان عمره سلام الله عليه يوم وفاته ثمانية عشر عاماً ، وترمّلت زوجته العروس الشابة وما يزال في يديها خضاب العرس ! ولبثت مكّة في الحزن علىٰ عبد الله شهراً وعدة أيام.

ولادتها سيد الكائنات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله :

كانت بلاد الحجاز آنذاك تموج بأقوال مرهصة بنبي منتظر قد تقارب زمانه يتحدّث بها الأحبار من اليهود والرهبان من النصارىٰ والكهان من العرب(١) .

لقد تقدّمت بالسيدة آمنة أشهر الحمل ، ولم تبق إلّا أيام قليلة على الولادة المباركة الميمونة ، وبينما كانت تنتظر الوليد بجانب البيت الحرام الآمن وإذا بإبرهة الحبشي يهدّد مكّة ، فجاء إليها عمّها عبد المطلب طالباً منها أن تتهيأ ليخرج بها وأهلها إلىٰ خارج مكة المعظمة ، ولكنّها في نفسها تأبىٰ ذلك إلّا أن تلد وليدها الحبيب وهي بجنب البيت الحرام ، وهكذا عاشت حالتين : حالة التهيأ للرحيل ، وحالة التمسّك بالدعاء لتلد حملها بجانب البيت العتيق ، وبينما هي كذلك حيث تعيش دوامة اختيار القرار ، وإذا بالبشرىٰ تزفّ إليها بأنّ إبرهة وجيشه قد هلكوا وخرجوا يتساقطون بكلّ طريق ويهلكون بأسوء مهلك وإبرهة معهم يتناثر جسمه وتسقط أنامله. فأقبلت قريش علىٰ كعبتها المقدسة تطوف بها حامدة شاكرة ، وتجاوبت أرجاء البلد الحرام بدعوات المصلّين وأناشيد الشعراء.

_____________

(١) السيرة النبوية / ابن هشام ١ ـ ٢ : ٢٠٤.


وبلغت البشرىٰ مسامع السيدة آمنة ، فأشرق وجهها بنور اليقين والإيمان ، وأحسّت غبطة عامرة ان استجاب الله عز وجل دعاءها بأن تلد وليدها المقدّس الطاهر بجنب بيته الحرام ، وجاءها المخاض في أول السحر من ليلة الاثنين وهي وحيدة في منزلها وليس معها إلّا جاريتها ، فأحسّت ما يشبه الخوف ، لكنها ما لبثت أن شعرت بنور يغمر دنياها ، ثمّ بدا لها كأن جمعاً من النساء يحضرنها ويحنون عليها فحسبتهن من القرشيات الهاشميات ، ولكنها أدركت أنهن لسن كذلك ، بل كُنَّ مريم بنت عمران ، وآسيا بنت مزاحم ، وهاجر أُم إسماعيل عليهن السلام ، وتوارت الأطياف النورانية السارية حين لم تعد السيدة (آمنة) وحدها ، أجل فقد كان وليدها المبارك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلىٰ جانبها يملأ الدنيا حولها نوراً واُنساً وجمالاً ، ومضت ترنو إلىٰ طلعته البهيّة وكيانه المشرق ، وتذكر به ذلك السيد الحبيب الذي أودعه إيّاها ثمّ رحل إلىٰ غير عودة سلام الله عليه.

تاريخ الولادة الميمونة :

أمّا تاريخ ولادته صلى‌الله‌عليه‌وآله المباركة فهي بعد يوم الفيل بنحو خمسين يوماً ، وهو الأشهر ، وقد نُقل عن ابن عباس قوله : فإنّ المولد كان يوم الفيل ، بينما اكتفى آخرون بالقول : إنه كان عام الفيل ، وهو المقارن لعام ـ ٥٧٠ ميلادي(١) .

كيفية الولادة المباركة وما رافقها من أحداث :

وفي المقام جملة من الروايات نذكر منها : عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن جدّته
_____________

(١) سيرة ابن إسحاق : ٤٨ باب مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .


السيدة آمنة ، أنّها ذكرت كيفية ولادته صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت :

« إنّ ابني والله لقد سقط ، وما سقط كما يسقط الصبيان سقط ولقد اتّقىٰ الأرض بيديه ورفع رأسه إلىٰ السماء فنظر إليها ثمّ خرج منه نور حتىٰ نظرت إلىٰ قصور بُصرىٰ وسمعت هاتفاً في الجو يقول : لقد ولدتيه سيّد الأمة ، فإذا وضعتيه فقولي : اُعيذه بالواحد من شرّ كل حاسد وسمّيه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله »(١) .

وعن الإمام الكاظم عليه‌السلام ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام :« ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله سقط من
بطن اُمّه واضعاً يده اليسرىٰ علىٰ الأرض ، ورافعاً يده اليمنىٰ إلىٰ السماء ،
ويحرّك شفتيه بالتوحيد ، وبدأ من فيه الطاهر نور رأىٰ أهل مكّة منه قصور
بُصرىٰ من الشام وما يليها والقصور الحمر من أرض اليمن وما يليها ،
والقصور البيض من اصطخر وما يليها ، ولقد أضاءت الدنيا ليلة وُلد
النبي
صلى‌الله‌عليه‌وآله حتىٰ فزعت الجنّ والإنس والشياطين » (٢) .

وعن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال :« لمّا ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أُلقيت
الأصنام في الكعبة علىٰ وجوهها ، فلما أمسىٰ سُمِع صيحة من السماء : جاء
الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً »
(٣) .

آمنة تبشّر عبد المطلب بحفيده الجديد :

لمّا انبلج الصبح كان أول ما فعلته أن أرسلت إلىٰ عمّها عبد المطلب تبشّره
بمولد حفيده الأكرم ، فأقبل مسرعاً وانحنىٰ علىٰ وليده المبارك يملأ منه عينيه ،
_____________

(١) روضة الكافي ٨ : ٣٠١.

(٢) بحار الأنوار / المجلسي ١٥ : ٢٦٠ / ١١.

(٣) بحار الأنوار / المجلسي ١٥ : ٢٧٤ / ٢٠.


وقد ألقىٰ كلّ سمعه إلىٰ السيدة آمنة وهي تحدّث عمّا رأت وسمعت حين الوضع لمولودها المبارك وعن كل ما قالت.

ثمّ حمل عبد المطلب حفيده العزيز بين ذراعيه في رفق ورقّة ، وانطلق به خارجاً إلىٰ الكعبة المعظمة ، فقام يدعو الله ويشكر له أن وهبه ولداً عوضاً عن أبيه السيد الفقيد ، وأحاط به بنوه في خشوع وهو يطوف بالكعبة المشرّفة ويعوّذُه منشداً :(١)

الحمد لله الذي أعطاني

هذا الغلام الطيب الأردانِ

قد ساد في المهد علىٰ الغلمانِ

اُعيذه بالبيت ذي الأركانِ

حتّىٰ أراه بالغ البنيانِ

أُعيذُه من شرّ ذي شنآنِ

من حاسد مضطرب العنانِ

ثمّ ردّهُ إلىٰ أمّه وعاد لينحر الذبائح ويطعم أهل الحرم وسباع الطير ووحش الفلاة ، وكانت مكّة حين ذاعت بشرىٰ المولد ما زالت تحتفل بما أتاح الله لها من نصر علىٰ أصحاب الفيل ، فرأىٰ القوم في مولد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله آية تذكّر باُخرىٰ.

بعدما جفّ لبن اليتيم حزناً علىٰ عبدالله :

أقبلت السيدة (آمنة) علىٰ صغيرها الحبيب ترضعه ريثما تأتي المراضع من
البادية فيذهبن به مع لداته من رضعاء قريش بعيداً عن جو مكّة الخانق ، ولكن
_____________

(١) الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ١ : ١٠٣.


لبن السيدة آمنة جفّ بعد أيام لما أصابها من حزن لفقدان زوجها الحبيب عبدالله عليه‌السلام ، فدفعت به إلىٰ ثويبة جارية عمّه وكانت قد أرضعت قبله عمّه (حمزة).

ثمّ لم تمضِ إلّا أيّام معدودات حتّىٰ وفدت المراضع من بني سعد بن بكر يعرضن خدماتهن علىٰ نساء قريش الموسرات ، فعُرض عليهن الرضيع محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فزهدن فيه ليتمه وأنّه لم يكن ذا ثراء عريض إلّا حليمة السعدية رضي الله عنها ، فأخذته صلى‌الله‌عليه‌وآله إلىٰ البادية ثمّ أبقته مدّة سنتين وعادت به إلىٰ أُمّه ، ثمّ أخذته مرّة أُخرىٰ وأرجعته إلىٰ أُمّه المباركة فاستقبلته منها قائلةً :

واللّه ما للشيطان عليه من سبيل ، وإن لبُنَيَّ لشأناً ، أفلا أخبرك خبره ؟ قالت : قلت : بلىٰ. قالت : رأيت حين حملتُ به أنه خرج مني نورٌ أضاء لي به قصور بصرىٰ من أرض الشام ، ثم حملت به ، فوالله ما رأيت من حَمل قطّ كان أخفّ ولا أيسرَ منه ، ووقع حين ولدته وانه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلىٰ السماء ، ثمّ ودَّعتنا قائلة لنا : دعيه عنك وانطلقي راشدة(١) ، وعاش معها إلىٰ أن بلغ السادسة من عمره الشريف(٢) .

رحلتها إلىٰ يثرب ووفاتها عليها‌السلام :

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أُمّه المباركة آمنة بنت وهب ينبته الله نباتاً حسناً ، فبدرت علىٰ الصبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بوادر النضج المبكّر ، ورأت السيدة آمنة في وليدها العزيز مخايل الرجل العظيم الذي طالما تمثّلته ووعدت به في رؤياها السابقة.

_____________

(١) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٤٥.

(٢) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٤٨.


وهنا حدّثت ابنها صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد طال بها الانتظار ، للقيام برحلة يقومان بها إلىٰ يثرب الطيبة ، كي يزور قبر الأب الحبيب عبدالله ، وسرّه أن يصحب أُمّه المباركة في زيارتهما لمثوىٰ أبيه عليه‌السلام ، وأن يتعرف في الوقت نفسه علىٰ أخوال أبيه المقيمين في يثرب ، وكانوا ذوي شرف وجاه عريق ، ولعلّه سمع صلى‌الله‌عليه‌وآله من أُمّه أكثر من مرّة وهي تقصّ عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله حديث (أبي وهب بن عمرو) خال جدّه عبد المطّلب ، وانه كيف تصدّىٰ لقريش حين أجمعت علىٰ تجديد بناء الكعبة فقال مخاطباً :

يا معشر قريش ، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلّا طيّباً ، ولا تدخلوا فيه مهر بغي ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس !(١) .

وكان الجو صيفاً والشمس محرقة تلهب صخور مكّة وتصهر رمالها حيث بدأت السيدة (آمنة) تتهيّأ للرحلة الطويلة والشاقّة ، تجتاز بها الأميال المائتين التي تفصل مكّة عن يثرب حيث يرقد في ثراها زوجها الحبيب (عبد الله عليه‌السلام ) الذي ودّعها منذ سبع سنين ، ولم تكن تجهل مشقّة السفر عبر الصحراء ، ولكن شوقها إلىٰ زيارة يثرب حيث قبر زوجها كان أقوىٰ من عقبات السفر ، وألقت السيدة آمنة نظرة الوداع علىٰ دار عرسها مع زوجها الحبيب عبد الله والتي وضعت فيه ولدها المبارك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وسار الركب حتىٰ توارت جدران مكّة خلف الجبال الشُّم ، وتوجّه الراحلون
شمالاً ، واستمرّت الرحلة حتىٰ شارفت علىٰ النهاية ، فجمعت السيدة آمنة
نفسها ، وأقبلت علىٰ ولدها المبارك تحدّثه من جديد عن أبيه ، وتغريه بأن
يتطلّع إلىٰ المدينة البيضاء التي بدأت تتكشّف خلف جبل أُحد حيث ينبسط
_____________

(١) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٦٦ ـ ١٦٧.


السهل وتطمئن الأرض ويتموّج عشبها الأخضر وتحنو عليها ظلال النخيل الباسقات ، وأناخ الركب في يثرب ، وترك السيدة آمنة وولدها المبارك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وجاريتها في حيّ بني النجّار ، ثمّ أخذت ولدها ومضت تطوف بالبيت الذي مرض فيه زوجها عبدالله ، وتحجّ إلىٰ القبر الذي حوىٰ رفاته الطاهرة عليه‌السلام ، ثمّ أطلقت ولدها ليعيش بين أولاد أخواله ، وطاب لهما العيش شهراً كاملاً ، نفّست عن حزنها المكبوت ، وأسعفتها عيناها بما شاءت من دموع ، ثمّ ودّعت قبر حبيبها عبدالله وركبت راحلتها وركب معها ولدها الميمون صلى‌الله‌عليه‌وآله وجاريتها باتجاه مكّة ، وإذا هم في بعض مراحل الطريق إذ هبّت عاصفة عاتية أخذت تسفع المسافرين بريحها المحرقة ، وقد شعرت عندها السيدة آمنة بضعف طارئ مكّن لها من جسمها المتعب ما كانت تجد من لوعة الفراق الجديد (فراقها وليدها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وحينها أحسّت السيدة آمنة بالفراق المحتوم ، فتشبّثت بوحيدها الحبيب معانقة له ، وقد انهمرت دموعها ، وأخذ وليدها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يجفّف دموعها برقّة ولطف ليخفّف عنها رهبة الموقف ، ويرجو أن تعود بصحّة وعافية ، لكن فجأة تراخت ذراعاها عنه ، فحدَّقَ فيها ، فراعه أن بريق عينيها الحنونتين انطفأ ، وصوتها خفت ، ونظر إليها فكلّمته قائلة :

بارك الله فيك من غلامِ

ياابن الذي من حومة الحمامِ

نجا بعون الله الملك العلامِ

فودّي غداة الضرب بالسهامِ

بمائة من إبلٍ سوامِ

         

ثمّ أمسكت تستريح ، فلمّا التقطت أنفاسها اللاهثة قالت مخاطبة ابنها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله :

إن صحّ ما أبصرت في المنام

فأنت مبعوث علىٰ الأنام

من عند ذي الجلال والإكرام

تبعث في الحل وفي الحرام


تبعث بالتحقيق والإسلام

دين أبيك البر ابراهام

فالله أنهاك عن الأصنام

أن لا تواليها مع الأقوام

وأخيراً أردفت قائلة : (كلّ حيّ يموت ، وكلّ جديد بالٍ ، وكلّ كبير يفنىٰ ، وأنا ميّتة ولكن ذكري باقٍ ، فقد تركت خيراً ، وولدت طهراً)(١) ، ثمّ ذاب صوتها راحلةً إلىٰ الملكوت الأعلىٰ.

وقد دفنت سلام الله عليها في (الأبواء)(٢) ، وتذكر رواية أُخرىٰ أنها نقلت ودفنت في مكّة المكرمة في مقبرة الحجون (وهو جبل بأعلىٰ مكّة ومحيط بها) وقد ضمّت تلك المقبرة فيما بعد جسد السيدة خديجة عليها‌السلام بجنب قبر السيدة آمنة عليها‌السلام ، ولذا قال في حقّهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :« ان الحجون والبقيع لتؤخذان
بأطرافهما وتنثران في الجنّة »
(٣) .

وقد أجاد الشاعر في تأبين سيدة الاُمهات آمنة ، منشداً :

نبكي الفتاة البرّة الأمينه

ذات الجمال العفّة الرزينه

زوجة عبد الله والقرينه

أُم نبي الله ذي السكينه

لو فوديت لفوديت ثمينه

وللمنايا شفرة سنينه

لا تبقين ظاعناً ولا ظعينه

إلّا اتت وقطعت وتينه(٤)

وهكذا انقضت حياة آمنة بنت وهب عليها‌السلام في دار الدنيا لتبدأ رحلتها الثانية
من جديد ، رحلة خالدة لا تعب فيها ولا نصب ، لتلتقي بكوكبة النساء
_____________

(١) الحاوي للفتاوي / السيوطي ٢ : ٢٢٢.

(٢) الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ١ : ٧٧.

(٣) سفينة البحار / عباس القمي ١ : ٢٧٢ مادة « حجن ».

(٤) الحاوي للفتاوي / السيوطي ٢ : ٢٢٢.


الخالدات المؤمنات اللواتي رضي الله تعالىٰ عنهن وخلد ذكرهن بما أحسنَّ ، فنعم عقبىٰ الدار.

فسلام عليك يا سيدة الاُمهات يوم حملت بوليدك الوتر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ويوم ولدته رحمة للعالمين ، ويوم تبعثين وعند وليدك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كرامة الشفاعة بين يدي ربّ العالمين.

ثانياً : اُم سيد الأوصياء أمير المؤمنين عليه‌السلام

اسمها : هي السيدة فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبدمناف بن قصي بن كلاب.

أبوها : أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب.

اُمّها : فاطمة بنت حرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي.

كراماتها :

لقد شملت الرعاية الإلهية السيدة فاطمة بنت أسد عليها‌السلام بعدة كرامات امتازت بها عن النساء الاُخريات ، فهي أوّل هاشمية يتزوّجها هاشمي ، وقد كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنزلة الأُم الرؤوم حيث أمتدت مدّة أمومتها له صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرين سنة ، وكانت أبرّ الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان يدعوها اُمه !(١) حيث كان يزورها ويقيل في بيتها ويكنّ لها احتراماً كبيراً ، وعندما حضرت وفاتها قام فكفّنها بقميصه ، واضطجع في قبرها ، وكبّر في الصلاة عليها سبعين تكبيرة(٢) .

_____________

(١) تواريخ النبي والآل / محمد تقي التستري : ٨٤ عن بصائر الدرجات للصفار.

(٢) المستدرك علىٰ الصحيحين / الحاكم النيسابوري ٣ : ١١٧ / ٤٥٧٤.


وهي أوّل امرأة تلد داخل الكعبة ، وكان ذلك يوم الجمعة المصادف للثالث عشر من رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة ، ولم تلد امرأة قطّ في بيت الله الحرام سواها (لا قبلها ولا بعدها) ، وبهذه الكرامة فقد ميّزها الله عزّوجلّ علىٰ جميع النساء بولادة علي عليه‌السلام في البيت المعظم دون سائر نساء العالمين ، إذ لم يولد به نبي مرسل ولا وصي منتجب ، ولا صدّيق ولا شهيد ، وهذه كرامة خصّها الله عزّوجلّ للسيدة فاطمة ولابنها أمير المؤمنين عليهما‌السلام . ولقد أجاد السيد الحميري شاعر أهل البيت عليهم‌السلام بقوله :

ولدته في حرم الإله وأمنه

والبيت حيث فناؤه والمسجد

بيضاء طاهرة الثياب كريمة

طابت وطاب وليدها والمولد

في ليلة غابت نحوس نجومها

وبدت مع القمر المنير الأسعد

ما لُفَّ في خرق القوابل مثله

إلّا ابن آمنة النبي محمّد(١)

فما أعظم هذه المرأة ، وما أعظم وليدها ! وقد أشاد في حقها حفيدها الإمام الصادق عليه‌السلام في الرواية الواردة عنه :« إنّ السيدة فاطمة بنت أسد جاءت إلىٰ
أبي طالب
عليه‌السلام لتبشّره بمولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لها أبو طالب عليه‌السلام : اصبري سبتاً
ابشّرك بمثله إلّا النبوة ، وقال : السبت ثلاثون سنة ، وكان بين رسول الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله
وأمير المؤمنين
عليه‌السلام ثلاثون سنة » (٢) .

وهي أوّل من أسلم من النساء بعد السيدة خديجة الكبرىٰ ، وبذلك يتصدّر
_____________

(١) في رحاب أئمـّة أهل البيت / السيد الأمين ١ : ٤.

(٢) الكافي١ : ٤٥٢ / ١ ، باب مولد أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، من كتاب الحجة.


اسمها المُشرق قائمة الرعيل الأوّل من المسلمين(١) ، حيث أسلمت بعد إسلام عشرة من المسلمين ، فكانت هي المسلمة الحادية عشرة ، وهي بدرية(٢) .

وهي أول من بايع الرسول من النساء بعد خديجة عليها‌السلام ، فعندما نزلت الآية ( إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ) (٣) كانت السيدة فاطمة بنت أسد أوّل امرأة بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) بمكّة بعد السيدة خديجة(٥) .

كما أنها من طلائع النسوة المؤمنات المهاجرات إلىٰ المدينة(٦) ، وقد قال الله تعالىٰ : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ
أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ
) (٧) .

ونزلت بعض الآيات الكريمة بحقّها وحقّ الفواطم اللواتي كنّ معها برفقة
أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في الهجرة إلىٰ مكّة ، إذ ورد في كثير من الروايات أنّ
الركب المفدّى الذي جمع بين أمير المؤمنين علي عليه‌السلام والفواطم في الهجرة إلىٰ
المدينة ، كان يقيم الصلاة في طريقه ويلهج بذكر الله قياماً وقعوداً ، وأنزل الله
تعالىٰ فيهم قوله المبارك : ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ
_____________

(١) الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ١٤.

(٢) مقاتل الطالبيين / أبو الفرج الأصفهاني : ١٠ ، والإصابة / ابن حجر ٤ : ٣٦٨.

(٣) سورة الممتحنة : ٦٠ / ١٢.

(٤) البرهان في تفسير القرآن / هاشم البحراني ٥ : ٣٥٩ / ١٠٦٧٣ ، ط مؤسسة البعثة.

(٥) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٢٠ ط مؤسسة أهل البيت عليهم‌السلام ، بيروت.

(٦) الكافي ١ : ٤٥٣ / ٢ باب مولد أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، من كتاب الحجّة.

(٧) سورة التوبة : ٩ / ٢٠.


عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ) (١) . والذكر هنا علي عليه‌السلام ، والاُنثىٰ هنّ الفواطم ، وفاطمة بنت أسد منهنّ(٢) .

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّها وبعد وفاتها :« رحمك الله يا اُمّي ، كنتِ اُمي بعد
اُمّي ، تجوعين وتشبعيني ، وتعرين وتكسوني ، وتمنعين نفسك من أطيب
الطعام وتطعميني ، تريدين بذلك وجه الله عزّوجلّ والدار الاُخرىٰ »
(٣) .

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال :« نزل جبرئيل علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال :
يا محمّد ، إن ربّك يقرئك السلام ويقول : إنّي قد حرّمْت النّار علىٰ وحجرٌ
كفلك ، وأمّا حجر كفلك فحجر أبي طالب »
، وفي رواية ابن فضال :« وفاطمة بنت أسد » (٤) .

زواجها من أبي طالب عليهما‌السلام :

لمّا كانت السيدة فاطمة بنت أسد ابنة عمّ عبد مناف (أبي طالب) وكانت
تتمتّع بصفات جليلة جعلتها من فضليات النساء الهاشميات ، لذا بزغت في
عصرها شمساً في سماء الكمال تتنقّل في أبراجه ، فهي ذات شرف عظيم ،
وحسب عريق ، وكرم محتد ، ومكارم أخلاق ، وذكاء قلب ، ورجاحة عقل ،
وطهارة نفس ، وجمال ذاتٍ ، وفضيلةِ صفات ، فلا غرو أن اختارها مؤمن
_____________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٩١ ـ ١٩٥.

(٢) الأمالي / الطوسي : ٤٧١ / ١٠٣١ المجلس (١٦).

(٣) المعجم الأوسط / الطبراني ١ : ٦٧ ما روي عن شيخه أحمد بن حماد بن زغبة.

(٤) الكافي ١ : ٤٤٦ / ٢١ باب مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ووفاته من كتاب الحجة ، إيمان أبي
طالب / فخّار ابن معد الموسوي : ٥٥.


قريش ولم يستبدل بها سواها مدّة حياته ، ولم يذكر التاريخ أن أبا طالب قد تزوّج بغيرها في وقتها بل حتىٰ وفاتها ، فقد تقدّم أبو طالب لعمّه أسد طالباً يد كريمته فاطمة مرتجلاً هذه الكلمات :

الحمد لله ربّ العالمين ، ربّ العرش العظيم والمقام الكريم والمشعر والحطيم ، الذي اصطفانا أعلاماً وسادة وعرفاء خلصاء ، وقادة وحجبة بهاليل ، أطهاراً من الخنا والريب والأذىٰ والعيب ، وأقام لنا المشاعر ، وفضّلنا علىٰ العشائر ، نخب إبراهيم وصفوته وزرع إسماعيل ، وبعد فقد تزوّجتُ فاطمة بنت أسد ، وسقتُ المهر ، وأنفذتُ الأمر ، فاسألوه واشهدوا.

فقال عمّه أسد : زوّجناك (فاطمة) ورضينا بك ، ثمّ أوْلَمَ أبو طالب سبعة أيام متوالية ينحر فيها الجزور.

وقد أجاد الشاعر اُميّة بن أبي السلط في بائيته واصفاً عرس أبي طالب عليه‌السلام :

أغمرنا عرس أبي طالب

وكان عرساً لين الجانبِ

إقراؤه الضيف بأقطارها

من رجل خف ومن راكبِ

فنازلون سبعة أحصيت

أيامها للرجل الحاسبِ(١)

هذا وقد مرّت بشارة جبرئيل عليه‌السلام للحبيب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن عمّه (أبا طالب) وزوجته السيدة فاطمة بنت أسد عليهما‌السلام من أهل الجنّة ، جدير بالذكر أنه وردت أحاديث كثيرة في فضل زوجها أبي طالب عليه‌السلام لا مجال لايرادها ونكتفي بالاشارة السريعة إلىٰ اليسير منها :

عن الأصبغ بن نباتة رضي‌الله‌عنه قال سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول :« والله ما عبد _____________

(١) شيخ الأبطح أبو طالب / السيد محمّد علي شرف الدين : ٢٤.


أبي ولا جدّي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنماً قطّ » قيل له : فما كانوا يعبدون ؟ قال عليه‌السلام :« كانوا يُصلُّون إلىٰ البيت علىٰ دين إبراهيم عليه‌السلام ،
متمسّكين به »
(١) .

وقال الإمام الباقر عليه‌السلام في من طعنوا بأبي طالب عليه‌السلام من أوغاد بني أُمية وأشياعهم :« كذبوا والله إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفّة ميزان ،
وإيمان هذا الخلق في كفة ميزان لرجح إيمان أبي طالب علىٰ إيمانهم »
(٢) .

أولادها :

طالب ، وعقيل ، وجعفر ، وعلي ، وجمانة ، وفاختة (أُم هاني) وزاد بعضهم بنت اُخرىٰ وهي ريطة ، ولما كان هاشم بن عبد مناف جدّ هؤلاء الأولاد جميعاً لأبيهم وأُمهم معاً لأن أبا طالب ابن عمّ فاطمة بنت أسد ؛ لذا كان أمير المؤمنين عليه‌السلام واُخوته أول هاشمي ولده هاشم مرتين(٣) .

ولادتها أمير المؤمنين علي عليه‌السلام :

قال يزيد بن قعنب : كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب وفريق من عبد
العزىٰ بإزاء بيت الله الحرام ، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد عليها‌السلام أُم أمير المؤمنين عليه‌السلام ،
وكانت حاملة به لتسعة أشهر ، وقد أخذها الطلق فقالت : ربِّ إنّي مؤمنة بك وبما
جاء من عندك من رسل وكتب ، وإني مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل ،
وإنه بنىٰ البيت العتيق ، فبحقّ الذي بنىٰ هذا البيت ، وبحقّ المولود الذي في بطني ،
_____________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق : ١٧٤ / ٣٢.

(٢) شيخ الأبطح أبو طالب / السيد محمد علي شرف الدين : ٨٨.

(٣) الكافي / الكليني ١ : ٤٥٢ / باب مولد أمير المؤمنين عليه‌السلام .


لمّا يسّرت عليّ ولادتي.

قال يزيد بن قعنب : فرأينا البيت وقد انفتح عن ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا ، والتزق الحائط ، فرمنا أن ينفتح الباب لنا قفل الباب فلم ينفتح ، فعلمنا أنّ ذلك أمر من أمر الله عزّوجلّ.

ثمّ خرجت بعد الرابع وبيدها أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ثمّ قالت : إنّي فُضِّلتُ علىٰ من تقدّمني من النساء لأنّ آسية بنت مزاحم عبدت الله عزّوجلّ سرّاً في موضع لا يحبّ أن يعبد الله فيه إلّا اضطراراً ، وإن مريم بنت عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتّى أكلت منها رطباً جنياً ، وإني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنّة(١) .

وأنشد شاعر لبنان الأكبر ـ بولس سلامة ـ في ملحمته الكبرىٰ واصفاً تلك الكرامة الإلهية لهذه المخدرة الجليلة :

حرّة لزمها المخاض فلاذت

بستار البيت العتيق الوطيد

لا نساء ولا قوابل حفّت

بابنة المجد والعلىٰ والجود

وإذا نجمة من الاُفق لاحت

تطعن الليل بالشعاع الجديد

تبسم المسجد الحرام حبوراً

وتنادت أحجاره للنشيد

هالت الاُم صرخة جال فيها

بعض شيء من همهمات الأسود

أسد سمت ابنها كأبيها

لبدة الجد اُهديت للحفيد

بل علياً ندعوه قال أبوه

فاستفز السماء للتأكيد(٢)

_____________

(١) بحار الأنوار ٣٥ : ٨ / ١١.

(٢) المقتطف من كلّ فنّ / السيد طاهر حسن ملحم : ٣٤٥.


وفاتها وما فعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في تجهيزها ودفنها عليها‌السلام :

قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام :« لمّا ماتت امّي فاطمة بنت أسد بن هاشم عليها‌السلام
كفّنها رسول الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله في قميصه ، وكبّر عليها سبعين تكبيرة ، ونزل في قبرها ،
فجعل يومي في نواحي القبر كأنه يوسعه ويسوي عليها ، وخرج من قبرها
وعيناه تذرفان بالدموع ، وحثا في قبرها ، فلما ذهب قال له عمر : يا رسول
الله ، رأيتك فعلت علىٰ هذه المرأة شيئاً لم تفعله علىٰ أحد ؟! فقال
صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا
عمر ، إن هذه المرأة كانت اُمي التي ولدتني ، إن أبا طالب كان يصنع الصنيع
وتكون له المأدبة وكان يجمعنا علىٰ طعامه ، فكانت هذه المرأة تفضل منه
كله نصيباً فأعود فيه ، وإن جبريل
عليه‌السلام أخبرني عن ربّي عزّوجلّ أنها من أهل
الجنّة ، وأخبرني جبريل أن الله تعالىٰ أمر سبعين ألفاً من الملائكة يصلُّون
عليها »
(١) .

وسأل عمار بن ياسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : فداك أبي واُمي يا رسول الله ، لقد صلّيت عليها صلاة لم تصلِّ علىٰ أحد قبلها مثل تلك الصلاة ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله :« يا أبا
اليقظان ، واهلُ ذلك هي منّي ، لقد كان لها من أبي طالب ولدٌ كثير ، ولقد
كان خيرهم كثيراً ، وكان خيرنا قليلاً ، فكانت تشبعني وتجيعهم ، وتكسوني
وتعريهم ، وتدهنني وتشعثهم »
(٢) .

_____________

(١) المستدرك علىٰ الصحيحين / الحاكم النيسابوري ٣ : ١١٦ / ٤٥٧٤ ط دار الكتب
العلمية ـ بيروت.

(٢) بحار الأنوار / المجلسي ٣٥ : ٧٠ / ٤.


وروىٰ ابن كثير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كفّن فاطمة بنت أسد في قميصه واضطجع في قبرها وجزاها خيراً.

وروى ابن عباس رضي‌الله‌عنه نحو هذا وزاد ، فقالوا : ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعت بهذه ! قال صلى‌الله‌عليه‌وآله :« انّه لم يكن بعد أبي طالب أبرّ بي منها ، إنما ألبستها
قميصي لتُكسىٰ من حلل الجنّة ، واضطجعت في قبرها ليهون عليها عذاب
القبر »
(١) .

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام :« ان فاطمة بنت أسد سمعت رسول الله وهو
يقول : ان الناس يحشرون يوم القيامة عراة كما ولدوا ، فقالت سلام الله
عليها : واسوأتاه ! ، فقال لها رسول الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله : فإني أسأل الله أن يبعثك كاسية.
وسمعته
صلى‌الله‌عليه‌وآله يذكر ضغطة القبر ، فقالت : واضعفاه ، فقال لها رسول الله : فاني
أسأل الله أن يكفيك ذلك »
(٢) .

وذكر ابن دأب : أنّ فاطمة بنت أسد التي خاطبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في لحدها وكفّنها في قميصه ولفّها في ردائه ، وضمن لها علىٰ الله أن لا تبلىٰ أكفانها ، وأن لا تبدي لها عورة ، ولا يسلّط عليها ملكي القبر ، وأثنىٰ عليها عند موتها ، وذكر حسن صنيعها به ، وتربيتها له وهو عند عمّه أبي طالب ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّها :« ما نفعني نفعها أحد » (٣) .

وقد روىٰ في حديث آخر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لمّا حفروا قبرها وبلغوا لحدها ،
_____________

(١) أسد الغابة ٥ : ٥١٧.

(٢) الكافي / الكليني ١ : ٤٥٣ / ٢.

(٣) الاختصاص / المفيد : ١٤٨.


قام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فحفره بيده وأخرج ترابه ، ولمّا فرغ اضطجع فيه وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله :« الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت ، الّٰلهُمَّ اغفر لاُمّي فاطمة بنت
أسد ، ولقّنها حجّتها ، ووسّع عليها مدخلها بحقّ نبيِّك محمّد والأنبياء الذين
من قبلي ، فانّك أرحم الراحمين »
(١) .

وفي إشارة إلىٰ عظمة تلك المرأة ومآلها الاُخروي ، فقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله بعد دفنها حيث أخبر الحاضرين بما آلت إليه وكيف كان مصيرها حيث الروح والريحان وجنّة نعيم :« إنّ الملائكة قد ملأت الأُفق ، وفتح لها باب من
الجنّة ، ومُهّدَ لها مهاد الجنّة ، وبعث اليها بريحان من رياحين الجنّة ، فهي في
روح وريحان وجنة نعيم ، وقبرها روضة من رياض الجنّة »
(٢) .

وكيف لا تكون كذلك ، وقد وردت بعض الفقرات في زيارتها تتجلّىٰ تلك المفاهيم بروعة وجلاء عالٍ :

« السلام علىٰ فاطمة بنت أسد الهاشمية ، السلام عليك أيتها الصديقة
المرضية ، السلام عليك يا كافلة محمّد
صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم النبيين ، السلام عليك يا
والدة سيد الوصيين ، السلام عليك من ظهرت شفقتها علىٰ رسول الله خاتم
النبيين السلام عليك يا من تربيتها لولي الله الأمين أشهد أنّك أحسنت
الكفالة ، وأدّيت الأمانة ، واجتهدت في مرضاة الله ، وبالغت في حفظ
رسول الله ، عارفة بحقّه ، مؤمنة بصدقه ، معترفةً بنبوته ، مستبصرة بنعمته ،
كافلة بتربيته ، مشفقة علىٰ نفسه ، واقفة علىٰ خدمته ، مختارة رضاه ، أشهد
_____________

(١) الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ١٤.

(٢) بحار الأنوار / المجلسي ٣٥ : ٧١.


أنّك مضيت علىٰ الإيمان والتمسّك بأشرف الأديان ، طاهرة ، زكية ، فرضي
الله عنك وأرضاك ، وجعل الجنّة منزلك ومأواك »
(١) .

وكانت وفاة السيدة فاطمة بنت أسد في السنة الرابعة من الهجرة في المدينة المنوّرة حيث دُفنت في البقيع رضوان الله تعالىٰ عليها(٢) ، فسلام عليها يوم ولدت ، ويوم فارقت الدنيا راضية مرضية ، ويوم تبعث حيّة بجوار ربّ العالمين.

ثالثاً : أُم سيدة نساء العالمين عليهما‌السلام

اسمها : هي السيدة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزىٰ بن قصي بن كلاب(٣) .

أبوها : خويلد ، وهو الرجل الذي لا ينسىٰ له التاريخ ذلك الموقف النبيل حينما وقف في وجه تُبَّع ، ذلك الملك الطاغية الذي جاء من اليمن حاجاً لبيت الله الحرام ، ثمّ سوّلت له نفسه أن ينتزع الحجر الأسود ويأخذه معه إلىٰ اليمن ، فتصدّىٰ له خويلد وجماعة من أفراد عشيرته حتىٰ امتلأت نفسه بالرهبة والخوف من المغامرة بهذا الفعل المشين ، وقد ذكر أصحاب السير تلك القصة بتفاصيلها(٤) .

جدّها : أسد بن عبد العزىٰ ، وقد كان واحداً من أعضاء حلف الفضول ،
_____________

(١) مصباح الزائر / ابن طاووس : ٥٨ ، زيارة السيدة فاطمة بنت أسد عليها‌السلام .

(٢) الأمالي / الطوسي : ١٦١ / ٢٦٧ المجلس السادس.

(٣) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٦٢ نسب السيدة خديجة عليها‌السلام .

(٤) الروض الأنف / السهيلي ١ : ٢٧.


ومن مؤسسيه والدعاة إليه ، والجدير ذكره أن حلف الفضول قد مدحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال :« لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما
أُحِبّ أنّ لي به حمر النعم ، ولو أُدعىٰ به في الإسلام لأجبتُ »
(١) .

أُمّها : فاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص ابن عامر بن لؤي.

جدّتها : هالة بنت عبد مناف بن الحارث بن عمرو بن منقذ بن عمرو ابن معيص بن عامر بن لؤي(٢) ، وعلىٰ هذا فان السيدة خديجة نشأت وترعرعت في بيت من بيوتات قريش الكريمة الحسب والنسب ، فكان من أعرق وأعظم تلك البيوت نسباً وأعلاها حسباً ، لقد نبتت السيدة خديجة في بيت واسع الثراء ملتزم بالأخلاق العالية ، ومعروفاً بالتديّن ، والعفّة ، والبعد عن الانغماس في الملاهي والموبقات التي كانت بعض بيوتات قريش غارقة فيها.

كنيتها : اُم هند(٣) .

ألقابها : الطاهرة(٤) ـ سيدة نساء قريش ـ سيدة نساء مكّة ـ سيدة نساء العالمين ، وقد ورد اللقب الأخير بخبر مرفوع(٥) والمقصود به : في زمانها ، وإلّا فإنّ ابنتها الزهراء البتول صلوات الله عليها هي سيدة نساء العالمين بلا منازع.

_____________

(١) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٢٠.

(٢) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٦٣ نسب السيدة خديجة عليها‌السلام .

(٣) بحار الأنوار / المجلسي ١٦ : ١٢ ، الإصابة ٤ : ٢٨٢ في ترجمة خديجة بنت
خويلد عليه‌السلام .

(٤) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٦٣ هامش / ١.

(٥) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٢٨.


فضلها وكرامتها :

كانت خديجة صدّيقة هذه الاُمة ، وأوّلها إيماناً بالله ، وتصديقاً بكتابه ، ومواساة لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، انفردت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مدّة خمس وعشرين سنة لم تشاركها فيه امرأة ثانية ، ولو بقيت ما شاركتها فيه اُخرىٰ ، وكانت شريكته في محنته طيلة أيامها معه ، تقوّيه بمالها ، وتدافع عنه بكل ما لديها من قول وفعل ، وتعزّيه بما يفاجئه به الكفار في سبيل الله ، وكانت هي وعلي عليه‌السلام معه في غار حراء حين نزل عليه الوحي أوّل مرّة(١) .

ومن العوامل الأساسية التي ثبتت دعائم الإسلام هي أموال السيدة خديجة ، فمنذ اليوم الأوّل لزواجها المبارك من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقفت السيدة خديجة بجنب زوجها العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله موقف المدافع والمحامي ، ووضعت كل أموالها في تصرّفه لنصرة الرسالة المحمدية ، كما كانت توفّر له الملجأ والمأوىٰ والقلب الحنون ، ولذلك أوعزت إلىٰ ابن عمّها حين زواجها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يعلن أمام الملأ : إنّ جميع ما تحت يدي خديجة من مال وعبيد ، قد وهبته لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يتصرّف به كيف يشاء. ولذا وقف ورقة بن نوفل بين زمزم والمقام ونادىٰ بأعلىٰ صوته قائلاً : يا معشر العرب ، إنّ خديجة وهبت لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسها ومالها وعبيدها وجميع ما تملكه بيمينها إجلالاً له وإعظاماً لمقامه ورغبة فيه.

ومنها : رأت السيدة خديجة ميله إلىٰ غلامها (زيد بن حارثة) قبل بعثته المباركة فوهبته له ، فكانت هي السبب فيما امتاز به زيد في السبق إلىٰ الإسلام.

_____________

(٤) عقيلة الوحي / السيد عبد الحسين شرف الدين : ٢٠.


ومنها : وكما نقله الزهري : أنّ خديجة أنفقت علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أربعين ألفاً وأربعين ألفاً(١) .

وذكر الزرقاني في شرح كلام القسطلاني : قال ابن إسحاق : كانت خديجة أوّل امرأة آمنت بالله ورسوله ، وصدقت بما جاء من الله عزّوجلّ ، ووازرته علىٰ أمره ، فخفّف الله بذلك عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان لا يسمع شيئاً يكرهه ولا تكذيب له فيحزنه إلّا فرّج الله ذلك عن رسوله بها إذا رجع إليها تثبّته وتخفّف عنه وتهّون عليه أمر الناس حتىٰ ماتت سلام الله عليها(٢) .

تلتقي عن طريق جدها (عبد العزىٰ) مع جد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (عبد مناف) في الجد الرابع (قصي بن كلاب) وبهذا النسب تكون أقرب أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه نسباً ، باستثناء ابنة عمته أمّ المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها.

اتفقت الروايات علىٰ أنّ السيدة خديجة هي أوّل زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي في زمانها أفضل نساء قريش ومكّة في خَلقها وخُلقها وجميع مواهبها ، كما كانت أفضل أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قاطبة ، وقد كانت سيدة حازمة ، شريفة ، لبيبة ، جليلة ، ديّنة ، كريمة ، وصدّيقة هذه الاُمة في شرف النسب ، وكرم المحتد ، وسؤدد القبيلة ، وعِزّ العشيرة ، والغنى الأوفر ، وكانت مثالاً للزوجة المخلصة الصالحة ، والمرأة الرزينة العاقلة ، ولا توجد شبيهة لها في نساء النبي علىٰ الاطلاق حيث عقلها الكبير ، وشخصيتها العظيمة.

وقد أدركت الجاهلية والإسلام ، وكان لها في كليهما مركزاً ممتازاً ، ولشدّة
_____________

(١) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣١٤.

(٢) شرح الزرقاني علىٰ المواهب اللدنية ١ : ٢٣٨.


عفافها وصيانتها سمّيت بالطاهرة(١) ، فجمعت بين المال والجمال والكمال ، فهذه الصفات إذا اجتمعت ـ وقلّما تجتمع ـ فانها تضفي علىٰ المرأة ألواناً من السمو والرفعة ، وعندما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يبشّر قومها بالإسلام ، فلا ينال منهم إلّا التكذيب ، فيرجع إلىٰ بيته حزيناً يائساً ، فتلقاه السيدة خديجة عليها‌السلام فتزيل حزنه ، وتهوّن عليه الأمر.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يودّها ، ويحترمها ، ويثني عليها ، ويفضلها علىٰ سائر نسائه ، بل علىٰ سائر النساء المؤمنات ، ويعظمها ، ويشاورها في أموره ، وقد صدّقته في دعوته ، وآمنت به ، وكانت تستقبل آلام الجهاد الذي خاضه وخاضته معه صابرة محتسبة ، لا ينبض لها عرق بلين أو تخوُّف ، بل تقطع قناطر الدموع والخطوب المشغولة في بسمة كبرياء ، لم يُعهد مثلها في نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقد كانت عليها‌السلام تستقبل العاصفة وشظاياها المشتعلة وتحوّلها إلىٰ بردٍ وسلامٍ علىٰ قلب زوجها الحبيب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهي أوّل امرأة صدّقت الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ودخلت الإسلام ، وقامت بخدمات جليلة حتىٰ آخر لحظة من حياتها المباركة ، وكان الحبّ والاحترام والعمل والتضحية لهذا الدين القويم ملء حياتها.

هذا ويمكن الحديث عن فضلها وكراماتها ضمن النقاط الآتية :

١ ـ السبق إلى الإسلام :

الثابت تاريخيّاً أنّ خديجة الكبرى عليها‌السلام أوّل امرأة دخلت الإسلام ، ولهذا
عدّها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من سابقات النساء إلى الإيمان بقوله :« خديجة بنت خويلد _____________

(١) مجمع الزوائد / الهيثمي ٩ : ٢١٨ ، تنقيح المقال / المامقاني ٣ : ٧٧.


سابقة نساء العالمين إلىٰ الإيمان باللّه وبمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١) .

وقد صرح أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذه الكرامة ، في فقرة من خطبته المسماة بالقاصعة إذ جاء فيها :« لم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول
الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله وخديجة عليها‌السلام وأنا ثالثهما » (٢) .

وهي أوّل امرأة صلّت لله عزّوجلّ ، وقد أجاد شاعر أهل البيت عليهم‌السلام في ملحمته المشهورة منشداً :

وأقام الرسول أول فرض

فاقتدت فيه أحسن الاقتداءِ

وهي كانت لكل ما يتجلّىٰ

من رسول الهدىٰ من الرُقباءِ

فترىٰ بالعيان ما لا تراه

من عظيم الآيات مقلة راءِ

٢ ـ حبّ الرسول لها :

إنها أحبّ نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلىٰ نفسه الشريفة ، فقد ورد عن عائشة : كان
رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يكاد يخرج من البيت حتىٰ يذكر خديجة ، فيحسن الثناء
عليها ، فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة ، فقلت : هل كانت إلّا عجوزاً ،
فقد أبدلك الله خيراً منها ! فغضب حتى اهتزّ مُقدّم شعره من الغضب ، ثم قال :
« لا والله ما أبدلني الله خيراً منها ، آمنت إذ كفر الناس ، وصدّقتني وكذّبني
الناس ، وواستني في مالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها أولاداً إذ
_____________

(١) المستدرك علىٰ الصحيحين / الحاكم النيسابوري ٣ : ٢٠٣ / ٤٨٤٦.

(٢) نهج البلاغة / تحقيق الدكتور صبحي الصالح / الخطبة القاصعة : ٩٤ ، ط جماعة
المدرسين ، قم.


حرمني أولاد النساء » . قالت عائشة : فقلت في نفسي : لا أذكرها بسيئة أبداً.(١)

وعن عائشة أيضاً : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا ذبح الشاة يقول :« أرسلوا إلىٰ
أصدقاء خديجة »
، فذكرت له يوماً ، فقال :« اني لأحبّ حبيبها » (٢) .

ولهذا لم يتزوّج صلى‌الله‌عليه‌وآله غيرها في حياتها ، إكراماً لها ، وتعظيماً لشأنها عليها‌السلام .

٣ ـ كمالها وجلالها :

إنها من الكاملات علىٰ لسان المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله بشأنها :« كمل من
الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلّا أربع : مريم بنت عمران ، آسية بنت
مزاحم ، خديجة بنت خويلد ، فاطمة بنت محمّد بن عبد الله »
(٣) .

ووصفها أبو طالب عليه‌السلام ذات يوم قائلاً : إنّ خديجة عليها‌السلام امرأة كاملة ميمونة خطبها ملوك العرب ، ورؤساؤهم ، وصناديد قريش ، وسادات بني هاشم ، وملوك اليمن ، وأكابر الطائف ، وبذلوا لها الأموال ، فلم ترغب في أحد منهم ، ورأت أنها أكبر منهم(٤) .

٤ ـ تبشيرها بالجنّة :

إنها من المبشّرات بالجنّة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :« أتىٰ جبريل فقال :
يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك ومعها إناء فيه أدام
ـ أو طعام أو شراب ـ
فإذا هي أتتك فاقرأ عليها‌السلام من ربّها ، ومنّي ، وبشّرها ببيت في الجنّة _____________

(١) اُسد الغابة ٥ : ٤٣٨ ، الإفصاح في الإمامة / المفيد : ٢١٧.

(٢) الإصابة / ابن حجر العسقلاني ٤ : ٢٨٣ طبعة دار الفكر ـ بيروت.

(٣) الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ١٢٩.

(٤) بحار الأنوار / المجلسي ١٦ : ٥٦.


من قصب (١) ، لا صخب فيه ولا نصب » (٢) .

وبهذه الكرامات فإن التاريخ ليحني رأسه أمام عظمة أم المؤمنين خديجة عليها‌السلام ، ويقف أمامها خاشعاً مبهوتاً لدورها الإسلامي الكبير وتضحياتها الجمّة الجسيمة في سبيل العقيدة والمبدأ ، وها نحن نذكر اليسير مما يشير إلىٰ ذلك من خلال سيرتها وتاريخها.

تكامل المسيرة الإيمانية للسيدة خديجة عليها‌السلام :

لقد كان بيت السيدة خديجة من بيوتات قريش المعروفة بالعفّة والمحافظة وسموّ الأخلاق الفاضلة.

وحفظ لنا التاريخ أنّ قبيلتها هي القدوة والمثل الأعلىٰ في نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وحماية المستجير ، وتربّت السيدة خديجة منذ نعومة أظفارها علىٰ تلك السجايا الرفيعة ، وكانت مؤمنة بالله العظيم منذ أوّل لحظات حياتها ، ومرّت مسيرتها الإيمانية وتكاملت في مرحلتين :

الاُولىٰ : منذ نعومة أظفارها حتىٰ معرفتها بشخص محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث تاجر بأموالها.

الثانية : زواجها منه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتىٰ بعثته المباركة.

أمّا المرحلة الاُولىٰ فقد اتّسمت بتظافر عنصرين هامّين لبناء إيمانها وهما :

١ ـ وجود بقايا الديانة الحنيفية الإبراهيمية التي غمرت الجزيرة والتي
ورثتها مدينة مكّة المكرمة وقبيلة قريش بالذات حيث انهم ينحدرون من
_____________

(٤) القصب : الزبرجد الأخضر المُرصَّع بالياقوت الأحمر.

(٥) أسد الغابة / ابن الأثير ٥ : ٤٣٨ ، تاريخ اليعقوبي ١ : ٣٥٤ ، الاصابة ٤ : ٢٨٢.


سلالة إبراهيم الخليل عليه‌السلام وولده إسماعيل الذبيح عليه‌السلام ، وكان لهذه التعاليم المباركة الأثر الواضح في بناء شخصيتها.

٢ ـ تطلّع السيدة خديجة بنفسها لبقايا الكتب المقدّسة كالتوراة والإنجيل ولو بشكل محدود.

تلك هي اللبنات الأوّلية لبناء إيمانها ، وقد ساعدها علىٰ ذلك ابن عمّها ورقة بن نوفل ، المعروف بالإيمان والأخلاق الفاضلة ، وهو أحد الرجال الأربعة الذين تنسّكوا واعتزلوا عبادة الأوثان وهجروا قومهم وتفرّقوا في البلدان يلتمسون الديانة الحقّة الخاتمة ، لأنّهم اطّلعوا من خلال متابعاتهم الكتب المقدّسة علىٰ قرب بعثة الخاتم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما تأثّرت خديجة عليها‌السلام بشخصية ابن أخيها حكيم بن حزام الذي كان من ذوي الأموال الطائلة وأحد أعضاء دار الندوة البارزين في قريش.

وهكذا توفّرت لخديجة عليها‌السلام أسباب الرفعة والسمو المتوافرة في أسرتها من الإيمان وسداد الرأي. لقد أثرت أسرتها علىٰ مسيرتها الاجتماعية فصقلتها بمواصفات لطيفة ، ومن هذه المواصفات أنها لم تلهُ أبداً مع النساء اللاهيات ، فإن الشائع عن بعض بيوتات مكّة في الجاهلية أنها كثيراً ما كانت تقام فيها ليالي المرح واللهو والغناء. وكانت السيدة تمرّ علىٰ تلك البيوت وما فيها من مرح وغناء ولهو دون أن تطرق بابها يوماً أو تؤثّر علىٰ نفسيتها الطاهرة كقريناتها من بنات قريش !

وحفظ تاريخ مكّة تلك المنزلة العظيمة لهذه السيدة الجليلة ـ خديجة عليها‌السلام ـ حيث كانت نساء مكّة يذهبن إليها زائرات فتشملهن بكرمها وألطافها ، وكانت إذا خرجت إلىٰ البيت العتيق لتطوف به خرجن معها وأحطن بها فلا تلغو


واحدة منهن ولا تتكلم إلّا بالجدّ وكُنّ حريصات أن لا يُسمِعن خديجة ما يؤذيها منهن من ألفاظ !

لقد امتازت قبيلة قريش بوجود عدد كبير من النساء الكريمات من ذوات العقل والفكر والأدب والأخلاق ، لكن السيدة خديجة حازت قصب السبق بعقلها وشرفها وطهارتها وترفّعها عن زبارج الحياة وزخرفها ، كانت تكرم الجميع وتصلهم بخيرها وبرّها حتىٰ غبطها أهل مكة لمكارم أخلاقها ، فمنحوها الألقاب والأوصاف الكريمة ما لم يمنحوها لأي امرأة اُخرىٰ ، فقد لقّبوها بالطاهرة ، ولقّبت كذلك بسيدة نساء قريش ، وسيدة نساء أهل مكّة ، لما لها من مكارم أخلاق وجمال وكمال.

وكانت السيدة خديجة دائمة الحديث مع ابن عمّها ورقة بن نوفل عن الرسول الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكيف سيُرسَل لهداية البشر ؟ كانت دائمة الأسئلة مع نفسها دائمة التفكير بذلك النبي المنتظر ! هل قرب زمان هذا النبي ؟ هل ستراه ؟ ومتىٰ ؟(١) وهكذا خُتِمت المرحلة الاُولىٰ من حياتها الإيمانية ولم تسجد لصنم ، ولم تقدّم أيّ قربان ، ولا نذرت نذراً للأصنام.

أمّا المرحلة الثانية في حياة خديجة الكبرىٰ عليها‌السلام فقد تسارعت بها مراتب
الكمال حتىٰ وصلت إلىٰ منتهاه ، بعد اقترانها بالنبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكر ابن حجر
العسقلاني في كتابه الإصابة موضحاً إيمان السيدة خديجة بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ما
زالت خديجة تعظّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتصدّق حديثه قبل البعثة وبعدها(٢) . ولذلك
_____________

(١) رياحين الشريعة / ذبيح الله محلاتي ٢ : ٢١١ ـ ٢١٢ (فارسي)

(٢) الإصابة ٤ : ٢٨٢.


عندما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم تفاجأ ، بل أيّدته بكل ما تملك ، وصارت نفسها نفسه وروحها روحه ، وأصبحا جسداً واحداً وروحاً واحدة لبناء الإسلام ، فهما بحقّ أبٌ للإسلام والمسلمين واُمٌّ للإسلام والمسلمين ، ولهذا منَّ الله عليها وقرنها بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وحفظ في نسلها ذرّية الرسول المصطفىٰ ، فهي أُم آل البيت الكبرىٰ الذين كانوا نفحة من عطر شذاه وقبساً من سنا نوره ، إذ انحصرت في ابنتها الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام نسبة كل منتسب إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأعظم بها من مفخرة ، وقد أجاد الشاعر في مدحها حيث قال :

طوبى لبنت خويلد قد أفلحت

فلها الخلود بعزّة وفخارِ

فاقت نساء العالمين بمجدها

هي أُمّ أُمّ العترة الأطهارِ

تجارة السيدة خديجة عليها‌السلام :

اشتهرت خديجة عليها‌السلام بتجارتها قبل زواجها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولعفافها المنقطع النظير في المجتمع القرشي يومذاك فإنها لم تتّخذ من التجارة ذريعة للاتصال بالرجال الأجانب ، وإنما اتّخذت لنفسها طرقا جادة بعيدة عن الأهواء والنوازع والرغبات ، فقد كانت تجارتها كثيرة ومتنوّعة ، ورغم هذا فانها لم تكن تتّصل بالتجّار ولم تشترك معهم في اجتماع خاص أو عام ، بل كان ينوب عنها في ذلك مواليها وعلى رأسهم مولاها المخلص ميسرة. وكانت تلقي إليهم الأوامر فينفّذونها ، وكانت عن طريق مواليها تستأجر الرجال وتضاربهم بشيء من المال تجعله لهم.

ولم تشتهر تجارتها عليها‌السلام في أوساط مكّة فحسب ، بل في أوساط ديار العرب ، فكان للسيدة خديجة في كلّ ناحية عبيد ومواشي حتىٰ قيل : إنّ لها أكثر من ثمانين ألف جمل متفرّقة في أصقاع الجزيرة ، وقيل : إنها تمتلك مائة ألف جمل ،


فكانت تصدّر البضائع من جزيرة العرب إلىٰ الأردن وفلسطين والشام والروم وفارس ، وتستورد الأقمشة والعسل والأواني النحاسية والأسلحة والأطعمة من تلك الأقاليم إلىٰ الحجاز ، فكانت تؤدّي خدمة اقتصادية لأهل مكّة ويثرب(١) .

وكان أبو طالب عليه‌السلام يمارس التجارة لكنّه كبُر وضعف ، وفي يوم ما دخل عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فرآه مهموماً فقال له :« يا عمّ ما لي أراك مهموما ! » ، فقال له أبو طالب عليه‌السلام : يا محمّد ، إني قد كبرت وضعفت عن التجارة ! فقال له محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله :« إذن يا عمّ ما هو الرأي ؟ » ، فقال أبو طالب عليه‌السلام : اعلم يا محمّد أن خديجة قد انتفع بمالها أكثر الناس ، وهي تعطي مالها سائر من يسألها التجارة ، فهل لك يا ابن أخي أن نمضي معاً ونسألها أن تعطيك مالاً فتتّجر به !(٢) فرحّب بعرض عمّه أبي طالب ، وكانت السيدة خديجة قد بلغها أن محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله يمتاز بصدق الحديث وأداء الأمانة وسمو الأخلاق ، فلذا وافقت من فورها وأرسلت إليه ليخرج في تجارتها إلىٰ الشام ، فوافق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله علىٰ ذلك ، ثمّ انها قد هيأت له ملابس السفر والتي كانت عبارة عن ثوبين من قباطي مصر ؛ جُبَّة عدنية وبُرْدَة يمانية ، وعمامة عراقية ، وخفّين من الأديم ، وقضيب خيزران ، فلبسها ، وعندها ظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كأنّه البدر في ليلة تمامه.

ثمّ أنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ودّع السيدة خديجة وركب راحلته وخرج معه خادمها
ميسرة ، وبدأت رحلة التجارة التي قادها لأوّل مرّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حتىٰ قدم الشام ،
_____________

(١) قديسة الإسلام / الحسيني الميلاني : ٣٣.

(٢) رياحين الشريعة / ذبيح الله محلاتي ٢ : ٢١٤ (فارسي).


ثمّ باع واشترى ، وعادت القافلة واستقبلها أهل مكّة ، ونظرت السيدة خديجة إلىٰ جِمالها وقد أقبلت كالعرائس ، وكانت معتادة في كل مرّة أن يموت بعضها ويجرب بعضها إلّا تلك السفرة فإنها لم ينقص منها شيء !

فوقفت قبيلة قريش معجبين من تلك الجِمال ، فأخذوا يردّدون : إنّ هذا ما أفاده محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لخديجة من رحلته إلىٰ الشام ، فذهبت عقول قريش لهذه البركات.

وأخيراً حطّت القافلة ركاب جِمالها ، ففكّوا رحالها وعرضوا ما فيها من بضاعة وأموال ونفائس علىٰ خديجة ، وكانت عندهم جالسة خلف الستار ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله جالس وسط الدار ، وميسرة يعرض عليها الأمتعة شيئاً فشيئاً ، فنظرت خديجة إلىٰ ما قد أدهشها فأخبرت أباها قائلة له : يا أبت هذا كلّه ببركة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله يا أبتاه إنه مبارك ميمون الغرّة ، فما ربحتُ ربحا أغنم وأعظم من سفرة محمّد هذه !

زواجها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لمّا رأت السيدة خديجة من مكارم أخلاق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبركاته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علىٰ بال بشر ! ، أحبته صلى‌الله‌عليه‌وآله حبّاً شديداً نابعاً من صفاء نفسها وقدسية قلبها ، وهنا فكّرت أن تتّخذه زوجاً وقريناً لها ، ولهذا استشارت ابن عمّها ورقة بن نوفل في ذلك ، فشجّعها علىٰ الزواج من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله مبيّناً لها بأنه النبي المرتقب ، عندها طلبت خديجة عليها‌السلام من صديقتها نفيسة بنت أُمية أُخت يعلىٰ أن تفاتح محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بالزواج ، ثمّ وصل الأمر إلىٰ أن خاطبت خديجة عليها‌السلام محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بقولها : يا بن العم ، إنّي قد رغبت فيك لقرابتك منّي ،


وشرفك في قومك ، وأمانتك عندهم ، وحسن خلقك ، وصدق حديثك ، فقم إلىٰ عمومتك وقل لهم أن يخطبوني لك من أبي ، ولا تخف من كثرة المهر فهو عندي ، وأنا أقوم لك بالهدايا والمصانعات ، فسِرْ وأحسن الظنّ فيمن أحسن الظنّ بك(١) .

فعندها وافق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرج من عندها وذهب إلىٰ منزل عمّه أبي طالب وقد ملأ السرور وجهه ، فوجد أعمامه مجتمعين بانتظاره ، فلمحه عمّه أبو طالب قائلاً له : يا ابن أخي ، ما أعطتك خديجة ؟ أظنّها قد غمرتك في عطاياها ! قال :« يا عمّ لي إليك حاجة » ، قال أبو طالب عليه‌السلام : وما هي يا محمّد ؟ قال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله :« تنهض أنت وأعمامي في هذه الساعة ، وتخطب لي السيدة خديجة » .

فقام أعمام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بزعامة أبي طالب عليه‌السلام متوجهين إلىٰ خويلد أبي خديجة عليها‌السلام لطلب يد كريمته إلىٰ ابنهم الأمين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلى أثر ذلك اجتمعت وجوه قبيلة خديجة ، فتقدّم أبو طالب رافعاً صوته بهذه الكلمات :

الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذريّة إسماعيل ، وجعل لنا بيتاً محجوجاً ، وحرماً آمناً ، وجعلنا الحكّام علىٰ الناس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه.

ثمّ إنّ ابن أخي محمّد بن عبدالله لا يُوزن برجلٍ من قريش إلّا رجح ، ولا يُقاس بأحدٍ إلّا عظم عنه ، وإن كان في المال قلّ فإنّ المال رزق حائل وظلّ زائل ، وله في خديجة رغبة ، ولها فيه رغبة ، وصداق ما سألتموه عاجله من مالي ، وله والله خطب عظيم ونبأ شائع(٢) .

_____________

(١) بحار الأنوار ١٦ : ٩ و ٥٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٠ ، الفقيه ٣ : ٢٥١ / ١١٩٨ باب الولي والشهود والخطبة
والصداق.


وبعد أن انتهى أبو طالب من خطبته ، أجاب عمّها الأكبر عمرو بن أسد قائلاً : هو الفحل لا يقدع أنفه(١) ، ثمّ قام ابن عمّها ورقة بن نوفل خطيباً ، فقال : الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت ، وفضّلنا علىٰ ما عددت ، فنحن سادة العرب وقادتها ، وأنتم أهل ذلك كله ، لا تنكر العشيرة فضلكم ، ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم ، فاشهدوا علي معاشر قريش بأني قد زوّجتُ ابنةَ عمّي خديجة بنت خويلد من محمّد بن عبدالله ، علىٰ أربعمائة دينار.

ثمّ سكت ورقة ، وتكلّم أبو طالب ، وقال : قد أحببت أن يشركك عمّها ، فقال عمّها : اشهدوا عليّ يا معشر قريش أنّي قد أنكحت محمّد بن عبدالله ، خديجة بنت خويلد ، وشهد عليّ بذلك صناديد قريش.

وتذكر روايات السيرة انه سمع الناس مناديا ينادي من السماء : ان الله تعالىٰ قد زوّج بالطاهر الطاهرة وبالصادق الصادقة ثمّ رفع الحجاب ، وخرجت منه جوارٍ بأيديهم نثار ينثرنه علىٰ الناس ، وأمر الباري عزّوجلّ جبريل أن يرسل الطيب علىٰ الناس علىٰ البرّ والفاجر ، فكان الرجل يقول لصاحبه : من أين لك هذا الطّيب ؟ فيقول : هذا من طيب خديجة ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .(٢)

ثمّ نهض الناس إلىٰ منازلهم ، ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحفّه بنو هاشم إلىٰ منزل أبي طالب وهو كالقمر يتوسّط النجوم ، فاجتمعت نساء قريش ونسوان بني عبد المطلب وبني هاشم في دار السيدة خديجة واُقيمت مجالس الفرح والسرور.

_____________

(١) عيون الأثر / ابن سيد الناس ١ : ٧٢ ـ مؤسّسة عزّ الدين ـ ١٤٠٦ ه.

(٢) بحار الأنوار / المجلسي ١٦ : ١٩ و ٧٧.


ثمّ إنّ خديجة قالت لابن عمها ورقة بن نوفل : يا ابن عمّ ، خذ هذه الأموال وأعطها محمّداً ، وقل له إن هذه الأموال هدية له وهي ملكه يتصرّف بها كيف يشاء ! وعند ذلك أولم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحر جزوراً وقيل جزورين ، وأطعم الناس ، وعندها فرح بنو هاشم فرحاً شديداً ومنهم عمّه أبو طالب حيث قال : الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب ، ودفع الغموم ، وكانت تلك الوليمة أول وليمة يولمها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبعد تهيئة بيت الزواج ومستلزماته جاءت عمّات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واجتمع السادات والأكابر ، ثمّ أقبل أبو طالب وبنو هاشم وفي وسطهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أعمامه وعليه ثياب من قباطي مصر وعمامة حمراء وعبيد بني هاشم بأيديهم الشموع والمصابيح ، فلما وصلوا دار خديجة دخل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكأنه القمر في تمامه وأعمامه محدقون به كأنهم أُسود الثرىٰ في أحسن زينة يكبّرون الله ويحمدونه ، فدخلوا جميعاً إلىٰ دارها ، وجلس محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في المجلس الذي هيئ له ونوره قد علا نور المصابيح ، فذهلت النساء مما رأين من حسنه وجماله ، ثمّ بعدها تهيّأت النساء لاستقبال السيدة خديجة ، فخرجت تحفّها نساء بني هاشم ، وأنشدت صفية بنت عبد المطّلب :

جاء السرور مع الفرح

ومضى النحوس مع الترح

أنوارنا قد أقبلت

والحال فيها قد نجح

بمحمّد المذكور في

كل المفاوز والبطح

لو أن يوازن أحمد

بالخلق كلّهم رجح

ولقد بدا من فضله

لقريش أمر قد وضح

ثمّ السعود لأحمد

والسعد عنه ما برح

بخديجة بنت الكمال

وبحر نايلها طفح


يا حسنها في حليها

والحلم منها ما برح(١)

ثمّ أوقفنها بين يدي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ بعد ذلك أجلسوها مع عريسها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخرج الجميع عنها وانفرد العريسان في أحسن حال وأرخىٰ بال.

وأقام أبو طالب لأهل مكّة وليمة عظيمة ولمدّة ثلاثة أيام حضرها الحاضر والبادي ، وكان من الذين جاءوا ليباركوا العريسين بعرسهما أُم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في الرضاعة السيدة حليمة السعدية ، ثمّ لتعود ومعها أربعون رأساً من الغنم هبة وهديّة من عروس ولدها الكريمة إعظاماً لها لأنّها أرضعت زوجها الحبيب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهنا تندّت عينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يتفقّد اُمه سيدة الاُمهات ـ آمنة ـ بين الحاضرات في عرسه ولكن دون جدوىٰ ! وإذا باليد اللطيفة الرقيقة تأسو الجرح القديم في حنان غامر حيث انه يجد فى عروسه المباركة عوضاً جميلاً عما قاساه من طول الحرمان ، وكان عمره الشريف خمساً وعشرين سنة ، أمّا عمرها فقد قيل إنه أربعون سنة ، وتذكر روايات اُخرىٰ أن عمرها كان ثمان وعشرين سنة ، وليس ذلك علىٰ قدر من الأهمّية(٢) ؛ لأن الإرادة الإلٰهيّة شاءت أن تكون السيدة خديجة قرينة للنبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وتصبح أم المؤمنين الاُولىٰ ، وهي فضيلة سبقت بها نساء الأولين والآخرين !

قال ابن شهرآشوب : « روى البلاذري وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما ،
والسيد المرتضىٰ في كتابه الشافي وأبو جعفر في التلخيص : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تزوّج بها
_____________

(١) رياحين الشريعة / ذبيح الله محلاتي ٢ : ٢٤٨ (فارسي).

(٢) قال الاربلي عن ابن حماد : انّ عمرها ثمان وعشرون ، وأيّده صاحب البحار نقلاً
عن ابن عباس ١٦ : ١٢ ، ومثله ذكر البلاذري في أنساب الأشراف ١ : ١٠٨.


وكانت عذراء »(١) .

وقد ذكر ابن هشام وغيره ، أنّ السيدة أُم المؤمنين خديجة كانت قد تزوّجت في الجاهلية من أبي هالة التميمي ، ثمّ مات أبو هالة وقد ولدت له السيدة خديجة الصحابي الجليل (هند)(٢) راوي حديث صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولادتها الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام :

لقد أثمرت شجرة النبوّة ، وأذنَ الله لدوحة الرسول أن تمتدّ فروعها وتستطيل آفاقها بميلاد فاطمة في أجيال هذه الاُمّة ، لقد ولدت فاطمة عليها‌السلام في مكّة المكرمة في جمادى الآخرة يوم العشرين منه بعد البعثة بخمس سنين(٣) ، فاستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ابنته الحبيبة بالفرح وسمّاها فاطمة عليها‌السلام (٤) .

فكانت صلوات الله عليها تحمل روح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصفاته وأخلاقه ، وهي الوارث والشبيه ، إذ لم يكن في الدنيا أحد يماثل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في صفته وشمائله كفاطمة.

لقد غمرت البهجة والسرور بيت الأبوين ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والسيدة
خديجة ، بمجيء فاطمة ؛ إذ انّها ملتقىٰ الحبّ بينهما ، وثمرة العلاقة الوديّة في
_____________

(١) المناقب / ابن شهر آشوب ١ : ١٣٨ باب ذكر سيّدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فصل في
أقرباءه وخُدّامه.

(٢) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٦٣ ، معاني الأخبار / الصدوق : ٨٠.

(٣) دلائل الإمامة / الطبري الإمامي : ٧٩ / ١٨ ، الكافي / الكليني ١ : ٤٥٨ باب
مولد الزهراء فاطمة عليها‌السلام .

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام / الصدوق ٢ : ٤٦ ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّي سمّيتها فاطمة لأنّ الله
عزّوجلّ فطمها وفطم من أحبّها من النار » ، ذخائر العقبىٰ / المحبّ الطبري : ٢٦.


حياتهما ، وفرع النبوة الشامخ وظلّه المستطيل ، ومستودع نور النبوة المتقلّب في أصلاب الساجدين ، فحقّ لهذا البيت النبوي أن يزهو بمناغاة فاطمة ، ويمتلئ سروراً بابتساماتها المشرقة الوليدة ، لقد ولدت فاطمة ودرجت في بيت النبوة ، وترعرعت في ظلال الوحي ، ورضعت من لبن اُمّها خديجة حبّ الإيمان ومكارم الأخلاق وحنان خاتم الأنبياء والرسل(١) ، وقد وردت عدة روايات تشير إلىٰ عظمة البتول وهي جنين في بطن اُمّها خديجة عليها‌السلام (٢) .

وفاتها عليها‌السلام :

لمّا رأت قريش أن الإسلام بدأ يتّسع ويزيد ، وأن أموال السيدة خديجة أصبحت كلّها في يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومساعده عمّه أبي طالب عليه‌السلام ووزيره ابن عمّه وتلميذه علي عليه‌السلام ، اجتمعت علىٰ مقاطعة ومنابذة بني هاشم رضوان الله عليهم والتضييق عليهم بمنعهم حضور الأسواق فلا يبايعونهم ولا يشارونهم ، ولا يقبلوا لهم صلحاً ولا تأخذهم بهم رأفة حتىٰ يسلّموا محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله للقتل أو ترك الدعوة إلىٰ الله عزّوجلّ.

فحوصر بنو هاشم وبنو عبد المطلب في شعب أبي طالب ، وبقي المسلمون ثلاث سنوات متتالية حتىٰ جهد المؤمنون ومن معهم جوعاً وعرياً ، ونتيجة لذلك الحصار فقد مرضت السيدة خديجة الكبرىٰ مرضاً شديداً ، ودخل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي تجود بنفسها ووقف ينظر إليها والألم يعتصر قلبه الشريف ثمّ قال : « بالكُره منّي ما أرى ».

_____________

(١) الصديقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام / مؤسسة البلاغ : ٢٠.

(٢) دلائل الإمامة / الطبري : ٧٧ / ١٧ باب ولادة فاطمة عليها‌السلام .


ولمّا توفّيت خديجة عليها‌السلام جعلت ابنتها الصدّيقة فاطمة عليه‌السلام تتعلّق بأبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي تبكي بكاءً شديداً وتقول له :« أين اُمي ؟ أين اُمي ؟ » فنزل جبرئيل بالحال قائلاً لرسول الله :« قل لفاطمة : إنّ الله بنىٰ لاُمّك خديجة
بيتاً في الجنّة من قصب
(١) ، لا نصب فيه ولا صخب » (٢) .

كانت وفاة السيدة أُم المؤمنين خديجة في اليوم العاشر من شهر رمضان ،
وفي العام العاشر لمبعثه الشريف عن عمر ناهز الخامسة والستّين سنة ، وتزامنت
وفاتها مع فقدان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الدعامة الثانية له والمدافع الأوّل عنه وهو عمّه
أبو طالب ، وكانت وفاته في اليوم السادس من شهر رمضان ، فسمّاه عام
الحزن (٣) وكان ذلك قبل الهجرة المباركة بثلاث سنين. ثمّ أنّه لمّا جهّزها نزل
بقبرها ، ودفنها في منطقة الحجون (٤) (وهو جبل بأعلىٰ مكّة محيط بها) بجنب قبر
أُمّه آمنة عليهما‌السلام وقبور أهل بيتها وأرحامها ، وقد شرّف الله عزّوجلّ الحجون بها
كما شرّف البقيع بأجساد أولادها أئمة أهل البيت سلام الله عليهم وبهذا ورد
الحديث الشريف الواصف عظمة مقبرة الحجون : « الحجون والبقيع يؤخذان _____________

(١) القصب : الزبرجد الأخضر المرصّع بالياقوت الأحمر.

(٢) سيرة ابن إسحاق : ٢٤٣ باب وفاة خديجة بنت خويلد عليها‌السلام .

(٣) لما فقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كُلّاً من عمّه أبو طالب وزوجته الوفية خديجة شنأ المقام
بمكّة ودخله حزن شديد وشكا ذلك إلىٰ جبرئيل عليه‌السلام فأوحىٰ الله عزّوجلّ إليه أن
اخرج من القرية الظالم أهلها ، فليس لك بمكّة ناصر بعد أبي طالب وأمره بالهجرة.
الكافي / الكليني ١ : ٤٤٠.

(٤) يومئذ لم تكن قد شرعت صلاة الميت كما ذكر الاربلي في كشف الغمّة ١ : ٥١٣.


بأطرافهما وينثران في الجنّة » (١) .

ولذا ابَّنهما أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث ذكرها وذكر أباه أبا طالب عليه‌السلام منشداً :

أعَيْنَيَّ جودا بارك الله فيكما

علىٰ هالِكَينِ ما ترىٰ لهما مثلا

علىٰ سيّد البطحاء وابن رئيسها

وسيّدة النسوان أوّل من صلّىٰ

مهذّبة قد طيّب الله خيمها

مباركة والله ساق لها الفضلا

مصابهما أدجى لها الجو والهوا

فبتُّ أقاسي منهما الهمّ والثكلا

لقد نصرا في الله دين أحمد

علىٰ من بغىٰ في الدين قد رعيا إلّا(٢)

وهكذا قضت أمّ المؤمنين خديجة عليها‌السلام نحبها بعد جهاد مرير في خدمة الدين الحنيف ، وتركت من المآثر الخالدة ما تنوء به الجبال ، فهي المرأة التي آثرها الله عزّوجلّ بالدور العظيم في بناء الإسلام رمزاً للوفاء والمحبّة والايثار لزوجها الحبيب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي أوّل امرأة صدقت به صلى‌الله‌عليه‌وآله وآمنت به ، وبذلت مالها ونفسها ، وهان كل شيء عندها في سبيله ، مُطْلقةً كلمتها الأخيرة وهي علىٰ فراش الموت قائلة له وظلال الموت ترفرف عليها : (يا رسول الله إني قاصرة في حقّك فاعفني ، ولم أكن قد أدّيت حقّك ، إن كان لي شيء أطلبه منك فهو رضاك)(٣) .

فسلامٌ عليك يا أُمّ المؤمنين يوم ولدت ويوم تبعثين ، وقد أسكنك الله في
الجنة في بيت من قصب لا نصب فيه ولا صخب ، وعند زوجك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله _____________

(١) سفينة البحار / عباس القمي ١ : ٢٢١ / باب حُجُنْ.

(٢) منتهى الآمال / عباس القمي ١ : ١١٩.

(٣) بين يديّ الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله / د. السيد محمّد بحر العلوم ٢ : ٢٨.


شفاعة الأوّلين والآخرين.

رابعاً : أُم السبطين الحسن والحسين عليهم‌السلام

أسماؤها وكناها وألقابها عليها‌السلام : هي فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين ، وبضعة المصطفىٰ ، وأُم أبيها ، وزوجة سيد الموحّدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وأُم سيديّ شباب أهل الجنّة والتسعة المعصومين من ذرّية الحسين عليه‌السلام .

وقد ذكر الإمام الصادق عليه‌السلام تسعة أسماء لاُمّه فاطمة عليها‌السلام وهي : « فاطمة ، والصديقة ، والمباركة ، والطاهرة ، والزكية ، والراضية ، والمرضية ، والمحدّثة ، والزهراء »(١) .

وهناك أسماء اُخرىٰ وردت في روايات اُخرىٰ وهي : الحرّة ، والسيدة ، والعذراء ، والحوراء ، ومريم الكبرىٰ ، والبتول(٢) .

أما كناها فقد كانت تكنّىٰ بأُمّ أبيها ، وأُم السبطين ، وأُمّ الحسن ، وأُمّ الحسين ، وأُمّ الأئمة ، وغيرها(٣) .

وأشهر ألقابها : سيدة نساء العالمين(٤) ، وسيدة نساء المؤمنين(٥) ، وسيدة نساء
_____________

(١) دلائل الإمامة / الطبري الإمامي : ٧٩ / ١٩ ، بحار الأنوار ٤٣ : ١٠ / ١.

(٢) بحار الأنوار ٤٣ : ١٦ / ١٥ عن المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ١٣٣.

(٣) الاستيعاب / ابن عبد البر ٤ : ٣٨٠.

(٤) إحقاق الحقّ / القاضي التستري ١٠ : ٢٦ ، مستدرك الحاكم النيسابوري ٣ :
١٧٠ / ٤٧٤٠ ، عوالم السيدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام : ٨٨.

(٥) صحيح مسلم : ٩٩٥ / ٢٤٥٠ ، ط بيت الأفكار الدولية ، مستدرك الحاكم
٣ : ١٧٠ / ٤٧٤٠.


هذه الاُمة(١) ، وسيدة نساء أهل الجنة(٢) .

شمائلها عليه‌السلام : كانت الصديقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام تشبه أباها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله خلقاً وأخلاقاً ومنطقاً ، وقد جاء عن عائشة أنها قالت في وصفها : ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلّاً وهدياً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قيامه وقعوده من فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) .

وعن أُم سلمة ، قالت : كانت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أشبه الناس وجهاً وشبهاً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) .

وكانت الزهراء عليها‌السلام المثل الأعلىٰ للنساء في جميع صفات الكمال وفي كلّ الفضائل الإنسانية ، ومن هنا وصفها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مراراً بالحورية ، وسميت بالزهراء لجمال هيئتها والنور الساطع من طلعتها.

سئل الصادق عليه‌السلام عن سبب تسمية أُمه فاطمة بالزهراء ، فقال :« لأنها
كانت إذا قامت في محرابها يزهر نورها لأهل السماء ، كما يزهر نور
الكواكب لأهل الأرض »
(٥) .

وعن الإمام العسكري عليه‌السلام قال :« كان وجهها يزهر لأمير المؤمنين عليه‌السلام
في أول النهار كالشمس الضاحية ، وعند الزوال كالقمر المنير ، وعند غروب
الشمس كالكوكب الدرّي »
(٦) .

_____________

(١) المصدر السابق.

(٢) صحيح البخاري : ٧١٧ باب مناقب فاطمة عليها‌السلام ، ط بيت الأفكار الدولية ـ
الرياض ، كشف الغمّة ١ : ٤٥٣.

(٣) سنن الترمذي ٥ : ٧٠٠ / ٣٨٧٢.

(٤) كشف الغمّة / الاربلي ١ : ٤٧١.

(٥) معاني الأخبار / الصدوق : ٦٤ / ١٥.

(٦) بحار الأنوار / المجلسي ٤٣ : ١٦ / ١٤.


ولادتها :

المشهور بين علماء الإمامية أن الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ولدت في يوم الجمعة العشرين من جمادى الآخرة من السنة الخامسة بعد البعثة النبوية المباركة ، وبعد الإسراء بثلاث سنين(١) .

قال الشيخ المظفّر في دلائل الصدق : « ولدت بعد البعثة بإجماعنا ، واختاره الحاكم في المستدرك ، فإنّه عنون بقوله : (ذكر ما ثبت عندنا من أعقاب فاطمة وولادتها) ، ثمّ روى أنّها ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يتعقّبه الذهبي »(٢) .

وذكر أكثر علماء العامة : أنها عليها‌السلام ولدت قبل البعثة ، واختلفوا في تاريخ الولادة ؛ فقيل : ولدت وقريش تبني البيت الحرام ، قبل النبوة بخمس سنين ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ابن خمس وثلاثين سنة(٣) . وقيل : قبل المبعث بسبع سنين وستة أشهر(٤) ، وقيل : بعد المبعث بسنة واحدة.(٥)

الآيات النازلة في شأنها :

خصّ سبحانه وتعالىٰ أهل البيت عليهم‌السلام ومنهم الصدّيقة فاطمة بآيات كثيرة
_____________

(١) راجع : الكافي ١ : ٤٥٧ / ١٠ ، كشف الغمّة ١ : ٤٤٩ ، مناقب ابن شهرآشوب
٣ : ٣٥٧ ، دلائل الإمامة : ٧٩ / ١٨.

(٢) دلائل الصدق / المظفّر ٢ : ٢٩٠.

(٣) راجع : تذكرة الخواص : ٢٧٥ ، ذخائر العقبىٰ : ٥٣ ، الإصابة ٤ : ٣٧٧.

(٤) الثغور الباسمة / السيوطي : ١٥٨.

(٥) مستدرك الحاكم ٣ : ١٧٦ / ٤٧٦٠ ، الاستيعاب ٤ : ٣٧٤.


أجمع المسلمون علىٰ نزولها فيهم سلام الله عليهم اهتماماً منه سبحانه وتعالىٰ بشأنهم ، وإعظاماً لمقامهم السامي ، وترغيباً لغيرهم من المسلمين في السير علىٰ هداهم والاقتداء بهم لا سيما وهم الأسوة الحسنة ، وفيما يلي نشير إلىٰ بعض تلك الآيات :

منها : قوله تعالىٰ : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ
تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
) (١) . وقد أجمع جمهور المسلمين بل وحتى الخوارج علىٰ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يدعُ للمباهلة من النساء إلّا الصدّيقة فاطمة الزهراء ، وكذا لم يدعُ إلّا زوجها وابنيها عليهم‌السلام (٢) .

ومنها : قوله تعالىٰ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا
) (٣) ، وقد أخرج الطبري في تفسيره من طرق شتىٰ اختصاص هذه الآية برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسنين عليهم‌السلام .(٤)

ومنها : قوله تعالىٰ : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (٥) ،
_____________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٦١.

(٢) راجع : صحيح مسلم ٤ : ١٨٧١ من باب فضائل علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، سنن
الترمذي ٥ : ٢٢٥ / ٢٩٩٩ ، تفسير الرازي ٤ : ٩٠ ، مسند أحمد ١ : ١٨٥ ،
مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٣ / ٤٧١٩ وسائر كتب التفسير والمناقب.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٣.

(٤) تفسير الطبري ٢٢ : ١٠ ـ ١٣ ، واُنظر كذلك : المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٢ /
١٠٠٢ ، مسند أحمد ٣ : ٢٥٩ و ٢٨٥ ، مستدرك الحاكم ٣ : ٧٢ / ٤٧٤٨ ، سنن
الترمذي ٥ : ٣٥٢ / ٣٢٠٦.

(٥) سورة الشورىٰ : ٤٢ / ٢٣.


أخرج أحمد والطبراني وابن أبي هاشم والحاكم عن ابن عباس في شأن نزول هذه الآية فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « هم : علي وفاطمة والحسنان عليهم‌السلام »(١) .

ومنها : قوله تعالىٰ : ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ) (٢) ، ذكر أغلب المفسرين أنّ شأن نزول هذه الآية كان بحقّ علي وفاطمة والحسنين عليهم‌السلام وفضّة ، وذلك لمّا مرض الحسن والحسين فنذروا سلام الله عليهم إن شفي الحسنان فإنهم يصومون ثلاثة أيام ، وبعد أن عوفيا شرعوا بالصيام ، وفي اليوم الأول من صيامهم طرق بابهم مسكين ، وفي اليوم الثاني يتيم ، وفي اليوم الثالث أسير ، فأعطوهم كل ما يملكون من طعام ، وكانوا لم يذوقوا إلّا الماء ، فأتاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فرأىٰ ما نزل بهم من شدّة الحال ، فأنزل الله سورة ( هل أتىٰ ) بحقّهم عليهم‌السلام (٣) .

كراماتها وخصائصها :

للزهراء البتول عليها‌السلام كرامات وفضائل كثيرة لا تحصىٰ ، وها نحن نكتفي بالنزر اليسير منها ، وهي :

انها بنت خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبنت سيدة الكمال أُم المؤمنين خديجة الكبرىٰ عليها‌السلام ، وزوجة سيّد الأوصياء أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأُم إمامي الهدىٰ الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فانظر إلىٰ أُسرتها تعرف مَن هي.

وإنها والفواطم أوّل النسوة المهاجرات برفقة علي عليه‌السلام إلىٰ المدينة ، وفيهم
_____________

(١) ذخائر العقبىٰ / المحبّ الطبري : ٢٦.

(٢) سورة الدهر : ٧٦ / ٧.

(٣) اُسد الغابة / ابن الأثير ٥ : ٥٣١ « ترجمة فضّة ».


نزلت الآية الكريمة : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ
) (١) .

ولا أدري أية فضيلة أعظم من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لها عليها‌السلام :« إنّ الله يغضب
لغضبك ويرضىٰ لرضاك »
(٢) .

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد نظر إليها وإلى زوجها وبنيها عليهم‌السلام :« أنا حرب لمن حاربكم ،
وسلم لمن سالمكم »
(٣) .

كما أنها عليها‌السلام أوّل امرأة تدخل الجنّة علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) .

وعن أُم سلمة : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لفاطمة عليها‌السلام :« ائتيني بزوجك
وابنيك »
، فجاءت بهم : فألقىٰ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كساءً خيبرياً أصبناه من خيبر ، ثمّ رفع يديه فقال :« اللّهمَّ إنّ هؤلاء آل محمّد فاجعل صلواتك
وبركاتك علىٰ آل محمّد كما جعلتها علىٰ إبراهيم إنّك حميد مجيد »
، فرفعت الكساء لأدخل فجذبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من يدي وقال :« لا يا أُمّ سلمة ،
ولكنك علىٰ خير »
.(٥)

وقال الإمام السبط الحسن عليه‌السلام :« رأيت أُمّي فاطمة عليها‌السلام قائمة في محرابها
ليلة جمعة ، فلم تزل راكعة ساجدة حتىٰ انفجر عمود الصبح ، وسمعتها تدعو
_____________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٢٠.

(٢) أُسد الغابة / ابن الأثير ٥ : ٥٢٢.

(٣) أُسد الغابة ٥ : ٥٢٢ ، مسند أحمد بن حنبل ٢ : ٤٤٢ ، مستدرك الحاكم النيسابوري
٣ : ١٦١ / ٤٧١٣.

(٤) الفصول المهمّة / ابن الصباغ المالكي : ١٢٩ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٤ / ٤٧٢٣.

(٥) كنز العمال بهامش مسند أحمد ٥ : ٩٦.


للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم ، وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء ،
فقلت : اُمّاه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك ؟ فقالت
عليها‌السلام : يا بني الجار
ثمّ الدار »
(١) .

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام لابن أعبد :« يا ابن أعبد ، ألا أخبرك عنّي وعن
فاطمة ؟ كانت ابنة رسول الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله وأكرم أهله عليه ، وكانت زوجتي فَجَرّتْ
بالرحىٰ حتىٰ أثّرت الرحىٰ بيدها ، واستقت بالقربة حتىٰ أثّرت القربة بنحرها ،
وقَمّتْ البيت حتىٰ اغبرّت ثيابها ، وأوقدت تحت القدر حتىٰ دكنت ثيابها ،
وأصابها من ذلك ضرر »
(٢) .

وكانت فاطمة عليها‌السلام إذا دخلت علىٰ النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قام إليها فقبّلها ورحّب بها ، كما كانت تصنع هي به(٣) . وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا قدم من غزو أو سفر ، بدأ بالمسجد فصلّىٰ فيه ركعتين ، ثم قدم علىٰ فاطمة ، ثم يأتي أزواجه(٤) . وأخرج الحاكم عن الصحابة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا سافر كان آخر الناس عهداً به فاطمة عليها‌السلام ، وإذا قدم من سفر كان أول الناس به عهداً فاطمة عليها‌السلام (٥) .

وقال جابر الأنصاري : رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة عليها‌السلام وعليها كساء من أجلّة
الإبل ، وهي تطحن بيديها ، وترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال :
« يا بنتاه تجرّعي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة » فقالت : «الحمد لله علىٰ _____________

(١) دلائل الإمامة : ١٥١ / ٦٥ ، علل الشرائع : ١٨١ / ١.

(٢) صفوة الصفوة / ابن قيم الجوزية ٢ : ٦.

(٣) الاستيعاب / ابن عبد البر ٤ : ٣٧٧.

(٤) الاستيعاب ٤ : ٣٧٦.

(٥) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ : ١٦٩ / ٤٧٣٩.


نعمائه ، والشكر لله علىٰ آلائه » (١) .

وعن أبي سعيد الخدري قال : أصبح علي بن أبي طالب عليه‌السلام ساغباً فقال :« يا
فاطمة ، هل عندك شيء تغدينه ؟ »
قالت :« لا والذي أكرم أبي بالنبوة ،
وأكرمك بالوصية ، ما أصبح الغداة عندي شيء ، وما كان شيء أطعمناه من
يومين إلاّ شيء كنت أُؤثرك به علىٰ نفسي وعلىٰ ابنيّ هذين الحسن
والحسين
عليهما‌السلام » . فقال علي عليه‌السلام :« يا فاطمة ، ألا كنت أعلمتني فأبغيكم
شيئاً ! »
فقالت فاطمة عليها‌السلام :« يا أبا الحسن ، إنّي لأستحي من إلٰهي أن أكلّفك ما
لا تقدر عليه »
(٢) .

وقالت أُم جعفر : إنّ فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قالت لأسماء بنت عميس :« يا أسماء ، إنّي قد استقبحت ما يصنع بالنساء أنه يطرح علىٰ المرأة الثوب
فيصفها ! »
فقالت أسماء : يا بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ألا أريك شيئاً رأيته بالحبشة ؟ فدعت بجرائد رطبة فحنتها ، ثمّ طرحت عليها ثوباً فقالت فاطمة عليها‌السلام :« ما
أحسن هذا وأجمله ! »
.

وتذكر أخبار السيرة أن الصديقة فاطمة عليها‌السلام أول امرأة غُطّيَ نعشها في الإسلام(٣) ، وهذه السُّنة للسيدة الصديقة الزهراء تمثّل غاية الحرص علىٰ الحشمة ورعاية الحجاب الشرعي ، وهي المثل الأعلىٰ الذي تقتدي به المرأة المسلمة في حياتها ومماتها من أجل حفظ كرامتها عن أنظار الآخرين.

_____________

(١) سفينة البحار / عباس القمي ١ : ٥٧١.

(٢) كشف الغمّة / الاربلي ١ : ٤٦٩ ، ذخائر العقبىٰ ٤٥ : ٤٦.

(٣) الاستيعاب / ابن عبد البر ٤ : ٣٧٨ ـ ٣٧٩.


خطوبتها عليها‌السلام :

روىٰ الخوارزمي بإسناده عن أُم المؤمنين أُم سلمة ، وسلمان المحمّدي رضي‌الله‌عنه ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكلٌّ قالوا : أنّه لمّا أدركت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مدرك النساء ، خطبها أكابر قريش من أهل السابقة والفضل في الإسلام والشرف والمال ، وكان كلّما ذكرها رجل من قريش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بوجهه قائلاً :« إنّ أمرها إلىٰ ربّها إن شاء أن يزوّجها زوّجها ! » (١) .

وكان من ضمن الذين تقدّموا لخطبتها إلىٰ أبيها أبو بكر ، حيث خطبها فردّه النبي قائلاً :« أنتظر بها قضاء الله » ، ثمّ جاء عمر فخطبها إلىٰ أبيها فردّه النبي قائلاً له :« أنتظر بها قضاء الله » ، ثمّ جاء عثمان وعبد الرحمن بن عوف إلىٰ أبيها ، فابتدر عبد الرحمن بن عوف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً له : يا رسول الله ، تزوّجني فاطمة ابنتك ، وقد بذلت لها من الصداق مائة ناقة محمّلة كلّها من قباطي مصر ، وعشرة آلاف دينار. ولم يكن يومئذ أغنىٰ وأيسر من عبد الرحمن بن عوف ، وتقدم بعده عثمان بخطبتها إلىٰ أبيها بمهرٍ أكثر من صاحبه عبد الرحمن ، فردهما رسول الله مردّدا قوله المشهور :« إنّي أنتظر بها قضاء الله » (٢) .

جهازها عليها‌السلام ، وأثاث بيتها :

كان جهازها في غاية التواضع ، إذ تكوّن من قميص بسبعة دراهم ، وخمار
بأربعة دراهم ، وعباءة بيضاء ـ قطوانية (٣) ، وسرير مُزّمل ( ملفوف ) بشريط
_____________

(١) بحار الأنوار ٤٣ : ١٢٤.

(٢) إحقاق الحق ٤ : ٤٧٤ ، عن تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي.

(٣) قطوان : موضع بالكوفة تُعمل به عباءات العرائس البيضاء.


من الخوص المفتول ، وقطيفة خيبرية ، وهي دثار له خمل ، وفراشين من خيش مصر (الكتان المعروف بمصر) حشو إحداهما ليف ، وحشو الآخر من صوف الغنم ، وأربع مرافق (متكئات) ، حشوها إذخر (نبات كالليف طيب الرائحة) ، وحصير هجري ، ونطع من أدم (بساط من جلد) وستر رقيق من صوف ، ورحىٰ يدوية (لطحن الشعير ...) ، ومخضب من نحاس (لعجن الدقيق ، أو لغسل الثياب) ، وسقاء من أدم (قربة صغيرة) ، وكيزان خزف جمع كوز : (إناء كبير لجمع الماء) ، وشن للماء (قربة صغيرة تستخدم لتبريد الماء) ، وجرّة خضراء ، وقعب (قدح خشبي) للبن ، وقربة ماء ، ومطهرة مزفّتة (إبريق ماء).

وقد جهّز الإمام علي عليه‌السلام لداره استقبالاً لفاطمة الزهراء عليها‌السلام ، فقام بنثر داره الشريفة بالرمل اللين ، ونصب خشبة من حائط إلىٰ حائط لتعليق الثياب ، وهيّأ بعض الأمور الأخرىٰ مثل بسط إهاب (جلد) كبش ، ومخدة ليف ومنشفة وقربة ماء ومنخل وقدح لشرب الماء(١) .

زواجها عليها‌السلام :

أمّا زواجها فقد وردت فيه عدة روايات ، منها رواية جابر رضوان الله عليه ، قال : لمّا أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يزوّج فاطمة علياً ، قال له :« اخرج يا أبا
الحسن إلىٰ المسجد ، فاني خارج في أثرك ، ومزوّجك بحضرة الناس ، وذاكر
من فضلك ما تقرّ به عينك »
.

قال :« فخرجت من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا ممتلئ فرحاً وسروراً ، _____________

(١) مناقب آل أبي طالب / ابن شهرآشوب ٢ : ١١٢ في المسابقة بالزهد والقناعة ،
بتصرف.


فاستقبلني أبو بكر وعمر فقالا : ما وراءك يا أبا الحسن ؟ فقلت : يزوّجني
رسول الله فاطمة ، وأخبرني أن الله زوّجنيها ، وهذا رسول الله خارج في أثري
ليذكر ذلك بحضرة الناس ، فدخلا معي المسجد ، فوالله ما توسّطناه حتىٰ
لحق بنا رسول الله ، وإن وجهه ليتهلّل فرحاً وسروراً. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أين بلال ؟
فقال بلال : لبيك وسعديك يا رسول الله ! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : وأين مقداد ، فلبّاه وقال :
لبيك يا رسول الله ! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : وأين سلمان ؟ فلبّاه وقال : لبيك يا رسول الله !

فلما مثلوا بين يديه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : انطلقوا بأجمعكم إلىٰ جنبات المدينة ،
واجمعوا المهاجرين والأنصار ، فانطلقوا لأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاقبل حتىٰ جلس علىٰ
أعلىٰ درجة من المنبر ، فلما حشد المسجد بأهله قام صلى‌الله‌عليه‌وآله حامداً الله وأثنىٰ
عليه ثمّ قال : الحمد لله المحمود بنعمته ، المعبود بقدرته ، المطاع سلطانه ،
المرهوب من عذابه وسطواته ، النافذ أمره في سمائه وأرضه ، الذي خلق
الخلق بقدرته ، وميّزهم بأحكامه ، وأعزّهم بدينه ، وأكرمهم بنبيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إن الله تبارك اسمه وتعالت عظمته جعل المصاهرة سبباً لاحقاً ، وأمراً
مفترضاً ، أوشج به الأرحام ، وألزم به الأنام ، فقال عزّ من قائل : ( وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا
) (١) فأمر الله تعالىٰ
يجري إلىٰ قضائه ، وقضاؤه يجري إلىٰ قدره ، ولكل قضاء قدر ، ولكل قدر
أجل ، ولكل أجل كتاب
( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٢) .
ثمّ إن الله تعالىٰ أمرني أن اُزوّج فاطمة من علي بن أبي طالب ، فاشهدوا أني
_____________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٥٤.

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٣٩.


قد زوّجته علىٰ أربعمائة مثقال فضّة إن رضي بذلك عليٌّ » .

ثمّ دعا صلى‌الله‌عليه‌وآله بطبق من بسر قال :« انتهبوا » ، فانهبنا ، ثمّ دخل علي عليه‌السلام فتبسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في وجهه ثمّ قال :« إن الله عزّوجلّ أمرني أن اُزوّجك فاطمة
علىٰ أربعمائة مثقال فضّة ، أرضيت بذلك ؟ »
. قال علي عليه‌السلام :« قد رضيت
بذلك يا رسول الله »
، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله :« جمع الله شملكما ، وأعزّ جدكما ، وبارك
عليكما ، وأخرج منكما كثيراً طيباً »
(١) .

وفي رواية ابن مردويه أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعلي عليه‌السلام :« تكلم خطيباً لنفسك » ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام :« الحمد لله الذي قرب من حامديه ، ودنا من سائليه ،
ووعد الجنّة من يتّقيه ، وأنذر بالنار من يعصيه ، نحمده علىٰ قديم إحسانه
وأياديه ، حمد من يعلم أنه خالقه وباريه ، ومميته ومحييه ، ومسائله عن
مساويه ، ونستعينه ونستهديه ، ونؤمن به ونستكفيه ، ونشهد أن لا إله إلّا الله
وحده لا شريك له ، شهادة تبلغه وترضيه ، وأن محمّدا عبده ورسوله
صلى‌الله‌عليه‌وآله ،
صلاة تزلفه وتحظيه ، وترفعه وتصطفيه ، والنكاح ما أمر به ويرضيه ،
واجتماعنا مما قدره الله وأذن فيه ، وهذا رسول الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله زوّجني ابنته فاطمة
علىٰ خمسمائة درهم ، وقد رضيت فاسألوه وأشهدوا »
(٢) .

والجدير ذكره أنّ أهل البيت عليهم‌السلام التزموا بهذا المهر وصار سنّةً تحتدى حتى
أن الإمام الجواد عليه‌السلام عندما تزوّج ابنة المأمون كان مهرها خمسمائة درهم رغم أن
المأمون أنفق ملايين الدراهم ، وظلّ أهل البيت عليهم‌السلام ملتزمين بمهر جدّتهم
_____________

(١) ذخائر العقبىٰ / المحبّ الطبري : ٣١ ، ينابيع الموّدة / القندوزي الحنفي : ٢٠٧.

(٢) مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب ٣ : ٣٩٩ في تزويج فاطمة عليها‌السلام .


الزهراء (الخمسمائة درهم)(١) .

مراسيم الزفاف :

لما مضىٰ نحو شهر علىٰ خطبة وعقد الصديقة فاطمة للأمير عليهما‌السلام ، قال عقيل وجعفر لعلي عليه‌السلام : ألا تسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يُدخل عليك أهلك ؟ فأجابهما عليّ عليه‌السلام :« أجل ولكن الحياء يمنعني » فأقسما عليه أن يقوم معهما ، فقاما وأعلما أُم أيمن بذلك ، فدخلتْ علىٰ أُم المؤمنين (أُم سلمة) فأعلمتها وأعلمت نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأُخريات ، فاجتمعن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقلن : فديناك بآبائنا وأُمهاتنا ، أنا قد اجتمعنا لأمر لو كانت السيدة خديجة عليها‌السلام في الأحياء لقرّتْ عينها ، قالت السيدة (أُم سلمة) : فلما ذكرنا السيدة خديجة عليها‌السلام بكىٰ وقال :« خديجة وأين مثل خديجة ! صَدَّقَتْني حين كذبني الناس ، ووازَرَتْني علىٰ
دين الله ، وأعانَتْني عليه بمالها ، (ولذا) فان الله عزّوجلّ أمرني أن اُبشّر
خديجة ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب »
(٢) .

فقالت السيدة أُم سلمة : فديناك بآبائنا وأُمهاتنا ، انك لم تذكر من خديجة أمراً إلّا وكان كذلك ، غير أنها مضت إلىٰ ربها (راضية مرضيّة) فهنّأها الله بذلك ، وجمع بيننا وبينها في الجنّة.

ثم قالت : يا رسول الله ، هذا أخوك وابن عمّك في النسب علي بن أبي
طالب عليه‌السلام يحبّ أن تُدخل عليه زوجته ! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :« حبّاً وكرامة » ، ثم
دعا بعليّ عليه‌السلام وهو مطرق حياءً ، وبالأثناء قمن أزواجه فدخلن البيت ، فقال :
_____________

(١) نور الابصار / الشبلنجي : ١٤٧ ، بحار الأنوار ٤٣ : ١٠٥.

(٢) الإصابة / ابن حجر العسقلاني ٤ : ٢٧٣.


« أحسبك تشتهي الدخول علىٰ أهلك ! » ، قال :« نعم فداك أبي وأُمي
يا رسول الله »
، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله :« غداً إن شاء الله » .

فلما كان اليوم التالي التفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلىٰ النساء وقال :« من ها هنا ؟ » فقالت السيدة أُم سلمة : أنا يا رسول الله ، وزينب وفلانة وفلانة (زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فأمرهنّ أن يزيّنَ (فاطمة) ويطيبنها ويصلحن شأنها في حجرة أُم سلمة ، وأن يفرشن بيتها ، ففعلن النسوة ما أمرهن وعلّقن عليها من حليهنّ وطيبنها(١) .

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري ، لمّا كانت ليلة الزفاف أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ببغلته الشهباء ، وثنىٰ عليها قطيفة ، وقال لفاطمة :« اركبي » ، وأمر سلمان أن يقودها ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يسوقها ، فبينما هم في الطريق إذ سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجبة ، فإذا بجبرئيل في سبعين ألفاً من الملائكة ، وميكائيل في سبعين ألفاً ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :« ما أهبطكم إلىٰ الأرض ؟ » قالوا : جئنا نزفّ فاطمة إلىٰ زوجها علي بن أبي طالب ، فكبّر جبرئيل وميكائيل ، وكبّرت الملائكة ، وكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوقع التكبير علىٰ العرائس من تلك الليلة (حيث صار سنّة فيما بعد)(٢) .

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنه : لمّا زُفَّت فاطمة الزهراء إلىٰ أمير المؤمنين علي عليهما‌السلام ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قدّامها ، وجبرئيل عن يمينها ، وميكائيل عن يسارها ، وسبعون ألف ملك يسبّحون الله ويقدّسونه حتىٰ طلع الفجر(٣) .

_____________

(١) في رحاب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام / السيد الأمين ١ : ١٦٥ ، بتصرّف.

(٢) دلائل الإمامة / الطبري الإمامي : ١٠٠ ـ ١٠١ / ٣٠ حديث خبر ليلة الزفاف.

(٣) تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي ٥ : ٧.


وروىٰ ابن شهرآشوب عن كتاب مولد فاطمة عليها‌السلام لابن بابويه متحدّثاً عن بقية مراسيم الزفاف قال : أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بنات عبد المطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة عليها‌السلام ، وأن يفرحن ويرجزن ويكبّرن ويحمدن ، ولا يقولن ما لا يرضي الله. فارتجزت أُم سلمة وعائشة وحفصة ومعاذة أُمّ سعد بن معاذ ، وكانت النسوة يرجعن أول بيت من كلّ رجز ثمّ يكبّرن ، ودخلن الدار ، ثم أنفذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلىٰ علي عليه‌السلام ودعاه إلى المسجد ، ثم دعا فاطمة عليها‌السلام فأخذ يدها ووضعها في يده ، وقال :« بارك الله في ابنة
رسول الله »
(١) .

الوليمة :

روىٰ الشيخ الطوسي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لما زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة أمير المؤمنين عليهما‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام :« يا علي اصنع لأهلك
طعاماً فاضلاً ، ثمّ قال : من عندنا اللحم والخبز ، وعليك التمر والسمن ،
فاشتريت تمرا وسمنا ، فحسر رسول الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذراعه ، وجعل يشدخ التمر
في السمن حتى اتخذ خبيصاً
(٢) ، وبعث إلينا كبشاً سميناً فذبح ، وخبز لنا
خبزاً كثيراً.

قال علي عليه‌السلام : ثمّ قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أُدع من أحببت ، فأتيت المسجد
وهو مشحن بالصحابة ، فاستحييت أن أُشخّص قوماً وأدع قوماً ، ثمّ صعدت
علىٰ ربوة هناك وناديت : أجيبوا إلىٰ وليمة فاطمة ، فأقبل الناس أرسالاً ،
_____________

(١) مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب ٣ : ٤٠٣ ـ ٤٠٤ في تزويج فاطمة عليها‌السلام .

(٢) الخبيص : الحلواء المخبوصة من التمر والسمن.


فاستحييتُ من كثرة الناس وقلّة الطعام ، فعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما تداخلني ،
فقال لي : يا علي سأدعوا الله بالبركة.

قال علي عليه‌السلام : وأكل القوم عن آخرهم طعامي ، وشربوا شرابي ، ودعوا
لي بالبركة ، وصدروا وهم أكثر من أربعة آلاف رجل ولم ينقص من الطعام
شيء ثمّ دعا رسول الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصحاف فمُلئت ووجّه بها إلىٰ منازل أزواجه ،
ثمّ أخذ صحفة وجعل فيها طعاماً وقال : هذا لفاطمة وبعلها »
(١) .

وعن جابر الأنصاري قال : حضرنا وليمة فاطمة ، فما رأيت وليمة أطيب منها(٢) .

وعن أسماء بنت عميس قالت : لقد أولم علي علىٰ فاطمة ، فما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته(٣) .

دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للعروسين :

لمّا انقضى الحفل وانصرف المهنّئون ، دعا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أُم سلمة وعائشة وبعض أُمّهات المؤمنين ، وطلب منهن أن يمضين بفاطمة إلىٰ بيت علي عليهما‌السلام ، وبعد صلاة العشاء ذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلىٰ بيت علي عليه‌السلام ، فدعا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بماء فقرأ عليه بعض آي الذكر الحكيم ، ثمّ أمر العروسين أن يشربا منه ، وتوضّأ بالباقي فنثره علىٰ رأسيهما ، وهو يقول :« الّلهُمَّ بارك فيهما ، وبارك عليهما ،
وبارك لهما في نسلهما »
.

وهنا لم يتمالك النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أن أرسل دموعه عندما قبّل فاطمة
_____________

(١) الأمالي / الطوسي : ٤٢ / ٤٥ المجلس الثاني.

(٢) ينابيع المودّة / القندوزي الحنفي : ٢٣٣.

(٣) ذخائر العقبىٰ / المحبّ الطبري : ٣٣.


ليودّعها وهي تبكي شأنها شأن كل عروس فارقت بيت أبيها ومرتع طفولتها ، ولمّا همّ بالإنصراف انحنى علىٰ فاطمة بكل عطف وحنان قائلاً لها :« لقد تركتك وديعة
عند أوّل الناس إسلاماً ، وأقوىٰ الناس إيماناً ، وأكثرهم علماً ، وأفضلهم
أخلاقاً ، أما والله يا فاطمة لقد زوّجتك سيّداً في الدنيا والآخرة »
(١) .

لقد استجاب الله سبحانه وتعالىٰ دعاء نبيّه الكريم في تلك الساعة« جمع
الله شملكما ، وأعزّ جدكما ، وبارك عليكما ، وأخرج منكما كثيراً طيباً »
(٢) .

أجل بارك الله تعالىٰ لعلي وفاطمة عليهما‌السلام زواجهما السعيد ، وحصر ذرّية نبيّه المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله في أولاد ابنته وحبيبته فاطمة الزهراء عليها‌السلام (٣) .

تاريخ الخطبة والزواج :

وكانت الخطبة في السنة الثانية للهجرة في شهر رمضان ، والزواج في أوّل ذي الحجّة ، في المدينة المنورة ، أمّا عمرها عند الزواج فهو يختلف بحسب الاختلاف في تاريخ ولادتها وزواجها ، فإذا قلنا بولادتها بعد المبعث بخمس سنين يكون عمرها عند الزواج نحو تسع سنين أو عشر.

وفي الاستيعاب : كان سنّها يوم تزويجها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ،
_____________

(١) الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٨ : ١٤.

(٢) ينابيع المودة / القندوزي الحنفي : ٢٠٧.

(٣) لقد وضح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الحقيقة قائلاً : « إنّ الله جعل ذرية كل نبي في صلبه ،
وجعل ذرّيتي في صلب هذا ـ يعني عليّاً ـ » وكذا في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كل ولد أب فإن
عصبتهم لأبيهم ، ما خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم » عن ذخائر العقبىٰ /
المحبّ الطبري : ١٢١ ، وتاريخ بغداد / الخطيب البغدادي ١١ : ٢٨٥.


وكان سنّ علي عليه‌السلام إحدىٰ وعشرين سنة(١) .

أولادها عليها‌السلام :

كانت ثمرة زواج أمير المؤمنين من الصديقة فاطمة أن رُزقا ولدين ، وهما الحسن والحسين عليهما‌السلام سيدا شباب أهل الجنّة. فقد ولد الحسن السبط عليه‌السلام في النصف من شهر رمضان عام ثلاثة من الهجرة ، وولد الحسين عليه‌السلام في الثالث من شهر شعبان عام أربعة من الهجرة.

وعند ولادة كل منهما استبشرت الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبولادتهما أشرق بيت الزهراء وعلي عليهما‌السلام بكوكبين أنارا سماءه ، وزيّنا جدرانه ، وغمراه بهجة وسروراً.

وكان المولود الثالث زينب العقيلة عليها‌السلام بطلة كربلاء ، وكان مولدها في السنة الخامسة من الهجرة ، ثمّ زينب الصغرى(٢) ، وهي المعروفة بأمّ كلثوم(٣) .

ثم ابنها الأخير الذي حملت به في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسمّاه قبل أن يُولد محسناً ، لكنه اُسقط قبل ولادته عليه‌السلام فاستُشهد مظلوماً بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأيام علىٰ أثر ما جرى على أهل البيت عليهم‌السلام في حوادث السقيفة.

الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام يوم وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

حينما اشتدّت حالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تقدّم الإمام علي عليه‌السلام وراح يكفكف دموع
_____________

(١) راجع : إحقاق الحقّ / القاضي التستري ١٠ : ٣٥١ ، الاستيعاب / ابن عبد البر
٤ : ٣٧٤ ، مرآة المؤمنين : ١٦٥ ، تهذيب الكمال ٢ : ١١٤٢.

(٢) التتمّة في تواريخ الأئمّة عليهم‌السلام / تاج الدين العاملي : ٥٧.

(٣) معاني الأخبار / الشيخ الصدوق : ١٠٦ / ٢.


الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ويُهدّأ من روعها ، ثمّ احتضن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين رآه يصارع سكرات الموت حتىٰ فاضت نفسه المقدّسة ولفظ نفسه الأخير وهو علىٰ صدر علي يناجيه ويلقّنه !

روىٰ ابن سعد في طبقاته أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في مرضه :« ادعوا لي
عليّا ادعوا لي أخي »
، فدُعيَ له ، فأقبل مسرعاً ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام :« ادنُ
منّي »
، قال عليه‌السلام :« فدنوت منه فأوصاني بجميع وصاياه ، ثم استند إليّ فلم
يزل مستنداً إليّ ، وأنه ليكلّمني حتى أنّ بعض ريقه ليصيبني ، ثمّ نزل برسول
الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله القضاء ، وفاضت نفسه الطاهرة (١) في حجري (٢) ، وقد ثقل في
حجري فصحت : يا عمّ يا عباس أدركني فإني هالك »
فجاء العباس فكان جهدهما جميعاً أن أضجعاه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهنا علا الصراخ في البيت المحمّدي ، وعلم الناس أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد التحق بالرفيق الأعلىٰ ، فأسرعوا يبكون بحرقة ، وقد أذهلهم المصاب لفقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .(٣)

لقد اهتزّت أركان الكون ، واظلمّت السماء ، وافتجع الكبير والصغير ، وقلّ
العزاء ، وعظم رزؤه علىٰ المخلصين والأقرباء ، فيما كانت فاطمة الزهراء ، أشدّ
الناس حزناً وأكثرهم أسىً ولوعة وحرقة وأعظمهم بكاءاً وانتحاباً. لقد
_____________

(١) قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج بلاغته : « ولقد قُبضَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وان رأسه
لَعَلىٰ صَدري ، ولقد سالتْ نفسُهُ في كفِّي فأمررتُها علىٰ وجهي » شرح نهج
البلاغة / محمد عبده ٢ : ٣٤٩.

(٢) مسند أحمد ٢ : ٣٠٠ ، ذخائر العقبىٰ / المحبّ الطبري : ٧٣ ، كفاية الطالب /
الكنجي الشافعي : ١٣٣.

(٣) الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٢ : ٥١.


صرخت الصديقة الزهراء من أعماقها بلوعة الأسى :« واأبتاه وامحمّداه
واربيع الأرامل واليتامىٰ ، من للقبلة والمصلّىٰ ، ومن لابنتك الوالهة الثكلىٰ
رُميت يا أبتاه بالخطب الجليل ، ولم تكن الرزية بالقليل »
ثم قالت :« الثكل
شاملنا ، والبكاء قاتلنا والأسى لازمنا »
.

ثمّ زفرت زفرة وأنّت أنّة كادت روحها أن تخرج ، ثم قالت :

قلّ صبري وبان عنّي عزائي

بعد فقدي لخاتم الأنبياءِ

عين يا عين اسكبي الدمع سحّاً

ويك لا تبخلي بفيض الدماءِ

يا رسول الإله يا خيرة الله

وكهف الأيتام والضعفاءِ

قد بكتك الجبال والوحش جمعاً

والطير والأرض بعد بكي السماءِ

وبكاك الحجون والركن والمشعر

يا سيدي مع البطحاءِ

وبكاك المحراب والدرس للقرآن

في الصبح معلناً والمساءِ(١)

ولمّا أفاقت من غيبوبتها وجدت الناس كالبركان الثائر سكارىٰ من وقع المصاب حيارىٰ في أمرهم ، بينما انصرف جماعة من الصحابة إلىٰ سقيفة بني ساعدة يتداولون أمر الخلافة ، ناسين ما أوصاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بابن عمّه أمير المؤمنين عليه‌السلام وأنّه خليفته عليهم من بعده. حتى فرغ الإمام ومن معه من تجهيز الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وتغسيله ، ومن ثمّ دفنه حسب وصيّته الشريفة له في ذلك.

وكانت الزهراء عليها‌السلام في تلك الأحوال يُخشىٰ عليها من الموت ساعة بعد
ساعة ، لكنّها تحاملت علىٰ نفسها ، وذهبت تسعى إلىٰ قبر أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فألقت
بنفسها علىٰ القبر ، ووقعت مغشياً عليها ، ولمّا أفاقت من غشيتها صاحت ومن
_____________

(١) بحار الأنوار ٤٣ : ١٧٥ ـ ١٧٧.


قلب كئيب :« يا أبتاه جبريل إلينا ينعاه ، يا أبتاه من ربّه ما أدناه ، يا أبتاه من
جنان الفردوس مأواه ، يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه »
(١) . واستعبرت باكية ، فبكى الناس رفقاً بها ، وتقطّعت قلوب المؤمنين حزناً عليها ، ثمّ أخذت حفنة من تراب القبر الطاهر وهي تقول متفجّعة :

ماذا علىٰ من شمّ تربة أحمد

ألّا يشمَّ مدىٰ الزمان غواليا

ورجعت سلام الله عليها مع بعض النسوة والناس تتبعها بعيون دامعة ، وعندها رأت أنس بن مالك خادم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت له معاتبة :« يا أنس كيف
طابت نفوسكم أن تحثوا التراب علىٰ رسول الله ؟! »
(٢) .

عن محمّد بن المفضل قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول :جاءت فاطمة عليها‌السلام
إلىٰ سارية في المسجد وهي تقول وتخاطب النبي
صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم يكثر الخطب

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختل قومك فاشهدهم ولاتغب(٣)

قال ابن شهرآشوب : إنّ السيدة الزهراء عليها‌السلام ما زالت بعد أبيها معصبة
الرأس ناحلة الجسم ، منهدّة الركن ، باكية العين ، محترقة القلب ، يغشىٰ عليها
ساعة بعد ساعة ، وتقول لولديها : « أين أبوكما (٤) الذي كان يكرمكما
ويحملكما مرة بعد مرة ، أين أبوكما الذي كان أشدّ الناس شفقة عليكما ؟ »
_____________

(١) بحار الأنوار ٢٢ : ٥٥٢ / ٢٩.

(٢) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام / باقر شريف القرشي ١ : ٢٦٨ ـ مطبعة الآداب ـ
النجف.

(٣) بحار الأنوار ٤٣ : ١٩٥ / ٢٥.

(٤) لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول : « الحسن والحسين ابناي » ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٦.


ثم مرضت ومكثت أربعين ليلة ، ثم دعت أُم أيمن وأسماء بنت عميس وعليّاً عليه‌السلام وأوصت إلىٰ عليّ عليه‌السلام بوصاياها.(١)

وفي هذه الأثناء جاء بنو هاشم وخيار الصحابة إلىٰ السيدة الزهراء يسألونها الصبر والعزاء ، ومن أين لها بالصبر والعزاء وكيف وكل مصاب بعد مصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمَمٌ.

وجاء بعض الناس إلىٰ علي والزهراء سلام الله عليهما يسألونهما عمّا كان من أمر البيعة ، وكيف تمّت لابن أبي قحافة في سقيفة بني ساعدة !. ولم يكد يمضي علىٰ وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا ساعات وأهله مشغولون عن كلّ شيء منصرفون في تجهيزه لمثواه الأخير ، ونسمع علياً عليه‌السلام يقول وفي نبرات صوته حزن عميق وألم دفين :« أفكنت أدَع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته مسجّى بلا غسل ولا كفن وأخرج
أنازع القوم الخلافة »
(٢) .

فأجابت الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام علىٰ الفور قائلةً :« ما صنع أبو الحسن إلّا ما
كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم »
(٣) .

الأحداث التي جرت علىٰ فاطمة عليها‌السلام بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ما أن أغمض النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عينيه إلّا وانقلبت الاُمة رأساً علىٰ عقب ،
وكانت المأساة تسير في خطين متوازيين ؛ وهما غصب الخلافة الحقّة من
_____________

(١) مناقب آل ابي طالب / ابن شهر آشوب ٣ : ٣٦٢ فصل في وفاة وزيارة
الزهراء عليها‌السلام .

(٢) الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٢ : ٦٠ ، بحار الأنوار / المجلسي ٢٨ : ٣٥٢.

(٣) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٢.


الأمير عليه‌السلام ، وغصب حقوق أهل البيت عليهم‌السلام وعلىٰ رأسها نحلة الزهراء عليها‌السلام فدك ، وقد احتفظ التاريخ بجملة من الروايات التي تؤكّد ذلك ومنها :

عن عروة بن الزبير : أن عائشة أخبرته أنّ فاطمة عليها‌السلام ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سألت أبا بكر بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقسم لها ميراثها ، ما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مما أفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لا نورث ، ما تركناه صدقة » ، فغضبت فاطمة عليها‌السلام فهجرت أبا بكر ، فلم تزل مهاجرته حتىٰ تُوفّيت(١) .

وعن ابن قتيبة أنه أرسل أبو بكر عمر بن الخطاب إلىٰ بيت فاطمة عليها‌السلام ليخرج عليّاً عليه‌السلام للبيعة وأنّه دعا بالحطب ليحرق دار فاطمة عليها‌السلام وحينها خاطبتهم الزهراء عليها‌السلام بقولها :« لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ،
تركتم رسول الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم لم تستأمرونا ،
ولم تردّوا لنا حقّاً ! »
(٢) .

فانصرفوا ثم أعادوا الكرة إلىٰ بيتها فصاحت عليها‌السلام بهم قائلة :« يا أبت
يا رسول الله ، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة !؟ »
فانصرفوا باكين إلّا عمر وجماعته حيث بقوا وأخرجوا عليّاً عليه‌السلام لأجل البيعة.

إلى أن قال ابن قتيبة : فقال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلىٰ فاطمة ، فإنّا قد
أغضبناها. فانطلقا جميعا فاستأذنا علىٰ فاطمة فلم تأذن لهما ، فأتيا عليّاً
فكلّماه ، فأدخلهما عليها ، فلما قعدا عندها حوّلت وجهها إلىٰ الحائط ، فسلّما
_____________

(١) صحيح البخاري ٤ : ٧٩.

(٢) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٢.


عليها ، فلم تردّ عليهما السلام ، وحينها اعتذر أبو بكر من غصبه فدك زاعماً أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « لا نورث ، ما تركناه صدقة ».

فقالت عليها‌السلام :« أرأيتكما إنّ حدّثتكما حديثاً عن رسول الله تعرفانه
وتفعلان به ؟ »
، قالا : نعم. فقالت :« نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول :
رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحبّ فاطمة ابنتي
أحبّني ، ومن أرضىٰ فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد
أسخطني ؟ »
قالا : نعم ، سمعناه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قالت :« فإنّي اُشهِد الله وملائكته أنّكما اسخطتماني وما أرضيتماني ،
ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه !!! »
.

ولما خرجا خائبين نادت أبا بكر :« والله لأدعون الله عليك في كل صلاة
أُصلّيها »
(١) .

نعم أقدمت سلطة الخلافة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله علىٰ اغتصاب نحلة الزهراء عليها‌السلام
في فدك ، وهي قرية في الحجاز بينها وبين المدينة المنورة ثلاثة أيام ، فيها عين
فوّارة ونخل كثير ، ومن ضمنها احدىٰ عشرة نخلة غرسها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده
الكريمة ، كانت لليهود ، وبعد فتح خيبر ألقىٰ الله سبحانه وتعالىٰ في قلوب أهلها
الرعب ، وصالحوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علىٰ النصف فقبل منهم ، فكانت له خالصة لأنّها لم
يُوجف عليها بخيل ولا ركاب ، وبعد نزول الآية ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ) (٢)
دفعها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلىٰ فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، فكانت تتصرّف فيها أربع سنين في
_____________

(١) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٤.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٢٦.


حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتشكيل حكومة السقيفة برئاسة أبي بكر ، استولى عليها وطرد عمّال الزهراء عليها‌السلام منها ، وجعلها تابعة لبيت مال حكومته(١) .

والمفارقة الغريبة التي حدثت هي أنّه في الوقت الذي صدر فيه حكماً إلهياً نفّذه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فوهب بموجبه فدكاً لابنته الزهراء ، يُلاحظ أنّ أبا بكر قد اجتهد قبال حكم الله وأخذ هذه الهبة الإلهيّة وضمّها لحكومته ظلماً وعدواناً ، فجاءت الزهراء سلام الله عليها مطالبةً إيّاه بفدك علىٰ أنها نحلة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لها ، فطالبها أبو بكر بالبيّنة ، فجاءت بعلي والحسنين عليهم‌السلام وأُم أيمن يشهدون لها بذلك ، فردّ أبو بكر شهادة الشهود مدّعياً أنّها ليست بِحُجّة ؛ لأنّ علياً يجرّ النار إلىٰ قرصه ، وانّ الحسنين صغيران ، وان أُم أيمن امرأة أعجمية(٢) .

فلم تسكت الزهراء عليها‌السلام عن المطالبة بحقّها ، وأقامت الدعوىٰ ثانية ، وطالبت بفدك علىٰ أنها سهم ذوي القربىٰ ، فاقتنع أبو بكر بالقضية ، وكتب لفاطمة سلام الله عليها كتاباً يقرّ لها بذلك ، ويعترف بأن فدكاً تعود لها إلّا أن دخول عمر الذي كان غائباً حين كتابة أبي بكر الكتاب لفاطمة قد غيّر مجاري الأمور ، حيث سأل أبا بكر فقال له : ما هذا الكتاب ؟ فقال أبو بكر : كتاب كتبته لفاطمة بحقّها من أبيها ، فقال عمر : ماذا تنفق علىٰ المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى ؟ ثمّ أخذ عمر الكتاب فبصق فيه وشقّه(٣) .

_____________

(١) فدك في التاريخ / السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر : ٢٠.

(٢) في رحاب أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ١ : ٣١٩.

(٣) السيرة الحلبية / الحلبي الشافعي ٣ : ٤٠.


وبذلك نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، حيث نسوا بالأمس القريب كيف قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّها وهو بين ظهرانيهم :« فاطمة بضعة منّي ، فمن أغضبها
أغضبني »
(١) .

أسباب مطالبة الزهراء عليها‌السلام بفدك :

لقد عرفنا أنّ الزهراء عاشت خشونة الحياة وشظف العيش ، وكانت الدنيا في عينها أحقر وأصغر من جناح بعوضة تنظر إليها باشمئزاز ، ولهذا فانها كانت أكبر من أن تنازع أو تخاصم أحداً في بقعة أرض لأجل إرث المنصب أو الإرث المادي وغيره من متاع الدنيا ، ولو كانت كذلك لظهر جلياً عندما كانت الاُمور كلها بأيدي أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتاريخ يقول العكس حيث أنها طحنت بالرحىٰ حتىٰ مجلت يداها ، وأثّر عمل الرحىٰ في يدها(٢) ، إلىٰ غير ذلك من الأحاديث التي لم تظهر لها أي تعلّق بالدنيا ولو بقيد أنملة ، فقد كانت في زمن أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله زاهدة عابدة منصرفة عن ملذات الدنيا وطيباتها ، ومن ناحية اُخرىٰ فهي وكما أخبرها أبوها صلى‌الله‌عليه‌وآله تعلم علم اليقين أن حياتها قصيرة ، وسوف لا تبقىٰ بعده إلّا أيّاماً معدودات ، ولهذا فقد كانت حريصة علىٰ تضامن المسلمين وإعلاء كلمة الدين ، لهذا نرىٰ أنّها لم تقف ذلك الموقف المتصلّب إلّا لتبيّن للناس حقّ علي عليه‌السلام في الخلافة ، وتزيل الغشاوة عن المسلمين السابحين في لجج الضوضاء.

إنّها ترىٰ خلافة علي عليه‌السلام امتداداً لرسالة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله المقدّسة ، ولذا فإن بعض
_____________

(١) صحيح البخاري ٥ : ٢١ / ٣٧١٤ من كتاب فضائل الصحابة ، باب مناقب قرابة
رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

(٢) حلية الأولياء / أبو نعيم ٢ : ٤١.


الروايات تؤكّد أنّ انتزاع فدك والعوالي وسهم ذوي القربى من يد الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام وحرمانها من ميراث أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان داخلاً في الحسابات السياسية لسلطة الخلافة ، حتىٰ لا تتوفّر لعلي عليه‌السلام أسباب القوة المادية التي تعينه علىٰ المضي في موقفه المعادي للغاصبين ، ومن هنا تمّت مصادرة فدك.

ومن جانب آخر أدركت السلطة أن الاعتراف بحقّ الزهراء عليها‌السلام بفدك ، سيؤدّي إلىٰ اعترافهم بحقّ علي عليه‌السلام في الخلافة فيما لو احتجّت عليهم الزهراء عليها‌السلام بذلك.

ومع هذا فقد استثمرت بنت المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الموقف ، وحاولت خلق شعور جماعي لا يرضىٰ بالاستكانة ، ولا يقبل بالحاكم الظالم ، ويرفض تمكّنه من أي موقع قيادي في دولة الإسلام ما دام ظالماً جائراً ، فكيف لو كان الموقع هو القيادة العامة للمسلمين ؟!

إنّ حقيقة المطالبة بفدك تتجلّىٰ بالمطالبة بالخلافة الحقّة المغتصبة ، وإن المطالبة فيها هي المطالبة بعزّة النفس وأصالة الحقّ وعنفوان الرسالة وامتداد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

ركائز الثورة الفاطمية :

لقد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وانحرفت المسيرة ورأت الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ضياع
أُمّةِ أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما كان منها إلّا أنّ أعلنت ثورتها ، لأنّها تعلم علم اليقين أنّ الله
سبحانه نصّب للإمامة والخلافة ربيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليه‌السلام ، وحينما رأت أن هؤلاء سيطروا علىٰ كل شيء ، فاغتصبوا الخلافة ،
_____________

(١) فاطمة وتر في غمد / سليمان كتاني : ١٠٧.


وصادروا فدكاً ، ولم يبقَ لأهل الحقّ باقية ، تحركت عليها‌السلام فوراً وقادت حملة اعتمدت علىٰ ركيزتين :

الاُولى : استدرار عواطف الناس بالبكاء ، حيث بكت بكاءً شديداً حتىٰ ضجّ منها بعض رجال المدينة ، وقالوا لها : لقد آذيتنا بكثرة بكائك ! علىٰ أنهم يعلمون علم اليقين ما هي حقيقة بكاء فاطمة !

ولما سأم بعض رجال أهل المدينة من كثرة بكاء الزهراء عليها‌السلام ، بنىٰ الإمام علي عليه‌السلام لها بيتاً كانت تأوي إليه في ساعات من الليل والنهار ، تبكي أباها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ما شاء لها وسُمّي ببيت الأحزان.

لقد خلّد بيت الأحزان صوت الزهراء عليها‌السلام في ذاكرة التأريخ الإسلامي ، حيث ضمن استمرار معارضتها للظلم مع تعاقب الأجيال ، حتىٰ انقلب بيت الأحزان منذ بواكير نشأته إلىٰ مقرّ سياسي لاعلان المعارضة في مواجهة الطغاة ، فكان مجمع النسوة المؤمنات ، فكل امرأة أرادت زيارة الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام لتعزّيها وتسلّيها ، كان عليها أن تصل بيت الأحزان لتلتقيها فترجع إلىٰ بيت زوجها لتعلن استياءها من أعداء الزهراء عليها‌السلام وغاصبي حقّها ، فتروي لزوجها وأولادها كل ما شاهدته وسمعته من الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ، فكنّ تلك النسوة الزائرات يطلبن من ذويهن أن يضمّوا أصواتهم إلىٰ صوت الزهراء عليها‌السلام ، وينهضوا للدفاع عن بنت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبضعته المظلومة المقهورة ، فصار بعض تلك النسوة سفيرات الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام في إعلان الثورة.

وهكذا أصبحت دموع الزهراء عليها‌السلام دروساً للجهاد والثورة ، وأصبح بيت الأحزان مدرسة كفاح ضد الطغمة الفاسدة الغاصبة.

الركيزة الثانية : تتمثّل في إلقاء الخطب الرنّانة التي دافعت فيها عن حقّ أمير


المؤمنين عليه‌السلام في الخلافة ، ونبّهت الناس علىٰ انحراف القوم عن الخط الذي رسمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمسيرة الإسلام من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان مغزىٰ هاتين الركيزتين وحقيقتهما هو تسديد الأُمّة وإنقاذها وتسييرها لطريق الحقّ وكشف زيغ الباطل.

ولقد حفظ لنا التاريخ الإسلامي خطبتين في هذا المضمار ، الأولىٰ : ألقتها عليها‌السلام في حشد من المهاجرين والأنصار ، والثانية : ألقتها علىٰ مسامع نساء المهاجرين والأنصار.

وكانتا غاية في الفصاحة والبلاغة والمتانة وقوّة الحجّة ، وتمثّلان أهم الوثائق التاريخية التي تعكس حالة التردّي التي كان يعيشها المجتمع الإسلامي آنذاك ، وتكشفان لنا عن سبب ما تعانيه الاُمّة الإسلامية حتىٰ اليوم من انحطاط وتقهقر واضطراب في الحالة الإسلامية.

الخطبة الاُولىٰ :

عن عبد الله بن الحسن عليه‌السلام بإسناده عن آبائه عليهم‌السلام : انّه لمّا أجمع أبو بكر وعمر علىٰ منع فاطمة عليها‌السلام فدكاً وبلغها ذلك ، لاثت خمارها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لُمّة من حفدتها ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتىٰ دخلت علىٰ أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة ، ثمَّ أنّتْ أنّةً ، أجهش لها القوم بالبكاء ، وارتجّ المجلس ، ثمّ أمهلت هنيهة حتىٰ إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم ، افتتحت كلامها بالحمد لله عزّوجلّ والثناء عليه ، والصلاة علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وممّا جاء في خطبتها عليها‌السلام :« وكنتم علىٰ شفا حفرة من النار ، مذقة
الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطرق ،


وتقتاتون القِدّ ، أذلّة خاسئين ، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم ،
فأنقذكم الله تبارك وتعالىٰ بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بعد اللتيّا والتي ، وبعد أن مُني ببُهم
الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها
الله ، أو نجم قرن الشيطان ، أو فغر فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في
لهواتها ، فلا ينكفئ حتىٰ يطأ جناحها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ،
مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول الله ، سيداً في أولياء
الله ، مشمّراً ناصحاً مجدّاً كادحاً ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، وأنتم علىٰ
رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون ، تتربّصون بنا الدوائر ، وتتوكّفون
الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرّون من القتال.

فلمّا اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوىٰ أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة
النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ،
وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، واطلع الشيطان رأسه من مغرزه
هاتفاً بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللعزّة فيه ملاحظين ، ثمّ استنهضكم
فوجدكم خفافاً ، وأحشمكم فألفاكم غضاباً ، فوسمتم غير إبلكم ، ووردتم
غير مشربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ،
والرسول لمّا يقبر ».

وتعرّضت عليها‌السلام في هذه الخطبة للدفاع عن حقّها في إرث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلة :
« وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي من أبي ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
) (١) ؟! أفلا تعلمون ؟ بلىٰ قد تجلّى لكم _____________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٥٠.


كالشمس الضاحية بأني ابنته ! أيها المسلمون ، أأُغلب علىٰ إرثي ؟! يا بن أبي
قحافة ، أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئاً فريّاً ، أفعلىٰ
عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول :
( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ
دَاوُودَ
) (١) وقال فيما اقتضىٰ من خبر يحيىٰ بن زكريا إذ قال : ( فَهَبْ لِي مِن
لَّدُنكَ وَلِيًّا
* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (٢) ، وقال : ( وَأُولُو الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ
) (٣) ، وقال : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ
) (٤) ، وقال : ( إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَ
الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ
) (٥) ، وزعمتم أن لا حظوة لي ولا
إرث من أبي ولا رحم بيننا ، أفخصّكم الله بآية أخرج أبي منها ؟ أم تقولون أنّا
أهل ملّتين لا يتوارثان ؟ أو لست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة ؟ أم أنتم أعلم
بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي ! فدونكهما مخطومة مرحولة ،
تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله والزعيم محمّد
صلى‌الله‌عليه‌وآله والموعد القيامة
وعند الساعة يخسر المبطلون »
.

وقالت عليها‌السلام :« سبحان الله ما كان أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن كتاب الله صادفاً ،
ولا لأحكامه مخالفاً ، بل يتّبع أثره ، ويقفو سوره ، أفتجمعون إلىٰ الغدر
اعتلالاً عليه بالزور ، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته ،
_____________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ١٦.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٥ ـ ٦.

(٣) سورة الأنفال : ٨ / ٧٥.

(٤) سورة النساء : ٤ / ١١.

(٥) سورة البقرة : ٢ / ١٨٠.


هذا كتاب الله حكم عدل وناطق فصل يقول : ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ
يَعْقُوبَ
) (١) ويقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (٢) وبيّن عزّوجلّ فيما وزّع
من الأقساط وشرع من الفرائض والميراث وأباح من حظّ الذكران والاُناث
ما أزاح به علّة المبطلين وأزال التظنين والشبهات في الغابرين ، كلاّ
( بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ
) (٣) .

وناشدت الأنصار مشيرةً إلىٰ حقّ علي عليه‌السلام في خلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلة :« ألا وقد أرى قد أخلدتم إلىٰ الخفض ، وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط
والقبض ، وخلوتم بالدعة ، ونجوتم بالضيق من السعة ، فمججتم ما وعيتم ،
ودسعتم الذي تسوّغتم
( إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ
لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ
) (٤) .

ثمّ عطفت علىٰ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلةً :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختلّ قومك فأشهدهم فقد نكبوا

قد كان جبريل بالآيات يؤنسنا

فغبت عنّا فكلّ الخير محتجب

وكنت بدراً ونوراً يُستضاء به

عليك تنزل من ذي العزّة الكتب

تجهّمتنا رجال واستُخِفّ بنا

بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّ الإرث مغتصب

سيعلم المتولّي ظلم حامتنا

يوم القيامة أنّىٰ سوف ينقلب

_____________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٦.

(٢) سورة النمل : ٢٧ / ١٦.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ١٨.

(٤) سورة إبراهيم : ١٤ / ٨.


فقد لقينا الذي لم يلقه أحد

من البرية لا عجم ولا عرب

فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت

لنا العيون بتهمال له سكب(١)

ثُمَّ ذهبت الصديقة فاطمة عليها‌السلام فتبعها رافع بن رفاعة الزرقي فقال لها : يا سيدة النساء ، لو كان أبو الحسن تكلّم في هذا الأمر وذكر للناس قبل أن يجري هذا العقد ، ما عدلنا به أحداً. فقالت فاطمة عليها‌السلام :« إليك عني ، فما جعل
الله لأحد بعد غدير خمّ من حجّة ولا عذر »
.

قال الراوي : فما رأينا يوماً كان أكثر باكياً ولا باكية من ذلك اليوم ، وارتجّت المدينة ، وهاج الناس ، وارتفعت الأصوات.

الخطبة الثانية :

لمّا مرضت عليها‌السلام المرضة التي تُوفّيت فيها ، دخلت عليها نساء المهاجرين
والأنصار يعدنها ، فخطبت فيهن ، وكان من كلامها في الدفاع عن الإمامة :
« ويحهم أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوة والدلالة ،
ومهبط الروح الأمين ، والطبين باُمور الدنيا والدين؟! ( أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ
الْمُبِينُ
) (٢) . وما الذي نقموا من أبي الحسن ؟! نقموا والله منه نكير سيفه ،
وقلّة مبالاته لحتفه ، وشدّة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات الله.

وتالله لو مالوا عن المحجّة اللائحة ، وزالوا عن قبول الحجّة ، لردّهم إليها ،
_____________

(١) من مصادر هذه الخطبة : بلاغات النساء / ابن طيفور : ٢٣ ، دلائل الإمامة /
الطبري الإمامي : ١١٤ ـ ١١٨ / ٣٦ ، الاحتجاج / الطبرسي ١ : ١٤٦ ، كشف
الغمّة / الاربلي ٢ : ١٠٨ ، وغيرها.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ١٥.


وحملهم إيّاه ، ولسار بهم سيراً سجحاً (١) ، لا يكلم خشاشه ، ولا يكلّ سائره ،
ولا يملّ راكبه ، ولأوردهم نميراً صافياً رويّاً تطفح ضفتاه ، ولا يترنّق جانباه ،
ولأصدرهم بطانا ، ونصح لهم سرّاً وإعلانا »
.

وقالت عليها‌السلام :« ألا هلم فاسمع ، وما عشت أراك الدهر عجباً ، وإن تعجب
فعجب قولهم ! ليت شعري إلىٰ أي سناد استندوا ؟! وإلىٰ أي عماد اعتمدوا ؟!
وبأيّ عروة تمسّكوا ؟! وعلىٰ أي ذرّية أقدموا واحتنكوا ؟!
( لَبِئْسَ الْمَوْلَىٰ
وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ
) (٢) ، وبئس للظالمين بدلاً ، استبدلوا والله الذنابىٰ بالقوادم ،
والعجز بالكاهل ، فرغما لمعاطس قوم
( يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) (٣) ،
( أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ ) (٤) ويحهم ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى
الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
) (٥) ؟!

أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ، ثمّ احتلبوا ملء القعب دماً
عبيطاً وذعافاً مبيداً ، هنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غبّ ما أسس
الأولون ».

قال سويد بن غفلة : فأعادت النساء قولها علىٰ رجالهن ، فجاء إليها قوم من
المهاجرين والأنصار معتذرين وقالوا : يا سيدة النساء لو كان أبو الحسن ذكر لنا
هذا الأمر قبل أن يبرم العهد ويحكم العقد ، لما عدلنا عنه إلىٰ غيره ، فقالت عليها‌السلام :
_____________

(١) سجحاً : سهلاً ليناً.

(٢) سورة الحجّ : ٢٢ / ١٣.

(٣) سورة الكهف : ١٨ / ١٠٤.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٢.

(٥) سورة يونس : ١٠ / ٣٥.


« إليكم عنّي ، فلا عذر بعد تعذيركم ، ولا أمر بعد تقصيركم » (١) .

وصية الصديقة فاطمة عليها‌السلام :

أحسّت سيّدة نساء العالمين عليها‌السلام بدنوّ أجلها ، واشتدّت وطأة المرض عليها ، فقد أنهكتها الكوارث والمصائب التي ألمّت بها بعد وفاة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولاحت عليها بوادر الضعف ، وانهارت قواها ، فأيقنت أنه حان موعد الالتحاق بأبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله والاجتماع به في جوار الربّ الكريم.

لقد مرضت الصدّيقة مرضاً شديداً ، ومكثت أربعين ليلة ، فلمّا نعيت إليها نفسها ، دعت أُم أيمن وأسماء بنت عميس ووجّهتْ خَلْفَ علي عليه‌السلام وأحضرته ، فقالت :« يا ابن عم ، إنّه قد نعيت إلي نفسي ، وإني لا أرىٰ ما بي إلّا أنّني
لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة ، وأنا اُوصيك بأشياء في قلبي »
.

قال لها علي عليه‌السلام :« أوصيني بما أحببتِ يا بنت رسول الله » ! فجلس عند
رأسها وأخرج من كان في البيت ، ثمّ قالت : « يا ابن عم ، ما عهدتني كاذبة ولا
خائنة ، ولا خالفتك منذ عاشرتني »
فقال علي عليه‌السلام :« معاذ الله ، أَنت أَعلم بالله
وأبرّ وأتقىٰ وأكرم وأشدّ خوفاً من الله من أن أوبّخك بمخالفتي ، قد عزّ عليَّ
مفارقتك وفقدك ، إلّا أنه أمر لابدّ منه ، والله جدّدتِ عليّ مصيبة رسول
الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد عظمت وفاتك وفقدك ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون من مصيبة ما _____________

(١) من مصادر هذه الخطبة : بلاغات النساء / ابن طيفور : ٣٢ ، دلائل الإمامة /
الطبري الإمامي : ١٢٦ ـ ١٢٩ / ٣٧ و ٣٨ ، معاني الأخبار / الصدوق : ١٠١ ط
إيران ، الأمالي / الطوسي : ٢٣٨ ، الاحتجاج / الطبرسي ١ : ١٤٩ ، شرح نهج
البلاغة / ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣٤ ، وغيرها من المصادر المعتبرة.


أفجعها وآلمها وأمضّها وأحزنها ! هذه والله مصيبة لا عزاء لها ، ورزية لا
خلف لها »
ثمّ بكيا جميعاً ساعة وأخذ عليُّ عليه‌السلام رأسها وضمّها إلىٰ صدره ، ثمّ قال :« أوصيني بما شئتِ ، فإنّكِ تجديني فيها أمضي كما أمرتِني به ، وأختار
أمرك علىٰ أمري »
(١) .

ثمّ ذكرت وصاياها ، وقد جاءت في كتب السيرة علىٰ النحو التالي :

« بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصت به فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .
أوصت هي تشهد أن لا إله إلّا الله ، وأن محمّداً رسول الله ، وأن الجنّة حقّ ،
والنار حقّ ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث مَن في القبور.

يا عليّ ، أنا فاطمة بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، زوّجني الله منك لأكون لك في الدنيا
والآخرة ، أنت أولىٰ بي من غيري حنّطني وغسّلني وكفنّي بالليل وصلِّ
عليّ ، وادفنّي بالليل ، ولا تُعْلِم أحداً ، وأستودعك الله واقرأ علىٰ ولدي
السلام إلىٰ يوم القيامة »
(٢) .

ثمّ أوصت إلىٰ عليّ عليه‌السلام أن يتزوّج بعدها من ابنة أُختها أُمامة بنت زينب بنت السيدة خديجة الكبرىٰ سلام الله عليها ، وقالت عليها‌السلام :« إنها تكون
لأولادي مثلي »
(٣) ، وأن يتّخذ لها نعشاً وصفته له(٤) .

وأن لا يشهد جنازتها أحد ممن كانت غاضبة عليهم ، وأن لا يصلّي عليها
_____________

(١) بحار الأنوار ٤٣ : ١٩١ / ٢٠.

(٢) بحار الأنوار ٤٣ : ٢١٤ / ٤٤.

(٣) بحار الأنوار ٤٣ : ١٩٢.

(٤) بحار الأنوار ٤٣ : ١٩٢ / ٢٠.


أحد منهم ، وأن يدفنها ليلاً إذا هدأت العيون ونامت الأبصار وأن يُعفّىٰ قبرها !!(١) ، وأن تحنّط بفاضل حنوط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان جبرائيل جاء بحنوط من الجنّة ، وكان أربعين درهماً ، فقسّمه رسول الله أثلاثاً ثلاثة ، فثلث لنفسه ، وثلث لابنته فاطمة ، والثلث الأخير لأمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) .

وأوصت بما عندها من بساتين لعليّ ولأولادها من بعده ، وجعلت صدقتها في بني هاشم وبني عبد المطلب ، وقد سئل الإمام الباقر عليه‌السلام عن وصية الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ، فأخرج سفطاً وأخرج منه كتاباً فيه :« هذا ما أوصت به فاطمة
بنت رسول الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله بحوائطها ـ بساتينها ـ السبعة : ذو الحسنىٰ ، والساقية ،
والدلال ، والعواف ، والرقمة ، والهيثم ، ومشربة أُم إبراهيم ، إلىٰ علي بن أبي
طالب
عليه‌السلام ، ومن بعد عليّ فإلىٰ الحسن ، ومن بعد الحسن فإلىٰ الحسين ، ومن
بعد الحسين فإلىٰ الأكبر فالأكبر من ولدي ، شهد الله علىٰ ذلك وكفىٰ بالله
شهيداً ، وشهد المقداد بن الأسود ، والزبير بن العوّام ، وكتبه علي بن أبي
طالب
عليه‌السلام » (٣) . وأوصت أيضاً :« لأزواج النبي ، لكل واحدة منهن بإثنتي
عشرة أوقية ، ولنساء بني هاشم مثل ذلك ، وأوصت لأُمامة بنت أبي العاص
بشيء »
(٤) .

_____________

(١) بحار الأنوار ٤٣ : ١٩٢ / ٢٠ ، روضة الواعظين / الفتّال النيسابوري ١ : ١٥١ ،
أعلام النساء / عمر رضا كحالة ٤ : ١٣١.

(٢) كشف الغمّة ٢ : ١٢٢ ـ ١٢٣.

(٣) دلائل الإمامة : ١٢٩ / ٣٩ ، الكافي ٧ : ٤٨ / ٥ باب صدقات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفاطمة
والأئمّة عليهم‌السلام ووصاياهم ، من كتاب الوصايا.

(٤) دلائل الإمامة : ١٣٠ / ٤٠.


وفاة الصديقة فاطمة عليها‌السلام :

عن أُم سلمة ، قالت : اشتكت فاطمة عليها‌السلام في وجعها ، فخرج عليٌّ عليه‌السلام لبعض حاجته فقالت لي فاطمة عليها‌السلام :« يا أُمّاه اسكبي لي غسلاً » ، فسكبت لها غسلاً ، فاغتسلت كأحسن ما رأيتها تغتسل ، ثمّ قالت :« يا أُماه أعطيني ثيابي
الجدد »
، فأعطيتها فلبستها ، ثمّ قالت :« يا اُماه قدّمي لي فراشي وسط
البيت »
ففعلت ، فاضطجعت واستقبلت القبلة وجعلت يدها تحت خدّها ثمّ قالت :« يا أُماه إني مقبوضة الآن ، وقد طهرت فلا يكشفني أحد » ، فقبضت مكانها(١) .

وفي رواية أُخرىٰ أنه في اليوم الأخير من حياتها عليها‌السلام كان يبدو عليها
الارتياح ، فقامت من فراشها ونادت أولادها وغسّلت لهم ، ثمّ عانقتهم طويلاً
وقبّلتهم ، ثمّ أمرتهم بالخروج لزيارة قبر جدّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانت أسماء بنت عميس
تتولّىٰ خدمتها وتمريضها ، فطلبت منها وبصوت واهٍ ضعيفٍ أن تهيء لها ماء
لتغتسل ، فبادرت أسماء إلىٰ إحضار الماء ، فاغتسلت عليها‌السلام ولبست أحسن
الثياب وبدأ عليها الحبور ، فظنّت أسماء أنّها تماثلت للشفاء ، ولكن سرعان ما
عاودها القلق والاضطراب وتبدّدت ظنونها عندما طلبت منها أن تنقل لها
الفراش إلىٰ وسط البيت ، فقامت أسماء وهي تتعثّر بأذيالها ووضعت لها الفراش
في وسط البيت ، وقد أثارتها الدهشة ، وكانت بادية علىٰ وجهها لشدّة ما ساءها
وانتابها من القلق الشديد عندما رأت السيدة الزهراء عليها‌السلام قد اضطجعت علىٰ
_____________

(١) بحار الأنوار ٤٣ : ١٨٨.


الفراش واستقبلت القبلة والتفتت إلىٰ أسماء ، وقالت :« إنّي مقبوضة الآن
وراحلة من هذه الدنيا إلىٰ جوار ربّ رحيم ولاحقة بأبي الرسول
الكريم
صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١) .

سبب وفاة الصديقة فاطمة عليها‌السلام :

لمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجرىٰ ما جرىٰ من دخول القوم عليها وإخراج ابن عمّها أمير المؤمنين عليه‌السلام وما لحقها من أذىً وجهد أسقطت ولداً تامّاً ، وكان ذلك أصل مرضها ووفاتها صلوات الله عليها(٢) .

وذكر في سبب وفاتها سلام الله عليها أنّ قنفذاً مولىٰ عمر لعنه الله لكزها بنعل سيفه بأمره فأسقطت محسناً ، ومرضت من ذلك مرضاً شديداً(٣) .

ومن هنا فقد جاء في زيارتها عليها‌السلام المرويّة عن أهل البيت عليهم‌السلام وصفها بالشهيدة :« السلام عليكِ يا أيتها الصدّيقة الشهيدة » (٤) .

وسُئِل الإمام الكاظم عليه‌السلام عن سبب وفاة الصدّيقة فاطمة ؟ فقال :« إنّ
فاطمة صدّيقة شهيدة »
(٥) .

دفن الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام :

لمّا أرخى الليل سدوله ، وهدأت العيون ، ونامت الأبصار ، قام أمير المؤمنين عليه‌السلام _____________

(١) بحار الأنوار ٤٣ : ١٨٧ / ١٨ باب ما وقع عليها عليها‌السلام من الظلم.

(٢) راجع : دلائل الإمامة : ١٣٤ / ٤٣.

(٣) دلائل الإمامة : ١٣٤ / ٤٣.

(٤) مفاتيح الجنان : ٣١٧ ، زيارة الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام .

(٥) الكافي ١ : ٤٥٨ / ٢.


وقد احمرّت عيناه من البكاء ، فتوجّه إلىٰ جثمان الصدّيقة فتولّىٰ غسلها بنفسه(١) ، وقيل : أعانته أسماء بنت عميس بوصيّة من الزهراء عليها‌السلام (٢) ، وقيل : ان أمير المؤمنين عليه‌السلام أمر الحسن والحسين عليهما‌السلام ، يدخلان الماء(٣) ، وكانت أسماء بنت عميس تصبّ الماء عليها(٤) ، ثمّ كفّنها في سبعة أثواب وأدرجها في أكفانها وحنّطها بفاضل حنوط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ صلّىٰ عليها وكبّر خمساً ، ودفنها في جوف الليل ، وعفّىٰ قبرها ، وَرَشَّ عليها الماء ، ثمّ جلس عند قبرها باكياً حزيناً ، فأخذ العباس بيده وانصرف به(٥) .

ولم يحضر دفنها والصلاة عليها إلّا عليّ والحسنان وعمّار بن ياسر والمقداد وعقيل والزبير وأبو ذرّ وسلمان وبريدة ونفر من بني هاشم وخواص أصحاب الإمام عليه‌السلام (٦) .

ثمّ وقف الأمير ينفض يديه من تراب القبر ، وهو الثاكل المحزون ، وراح
يناجي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن عفّىٰ قبرها بيده ، ثمّ حوّل وجهه صوب قبره
الشريف قائلاً : « السلام عليك يا رسول الله ، عني وعن ابنتك وزائرتك
والبائتة الليلة ببقعتك ، والمختار لها الله سرعة اللحاق بك ، قلّ يا رسول الله
عن صفيّتك صبري ، وعفا عن سيّدة نساء العالمين تجلّدي ، إلّا أنّ في
_____________

(١) علل الشرائع / الصدوق ١ : ١٨٤ / ١ ، باب ١٤٨.

(٢) السنن الكبرىٰ / البيهقي ٣ : ٣٩٦.

(٣) كشف الغمّة ٢ : ١٢٢.

(٤) تذكرة الخواص : ٣١٩.

(٥) بحار الأنوار ٧٩ : ٢٨ / ١٣.

(٦) روضة الواعظين / الفتّال النيسابوري ١ : ١٥٢.


التأسّي بسنّتك وفي فرقتك موضع تعزِّ ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك ،
وفاضت نفسك بين صدري ونحري ، وفي كتاب الله نعم القول
( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
) قد استُرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ، واختلست الزهراء ،
فما أقبح الخضراء والغبراء ! يا رسول الله ، أمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي
فمسهّد ، ولا يبرح ذلك عن قلبي حتىٰ يختار الله لي دارك التي أنت بها »
.

إلى أن قال :« فبعين الله تُدفن ابنتك سرّاً ، وأن يُهتضم حقّها ، ويُمنع إرثها
جهراً ، وما بعد منك العهد ، ولا اخلولق منك الذكر ، فإلىٰ الله ـ يا رسول الله ـ
المشتكىٰ ، وبك أجمل العزاء ، صلوات الله عليك ، وعليها السلام
والرضوان
»(١) .

محل دفنها عليها‌السلام :

اختلفت الروايات في تحديد موضع قبر الصديقة عليها‌السلام فقد رُوي أنّها دُفنت عليها‌السلام في بيتها ، ومستند ذلك إلىٰ الرواية الواردة عن سهل ، عن البزنطي ، عن الإمام الرضا عليه‌السلام حينما سُئل عن قبر فاطمة عليها‌السلام ؟ فقال الإمام عليه‌السلام :« دُفنت في بيتها ، فلما زادت بنو أمية في المسجد صارت في المسجد » (٢) .

ورُوي أنها دُفنت في الروضة (بين القبر والمنبر) ، ومستند ذلك إلىٰ الرواية
الواردة عن الشيخ المفيد رحمه‌الله عن ابن أبي عمير مرسلاً عن الصادق عليه‌السلام حيث
قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة » ،
_____________

(١) أمالي المفيد : ٢٨١ / ٧ ، الكافي / الكليني ١ : ٤٥٨ / ٣ ، تذكرة الخواص /
سبط ابن الجوزي : ٣١٩ ، كشف الغمّة / الاربلي ١ : ٥٠٤.

(٢) الكافي ١ : ٤٦١ / ٩.


« ومنبري علىٰ ترعة من ترع الجنّة » ، ثمّ قال الصادق عليه‌السلام :« لأنّ قبر
فاطمة
عليها‌السلام بين قبره ومنبره ، وقبرها روضة من رياض الجنّة ، وأنه ترعة من
ترع الجنّة »
(١) .

كما رُوي أنها دُفنت بالبقيع ، ومستند ذلك الحديث الوارد في أمالي الطوسي بأسانيد عن ابن عباس في دفن الإمام الحسن المجتبىٰ عليه‌السلام ، فأتينا به قبر أُمه فاطمة فدفناه إلىٰ جنبها(٢) .

وعلى الجملة ، فإنّ موضع قبرها غير معلوم ، وذلك ما أوصت به عليها‌السلام كما تقدّم.

تاريخ وفاتها عليها‌السلام :

تعدّدت الروايات في تحديد تاريخ وفاة الزهراء عليها‌السلام ، وخلاصتها أنها توفّيت عليها‌السلام بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله بثلاثة أشهر ، وقيل بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله بثمانية أشهر ، أو بشهر ، أو بخمسة وسبعين يوماً ، أو بستّة أشهر.(٣)

أبعاد وصيّة الزهراء عليها‌السلام :

أوصت الزهراء عليها‌السلام أن تُدفن ليلاً ، وأن لا يشهد الشيخان تشييع جنازتها ،
لتعلن للأجيال بأنها ماتت وهي غضبىٰ عليهما ، ولذا عندما سُئل الأمير عليه‌السلام من
قِبل الأصبغ بن نباتة عن علّة دفن الصدّيقة فاطمة ليلاً ؟ قال عليه‌السلام :« إنّها كانت _____________

(١) بحار الأنوار ٤٣ : ١٨٥ / ١٧.

(٢) الأمالي / الطوسي : ١٥٩ / ١٩ المجلس السادس.

(٣) راجع : بحار الأنوار / المجلسي ٤٣ : ٢١٥ / ٤٥ وما بعده.


ساخطة علىٰ أقوام كرهت حضورهم جنازتها » (١) .

وقد تحقّق غرض الزهراء عليها‌السلام في دفنها ليلاً ، فما أن علم الناس بالأمر حتىٰ أخذوا يتلاومون فيما بينهم علىٰ ما ارتكبوه من ظلم واضطهاد لبضعة المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله .(٢)

فقد رُوي أنّ المسلمين لمّا علموا وفاتها جاءوا إلىٰ البقيع ، فوجدوا فيه أربعين قبراً ، فأشكل عليهم قبرها من بين القبور ، فضجّ الناس ولام بعضهم بعضاً وقالوا : لم يخلف نبيكم فيكم إلّا بنتاً واحدة تموت وتُدفن ولم تحضروا وفاتها ولا دفنها ولا الصلاة عليها ولا تعرفوا قبرها !؟(٣)

فسلام عليكِ يا سيدة نساء العالمين يوم وُلدت ويوم استُشهدت ويوم يبعثكِ الله حيّة ، لتكوني أول من يدخل الجنّة علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا عدمنا الله شفاعتك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتىٰ الله بقلب سليم.

_____________

(١) الأمالي / الصدوق : ٧٥٥ / ١٠١٨ ، مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٣ ، بحار
الأنوار ٤٣ : ١٨٣.

(٢) سيرة الأئمة الاثني عشر / هاشم معروف الحسني ١ : ١٣٨.

(٣) بحار الأنوار ٤٣ : ٢١٢ / ٤١ ، دلائل الإمامة : ١٣٦.





القسم الثاني

أُمهات الأئمة المعصومين التسعة
من ذرّية الإمام الحسين عليهم‌السلام

أولاً : أُم الإمام السجاد زين العابدين عليه‌السلام

اسمها : هي السيدة شهربانويه بنت يزدجرد بن شاهنشاه آخر ملوك الفرس(١) ، كانت معروفة النسب ، ومن خير النساء ، ومن ربّات البرّ والصلاح والعبادة والتقىٰ ، ويكفيها فخراً أنها زوجة سيد الشهداء خامس أصحاب الكساء الإمام السبط الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام .

وقد وردت لهذه السيدة الجليلة والمخدّرة المنيفة عدّة أسماء ، منها : شاه زنان ، سلافة ، غزالة ، جهانشاه ، بَرّة ، سلامة ، خولة ، مريم(٢) .

وقد ورد اسمها ونسبها في أُرجوزة الحرّ العاملي رحمه‌الله ، قال :

_____________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق ١ : ٣٠٧.

(٢) دلائل الإمامة : ١٩٦ ، فرق الشيعة / النوبختي : ٦٦ ، المعارف / ابن قتيبة :
٢١٤ ، الكافي ١ : ٤٦٦ باب مولد الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام ، إثبات الوصيّة /
المسعودي : ١٦٧ ، كشف الغمّة / الاربلي ٢ : ١٠١ ، بحار الأنوار ٤٦ : ٧ / ١٨ ،
و ١٣ / ٢٤.


وأُمّه ذات العلا والمجد

شاه زنان بنت يزدجرد

وهو ابن شهريار ابن كسرىٰ

ذو سؤدد ليس بخافٍ كسرىٰ(١)

ويذهب بعض المؤرخين إلىٰ أن الإمام أمير المؤمين عليه‌السلام أبدل اسمها (شاه زنان) إلىٰ (شهربانو) لئلّا تشارك الصدّيقة الزهراء بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لقبها(٢) ، لأنّ (شاه زنان) تعني سيدة النساء ، ولأن الرسالة الإلهية قد خصّت الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام بلقب سيدة النساء وفقاً لمؤهّلات ومواصفات إلهية توفّرت فيها دون غيرها ، ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مخاطباً فاطمة الزهراء عليها‌السلام :« يا بنية أما
ترضين أنّك سيدة نساء العالمين ؟ »
قالت : يا أبت ، فأين مريم عليه‌السلام ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله :« تلك سيدة نساء عالمها » (٣) .

ويذكر بعض المؤرّخين أنّ الإمام علي عليه‌السلام قد أسماها مريم تيمّناً بالصدّيقة مريم عليها‌السلام ، وهو آخر أسمائها حتىٰ تُوفّيت رضوان الله عليها(٤) .

تاريخ وصولها إلىٰ المدينة المنورة :

لا خلاف بين الرواة والمؤرخين في أن أُم الإمام السجاد عليه‌السلام من بنات ملوك فارس ، وأنّها وصلت إلىٰ الإمام الحسين عليه‌السلام مع أختيها ، ولكن الخلاف هو في زمن وصولها إلىٰ المدينة المنورة ، ويمكن حصره بثلاثة أقوال ، وهي :

_____________

(١) أرجوزة الحرّ العاملي عن منتهىٰ الآمال / عباس القمي ٢ : ٧.

(٢) الإمام زين العابدين عليه‌السلام / السيد عبد الرزاق المقرم : ١٤ عن دلائل الإمامة /
الطبري الإمامي : ١٩٦.

(٣) السيرة الحلبية / الحلبي الشافعي ٢ : ٦.

(٤) بحار الأنوار ٤٦ : ١٣ / ٢٤.


أوّلاً : انها وصلت إلىٰ المدينة في زمان عمر :

ويدلُّ عليه ما رواه ثقة الإسلام الكليني طاب ثراه بسنده عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، قال : « لما اُقدمت بنت يزدجرد علىٰ عمر ، أشرف لها عذارى المدينة ، وأشرق المسجد بضوئها لما دخلته ، فلما نظر إليها عمر غطّت وجهها وقالت : أف بيروج بادا هرمز(١) ، فقال عمر : أتشتمني هذه ؟ وهمَّ بها ، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام :ليس ذلك لك ، خيرها رجلاً من المسلمين واحسبها بفيئه ، فخيرها فجاءت حتىٰ وضعت يدها علىٰ رأس الحسين عليه‌السلام ، فقال لها أمير المؤمنين عليه‌السلام :ما اسمك ؟ فقالت : جهان شاه ، فقال لها أمير المؤمنين عليه‌السلام :بل
شهربانويه
، ثم قال للحسين عليه‌السلام :يا أبا عبد الله ، لتلدن لك منها خير أهل
الأرض
، فولدت علي بن الحسين عليهما‌السلام ، وكان يقال لعلي بن الحسين عليهما‌السلام : ابن الخيرتين ؛ فخيرة الله من العرب هاشم ، ومن العجم فارس ».

وروي أنّ أبا الأسود الدئلي قال فيه عليه‌السلام :

وإنّ غلاماً بين كسرىٰ وهاشم

لأكرم من نيطت عليه التمائم(٢) .

ثانياً : أنها وصلت إلىٰ المدينة في زمان عثمان :

ويدلّ علىٰ ذلك ما رواه الشيخ الصدوق بالإسناد عن سهل بن قاسم ، قال :
قال لي الإمام الرضا عليه‌السلام بخراسان :« إن بيننا وبينكم نسب » ، قلت : وما هو أيها
_____________

(١) كلام فارسي : مشتمل على تأفيف ودعاء على أبيها هرمز ، تعني لا كان لهرمز
يوم ، فإنّ ابنته اسرت بصغر ونظر إليها الرجال.

(٢) الكافي ١ : ٤٦٦ / ١ باب مولد علي بن الحسين عليهما‌السلام من كتاب الحجّة.


الأمير ؟ قال :« إن عبد الله بن عامر بن كريز لمّا افتتح خراسان أصاب ابنتين
ليزدجرد بن شهريار ملك الأعاجم ، فبعث بهما إلىٰ عثمان بن عفّان ، فوهب
إحداهما للحسن
عليه‌السلام ، والاُخرىٰ للحسين عليه‌السلام ، فماتتا عندهما نفساوين » (١) .

ثالثاً : أنها وصلت المدينة في خلافة أمير المؤمنين الإمام علي صلوات الله عليه وسلامه :

ويدلُّ عليه ما رواه الشيخ المفيد رحمه‌الله بسنده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من أنه ولّىٰ حريث بن جابر الجعفي جانباً من المشرق ، فبعث إليه ابنتي ملك فارس ، يزدجرد بن شهريار بن كسرىٰ ، فنحل الإمام علي عليه‌السلام الاُولىٰ شاه زنان إلىٰ ابنه الحسين عليه‌السلام فأولدها زين العابدين عليه‌السلام ، ونحل الاُخرىٰ إلىٰ محمّد بن أبي بكر رضوان الله علىٰ محمد فولدت له القاسم ـ جدّ الإمام الصادق عليه‌السلام لاُمّه ـ وعلىٰ هذا فإن القاسم والإمام السجاد عليه‌السلام ابنا خالة(٢) . والمشهور هو القول الأول ، ورجّح بعضهم القول الثاني(٣) .

خطوبتها عليها‌السلام :

ورد في حديث الطبري الإمامي بالإسناد عن المسيّب بن نُجبة أنّه لمّا ورد
سبي الفرس إلىٰ المدينة ، أراد عمر بن الخطّاب بيع النساء ، وأن يجعل الرجال
_____________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٨ / ٦ ، بحار الأنوار ٤٦ : ٨ / ١٩.

(٢) الإرشاد / المفيد ٢ : ١٣٨ وروىٰ الشيخ المفيد رضي‌الله‌عنه نحوه في الاختصاص : ١٥١.

(٣) اُنظر : مجلة رسالة الإمام الحسين عليه‌السلام نشر مركز دراسات نهضة الإمام
الحسين عليه‌السلام العدد / ٢ سنة ١٤١٢ ه ص ٢٤٦ ويتضمّن بحثا بهذا الموضوع للشيخ
محمّد هادي اليوسفي الغروي.


عبيداً فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام :« إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أكرموا كريم كلّ
قوم وإنّ هؤلاء قوم قد ألقوا إليكم السلم ، ورغبوا في الإسلام ، ولابدّ أن
يكون لي منهم ذريّة »
.

ثمّ أنّه عليه‌السلام وهب نصيبه منهم لوجه الله ، وتابعه جميع بني هاشم والمهاجرون والأنصار. فرغبت جماعة من قريش في أن يستنكحوا النساء ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام :« هؤلاء لا يُكرَهن علىٰ ذلك ، ولكن يخيّرن ، فما اخترنه عُمل
به »
، فأشار جماعة إلىٰ شهربانويه بنت كسرىٰ ، فخيّرت وخوطبت من وراء حجاب ، فقيل لها : من تختارين من خطّابك ، وهل تريدين بعلاً ؟ فسكتت. فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام :« قد أرادت ، وبقي الاختيار » ، فأُريت شهربانويه الخطّاب وأومأت بيدها مشيرة إلىٰ الحسين عليه‌السلام ، فأُعيد القول عليها في التخيير ، فأشارت إليه وقالت بلغتها : هذا إن كنت مخيّرة. وجعلت علياً عليه‌السلام وليّها ، فأوكل حذيفة ، فتكلّم بالخطبة(١) .

وقد روي عنها رضي الله عنها أنها قالت : رأيت في النوم قبل ورود عسكر المسلمين ، كأن محمّداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل دارنا ، فقعد مع الحسين عليه‌السلام ، وخطبني له وزوّجني منه ، فلما أصبحت كان ذلك يؤثّر في قلبي ، وما كان لي خاطر غير هذا.

فلمّا كان في الليلة الثانية رأيت أُمّه فاطمة بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أتتني وعرضت
عليّ الإسلام فأسلمتُ ، ثمّ قالت : إنّ الغلبة تكون للمسلمين ، وإنّك تصلين عن
_____________

(١) دلائل الإمامة : ١٩٤ / ١١١.


قريب إلىٰ ابني الحسين عليه‌السلام سالمة لا يصيبك بسوء أحد. قالت : وكان من الحال أنّي خرجت إلىٰ المدينة وما مسّ يدي إنسان !(١) .

وعندها زوَّجَ الإمام علي عليه‌السلام شهربانويه من ولده السبط الإمام الحسين عليه‌السلام قائلاً له :« يا بني احتفظ بها ، وأحسن إليها ، فستلد لك خير أهل
الأرض في زمانه بعدك ، وهي أُمّ الأوصياء الذرّية الطيّبة »
(٢) .

ولادتها الإمام السجاد عليه‌السلام :

مرّت الأيام والشهور علىٰ زواج السبط الإمام الحسين عليه‌السلام ، ثمّ عمّت البشرىٰ بيت الرسالة ، وساد أهل البيت عليهم‌السلام السرور والحبور ، إذ أتحفت تلك السيدة المخدّرة البيت العلوي بوليدها المبارك عليّ السجاد عليه‌السلام في يوم الخامس من شعبان المعظم سنة ثمان وثلاثين من الهجرة علىٰ وجه التحديد(٣) .

وحين زفّت البشرىٰ لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام سجد لله شكراً وأسماه عليّاً. لقد ولدته عليه‌السلام وسيماً جميلاً من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم رائحة :

ينشق نور الدجىٰ عن نور غرّته

كالشمس تنجاب عن أشراقها الظلم

الله فضّله قدماً وشرّفه

جرىٰ بذاك له في لوحه القلم(٤)

كراماتها :

لعلّ أبرز كراماتها هو إشاءة الإرادة الإلهية الإتيان بها من بلاد فارس
_____________

(١) بحار الأنوار / المجلسي ٤٦ : ١١ / ٢١.

(٢) الخرائج والجرائح / القطب الرواندي ١ : ١٩٦ ، بحار الأنوار ٤٦ : ١١ / ٢١.

(٣) كشف الغمّة في معرفة الأئمة / الاربلي ٢ : ٢٨٥ ، تاريخ علي بن الحسين عليه‌السلام .

(٤) الاختصاص : ١٩٢.


البعيدة لتكون قرينة سيّد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه‌السلام ، وكذلك انحصار الذرّية الطاهرة المعصومة بها عن طريق وليدها السجّاد عليه‌السلام ، فتلك كرامة ما أعظمها !

ومن ثَمَّ فهي طاهرة نقيّة ، كما تشهد علىٰ ذلك زيارة الأئمة عليهم‌السلام :« أشهد
أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة لم تزالوا بعين الله
ينسخكم من أصلاب كلّ مطهّر ، وينقلكم من أرحام المطهّرات »
(١) على أن السيدة شهربانويه عليها‌السلام كانت ذات شرف عظيم قبل إسلامها ، وقد أنشد الشعراء في مدحهم الإمام السجّاد عليه‌السلام ما يشير إلىٰ هذا بكل وضوح.

قال أبو الأسود الدؤلي :

وإن غلاماً بين كسرىٰ وهاشم

لأكرم من نيطت عليه التمائم(٢)

وقال مهيار الديلمي :

قد قبست المجد عن خير أبٍ

وقبست الدين عن خير نبي

وضممت الفخر من أطرافه

سؤدد الفرس ودين العربِ

وفاتها عليها‌السلام :

بالنظر لاختلاف الروايات في وصولها المدينة المنورة وزواجها ، فقد
اختُلِف في وفاتها رضوان الله عليها ، وقد قيل : إنها ماتت عليها‌السلام في نفاسها بالإمام
السجّاد عليه‌السلام (٣) ، وكأنما كانت عليها‌السلام مُعدّة لولادة السجّاد عليه‌السلام فحسب ، ثمّ الرحيل
_____________

(١) مفاتيح الجنان : ٤٢٩ ، و : ٣٢٧.

(٢) الكافي ١ : ٤٦٦ / ١.

(٣) بحار الأنوار ١٦ : ١١ / ٢١.


إلىٰ جوار ربّها الرحيم في جنّة الفردوس مع محمّد وآله الطاهرين.

فسلام عليك يا من خصّك الله دون النساء بأن جعل الإمامة من ذرّيتك ، وسلسلة الأئمّة من رحمك الطاهر.

ثانياً : أُمّ الإمام الباقر عليه‌السلام

اسمها ونسبها : هي السيدة فاطمة بنت الإمام الحسن السبط عليه‌السلام بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فهي من العلويات المخدّرات والصدِّيقات الطاهرات ذات العلم والشرف والحياء والعفّة والكمال ، وتمتاز عن سائر بنات الإمام الحسن المجتبىٰ عليه‌السلام بالجلالة وعظمة الشأن والنجابة.

عمّها الإمام الحسين الشهيد عليه‌السلام ، وجدّها الامام علي بن أبي طالب عليه‌السلام وجدّتها الصدِّيقة فاطمة عليها‌السلام ، وبهذا النسب يكفيها فخراً أنّها من أغصان الشجرة الطيّبة ومن ثمار الدوحة الهاشمية ، فزوجها الإمام السجّاد زين العابدين عليه‌السلام ، وهي أُم الإمام الباقر عليه‌السلام ، وهي أوّل علوية تتزوّج من علوي ، وأوّل فاطمية تتزوّج من فاطمي سلام الله عليهم ، وعلىٰ هذا فتكون ذرّيتها علوية فاطمية وحسينية وحسنية ، وبهذا فهي ثالث هاشمية تتزوّج من هاشمي بعد جدّتها الكبرىٰ فاطمة بنت أسد التي تزوّجت جدّها الأكبر أبا طالب ، وفاطمة الزهراء عليها‌السلام والتي تزوّجت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام .

كنيتها : أُم عبد الله(١) ، وأُم الحسن(٢) .

_____________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق ١ : ٣٠٧.

(٢) في رحاب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام / السيد الأمين ٤ : ٤.


زواجها من الامام السجاد عليه‌السلام :

وُلد هذان الزوجان ونشئا في بيوتٍ أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه ، حيث مهبط الملائكة ونزول البركات بكرةً وعشيّاً. وفي هذه الأثناء كانت السيدة فاطمة بنت الإمام الحسن السبط عليه‌السلام تعيش في كنف والدها الإمام المعصوم عليه‌السلام حيث العلم والحلم والكرم ، غير أن تلك الحياة الرغيدة لم تستمر إذ استُشهدَ أبوها الإمام الحسن المجتبىٰ عليه‌السلام بمؤامرة دنيئة دبّرها له معاوية بن أبي سفيان بالاستعانة بزوجة الإمام (جعدة بنت الأشعث). فأصبحت عائلة الإمام الحسن عليه‌السلام تحت رعاية إمام زمانها الحقّ وخليفة رسول الله (الإمام الحسين عليه‌السلام ).

فبادر الإمام الحسين عليه‌السلام برعاية أُسرة أخيه الإمام الحسن عليه‌السلام وجعلها كأُسرته تماماً في التربية والتعليم والنصح والإرشاد والانفاق ونحو ذلك من الأمور الأُخرىٰ ، وهكذا عاشت فاطمة أُم الإمام الباقر عليه‌السلام في كنف السبطين عليهما‌السلام معاً ، الأمر الذي أسهم في تكوين شخصيتها ، حتىٰ توفّرت فيها جميع المقوّمات والمؤهّلات من سموّ الحسب وعلوّ النسب وغزارة العلم وقمّة الحلم ، فزوجها الإمام الحسين من ولده السجّاد عليهما‌السلام ، لتكون فيما بعد أُمّاً للذرّيّة الطاهرة ، ولتنال شرف الدنيا والآخرة حيث أصبحت أُمّاً لثاني التسعة المعصومين من ذرّيّة الإمام الحسين عليه‌السلام ، وهكذا اقترنت بابن عمّها السجّاد عليه‌السلام فغمرت البيت النبوي بهجةً وسروراً.

ولادتها الإمام الباقر عليه‌السلام :

في يوم الجمعة ـ وقيل : الاثنين أو الثلاثاء ـ من شهر رجب الخير عام ٥٧


للهجرة المباركة وفي المدينة المنوّرة ، غمر بيت الرسالة الطاهر موج من السرور والبهجة احتفاءً بمولد الباقر عليه‌السلام .

لقد استأثر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بتحديد اسم هذا المولود الكريم ولقبه ، كما ورد في رواية الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري رضي‌الله‌عنه حين أخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله :« يُوشك أن تبقىٰ حتىٰ تلقىٰ ولداً لي من الحسين يُقال له ـ
محمّد ـ يبقر علم الدين بقرا ، فإذا لقيته فاقرئه منّي السلام ! »
(١) .

وبناءً علىٰ ذلك فأنّ لقب (الباقر) يعني : المتبحّر بالعلم والمستخرج لغوامضه ولبابه وأسراره والمحيط بفنونه.

محنتها في كربلاء :

لقد كتب علىٰ أُم الإمام الباقر عليه‌السلام فاطمة بنت الإمام الحسن السبط عليه‌السلام بعد ولادة الإمام الباقر عليه‌السلام بنحو أربع سنين أن تعيش مأساة كربلاء بكل تفاصيلها ، إذ كانت عليها‌السلام ضمن الركب المقدّس من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي خرج من المدينة المنوّرة علىٰ أثر ما حصل بعد هلاك طاغية الزمان معاوية بن أبي سفيان ومجيء ابنه اللعين الفاجر إلىٰ السلطة. وهكذا شاهدت في طريقها كل ما شاهده الحسين عليه‌السلام وصولاً إلىٰ كربلاء ، وعاشت تلك اللحظات التي ثقلت وامتدّت كأنها الزمان كلّه ، ورأت مصرع عمّها الحسين ومصارع بقية الشهداء من أهلها عليهم‌السلام وأصحابهم الأطهار ، ثم عانت بعد ذلك ما عانته سائر حرم الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من السبي والاضطهاد ، كل ذلك وهي ترىٰ زوجها العظيم السجّاد عليه‌السلام عليلاً ومكبّلاً بالقيود أسيراً إلىٰ بغي من بغايا آل أمية.

_____________

(١) الإرشاد / المفيد ٢ : ١٥٩ ، ط مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام .


ولا شكّ في أن هذه المأساة قد تركت آثارها علىٰ حياة تلك البطلة المجاهدة ، ولا بدّ وأن تكون قد استلهمت من تلك الواقعة وشخوصها الجهادية المنقطعة النظير ، بل هي الوتر في كل الدهور ، أعظم العبر والدروس في كيفية الدفاع عن الحقّ والاستماتة حتىٰ النفس الأخير في سبيل العقيدة والمبدأ.

فضائلها وكراماتها عليها‌السلام :

امتازت هذه السيدة الجليلة بخصائص وكرامات شأنها شأن تلك السلسلة الذهبية من مطهّرات الأرحام. ومن الأمور الدالّة علىٰ ذلك ، ما قاله الإمام الصادق عليه‌السلام في حقّها : قال :« كانت ممن آمنت واتّقت وأحسنت والله يحبّ
المحسنين »
(١) .

ووصفها عليه‌السلام ذات يوم بقوله :« كانت صدّيقة لم يُدرَك في آل الحسن
مثلها »
(٢) .

وقال ولدها الإمام الباقر عليه‌السلام :« كانت أُمّي قاعدة عند جدار فتصدّع
الجدار ، وسمعنا هدّة شديدة فقالت بيدها : لا وحقّ المصطفىٰ
صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أذن
الله لك في السقوط ، فبقيَ معلّقاً في الجوّ حتىٰ جازته ، فتصدّق أبي عنها
بمائة دينار »
(٣) .

وإذا ما أُضيف إلىٰ هذا سمات البيت الذي تعهدها بالتربية منذ نعومة
أظفارها ، وأي معلم قام بهذا ، سنجد البيت بيت آل محمّد والمعلم سبط
_____________

(١) تواريخ النبي والآل / محمّد تقي التستري : ٩٠.

(٢) دعوات الراوندي : ٦٨ / ١٦٥ ، بحار الأنوار ٤٦ : ٢١٥ / ١٤.

(٣) الكافي / الكليني ١ : ٤٦٩ / ١ ، باب مولد الإمام الباقر عليه‌السلام .


محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا غرو إذن أن تسمو تلك النفس الطاهرة في حسبها ونسبها وأصلها وأرومتها إلىٰ المقام الذي تكون فيه زوجة لمن هو زين العابدين وأُماً لمن هو باقر لعلوم الأولين والآخرين.

وفاتها عليها‌السلام :

لا شكّ أن يوم وفاتها عليها‌السلام كان ثقيلاً علىٰ آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وحزيناً علىٰ سائر المؤمنين ، ومن المؤسف أن ما وصلنا من كتب التاريخ قد أغفل تسجيل هذا اليوم الحزين ، وإن كان المظنون تسجيله فيما فقد من تراث الشيعة وحُرق وتُلف لأسباب سياسية وطائفية التهمت مكتبات شيعية برمّتها.

ومع عدم وجود ما يدلُّ علىٰ تحديد تاريخ وفاتها عليها‌السلام إلّا أنه يمكن القول بأنها لم تعش طويلاً بعد واقعة كربلاء ، حيث ذكروا بأن أولاد الإمام السجّاد عليه‌السلام بلغوا خمسة عشر ولداً ، ولم يذكروا لزين العابدين عليه‌السلام من فاطمة بنت الحسن عليهما‌السلام سوى الإمام الباقر عليه‌السلام ، وأما باقي أولاده فكلهم من أُمهات الأولاد(١) ، وفي هذا ما يشير إلىٰ رحيلها المبكر بعد شهادة خامس أصحاب الكساء عمّها السبط الإمام الحسين عليه‌السلام .

فسلام عليها يوم وُلدت ، ويوم قضت نحبها مجاهدة صابرة ، ويوم تُبعث بإذن الله في الحياة الأُخرىٰ راضية مرضية.

ثالثاً : أُم الإمام الصادق عليه‌السلام

اسمها : هي السيدة فاطمة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر بن أبي قحافة
_____________

(١) الإرشاد / الشيخ المفيد ٢ : ١٥٥ ، باب ذكر أولاد علي بن الحسين عليهم‌السلام .


بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة(١) ، وتُعرف أيضاً باسم : قريبة(٢) ، وهي مخدّرة جليلة ، من ربّات العبادة والورع والزهد ، ومن فواضل نساء عصرها ، صاحبة الإيمان والاعتقاد بأهل البيت عليهم‌السلام سيّما وهي زوج باقر علوم الأولين والآخرين ، وأبو زوجها الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، وابنها ينبوع العلم ومعدن الحكمة جعفر بن محمّد الصادق الأمين.

أبوها : القاسم بن محمّد بن أبي بكر ، وهو أحد الفقهاء السبعة في المدينة المنورة(٣) .

أُمّها : أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر(٤) .

أُختها : للسيدة فاطمة أُخت معروفة بأُم حكيم زوجة إسحاق العريضي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب سلام الله عليهم جميعا ، والتي أنجبت له القاسم وعُرفت فيما بعد بأُم القاسم ، والذي كان أميراً علىٰ اليمن ، وبهذا النسب يكون القاسم رضي‌الله‌عنه والصادق : ابنا خالة ، والقاسم هو والد داود بن القاسم المعروف بأبي هاشم الجعفري من أصحاب الإمام علي الهادي عليه‌السلام (٥) .

كنيتها : أُمّ فروة(٦) .

_____________

(١) بحار الأنوار ٤٧ : ٥ / ١٥.

(٢) في رحاب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام / السيد الأمين ٤ : ٢٩.

(٣) منتهى الآمال / عباس القمي ٢ : ٦٤٢.

(٤) دلائل الإمامة : ٢٤٨.

(٥) مروج الذهب / المسعودي ٤ : ٦٣ بتصرّف.

(٦) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق ١ : ٣٠٧.


زواجها من الإمام الباقر عليه‌السلام :

لقد كانت العلاقات بين الإمام السجّاد عليه‌السلام وبين القاسم بن محمد طيّبة ، فقد تأثّر القاسم بأخلاق أبيه ، وكان بينه وبين الإمام عليه‌السلام نسبة أبناء الخالة ، وأمّا محمد أبوه فقد كان من خوّاص أمير المؤمنين عليه‌السلام وخلّص أصحابه ، بل لقد ربّاه الإمام علي عليه‌السلام ، وأدّبه التربية الإسلامية الصحيحة ، وكان محمد رضي‌الله‌عنه من خيار رجالات الإسلام ، وقد ساعد علىٰ ذلك كون أمّه أسماء بنت عميس من النساء المواليات لأهل البيت عليهم‌السلام .

وهكذا ازدادت أُسرة آل القاسم بن محمّد رضي‌الله‌عنه شرفاً بالتقرّب إلىٰ آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا في الواقع يمثل غاية فخر البكريين جميعاً فيما لو راموا الافتخار.

نعم بارك الله تعالىٰ في هذا الزواج السعيد ، وغمرت الزوجين ألطاف الله عزّوجلّ ، واحتفّ بيتهما الطاهر بدعاء الملائكة المقرّبين ، وجاء منهما من ملأ علمه الخافقين إمام الفقهاء الإمام الصادق عليه‌السلام الذي أقلّ ما قالوا بحقّه أنه :ذو
علم غزير في الدين ، وأدب كامل في الحكمة ، وزهد بالغ في الدنيا ، وورع
تام عن الشهوات
(١) .

ولادتها الإمام الصادق عليه‌السلام :

وَلَدَتْ السيدة الجليلة فاطمة بنت القاسم رضوان الله عليها ، إمامنا الصادق عليه‌السلام في يوم الجمعة ، وقيل : الاثنين من اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأوّل ، لسنة (٨٣) للهجرة المباركة ، في مدينة جدّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو اليوم الذي وُلد فيه جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

_____________

(١) الملل والنحل / الشهرستاني ١ : ١٤٧.


أمّا تسميته بهذا الاسم ، فقد خصّه جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك حيث قال فيه :« إذا ولد ابني جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
فسمّوه بالصادق »
!(١) .

وهكذا حقّ لفاطمة بنت القاسم رضي الله عنها ، أن تفتخر علىٰ لداتها جميعاً بمولودها العظيم الذي غيّر مجرى التاريخ وأقام الإسلام علىٰ أصوله الأولىٰ وأسسه الثابتة التي أوشكت علىٰ الانهيار في ظل البلاطين الأُموي والعباسي.

كراماتها وفضائلها :

كانت السيدة فاطمة بنت القاسم من العارفات الصالحات ، وفي غاية الورع والتقىٰ ، ويكفيها فخراً ما ورد عن ولدها الصادق عليه‌السلام في حقّها :« كانت أُمّي ممن
آمنت واتقت وأحسنت ، والله يحب المحسنين »
(٢) .

وفي إثبات الوصية للمسعودي : كانت السيدة ـ أُم فروة ـ فاطمة بنت القاسم من أتقىٰ نساء زمانها !(٣) . وفي منتهى الآمال : كانت أُم فروة رضي الله عنها في غاية الجلالة والكرامة بحيث كان يُقال لولدها الإمام الصادق عليه‌السلام ابن المكرّمة(٤) .

عن عبد الأعلىٰ قال : رأيت أُم فروة تطوف بالكعبة عليها كساء ، متنكّرة ،
فاستلمت الحجر بيدها اليسرىٰ ، فقال لها رجل ممّن يطوف : يا أمة الله أخطأتِ
_____________

(١) بحار الأنوار ٤٧ : ٣٢ / ٢٩.

(٢) الكافي ١ : ٤٧٢ / ١ باب مولد أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهما‌السلام من كتاب الحجّة.

(٣) إثبات الوصيّة / المسعودي : ١٥٤.

(٤) منتهى الآمال ٢ : ١٩١.


السنّة ! فقالت : إِنّا لأغنياءٌ عن علمك(١) .

وكانت رضي الله تعالىٰ عنها عالمة بالحديث مشغوفة بروايته عن أئمة الهدىٰ عليهم‌السلام ، ومن أحاديثها ما أخرجه بسنده عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن أُمه فاطمة رضي الله عنها عن أبيه الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال لها :« يا أمّ فروة ، إنّي
لأدعو الله لمذنبي شيعتنا في اليوم والليلة ألف مرّة ؛ لأنّا نحن فيما ينوبنا من
الرزايا نصبر علىٰ ما نعلم من الثواب ، وهم يصبرون علىٰ ما لا يعلمون »
(٢) .

كما عدّها البرقي في رجاله من رواة أحاديث الإمام الصادق(٣) .

وفاتها عليها‌السلام :

لم يذكر التاريخ وفاتها رضي الله عنها ، ولا شكّ أنه كان يوماً حزيناً على أهل البيت عليهم‌السلام والأسرة الهاشمية وإمامها الإمام الصادق عليه‌السلام ، وهم يودّعون سيدة من خيرة نساء زمانها ، وأفضلهن وأكرمهن عند الله درجة ، فسلام عليكِ يا زوجة باقر العلوم ، ويا أُم عظيم آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أُستاذ العلماء وإمام الفقهاء الصادق عليه‌السلام ، وصلّى الله عليكِ يوم تزوّجت ، ويوم انجبت ، ويوم رحلت إلىٰ رحمة ربّك ورضوانه قريرة العين راضية بما أعدّ الله تعالىٰ لك من دار لا تفنىٰ ونعيم لا يبلىٰ ، ورحمة الله عليكِ وبركاته.

رابعاً : أُم الامام الكاظم عليه‌السلام

اسمها : هي السيدة حميدة(٤) المصفّاة بنت صاعد الأندلسية ، ويقال : إنّها
_____________

(١) بحار الأنوار ٤٦ : ٣٦٧ / ٩.

(٢) الكافي١ : ٤٧٢ / ١ ، باب مولد أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهما‌السلام من كتاب الحجّة.

(٣) رجال البرقي : ٦٢ ، معجم رجال الحديث / السيد الخوئي ٢٣ : ١٧٩.

(٤) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق ١ : ٣٠٧.


بربرية ، وقيل : إنّها روميّة. والأرجح أنّها أندلسية. وهي من النساء الأشراف الأعاظم ، وكانت تعدّ من التقيّات والورعات والثقات ، وقد اعتنى الإمام الصادق عليه‌السلام بتربيتها وتعليمها وتثقيفها حتىٰ صارت عالمة ، وفقيهة ومربّية ، عُهد إليها تعليم النساء وإرشادهن إلىٰ أحكام الإسلام وعقائده ومفاهيمه وأخلاقه(١) .

لقبها : لؤلؤة(٢) .

زواجها من الإمام الصادق عليه‌السلام :

روي عن عيسىٰ بن عبد الرحمٰن عن أبيه قال : دخل عكاشة بن محصن الأسدي علىٰ الإمام أبي جعفر الباقر ، وكان أبو عبد الله الصادق قائماً عنده ، فقال ابن محصن الأسدي للإمام الباقر عليه‌السلام : اَلّا تُزوّج أبا عبد الله الصادق فقد أدرك التزويج ؟ فقال الباقر عليه‌السلام وبين يديه صرّة مختومة :« سيجيء نخّاس من
أهل البربر ينزل دار ميمون ، فنشتري له بهذه الصرّة جارية »
.

فقال الأسدي : فأتىٰ لذلك ما أتىٰ ، فدخلنا علىٰ أبي جعفر الباقر عليه‌السلام فقال :« ألا أخبركم عن النخاس الذي ذكرته لكم ؟ قد قدم فاذهبوا واشتروا بهذه
الصرّة منه الجارية »
.

قال الأسدي : فأتينا النخاس ، فقال : قد نفذ ما كان عندي إلّا جاريتين
مريضتين إحداهما أمثل من الاُخرىٰ. قلنا : فاخرجهما حتىٰ ننظر إليهما ،
فأخرجهما فقلنا : بكم تبيعنا هذه الجارية المتماثلة ؟ قال : بسبعين ديناراً ، فقلنا له :
_____________

(١) الإمام موسىٰ الكاظم عليه‌السلام : ١٧ ، مؤسسة البلاغ.

(٢) في رحاب أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام / السيد الأمين ٤ : ٨٠.


نشتريها منك بهذه الصرّة ما بلغتْ وما ندري ما فيها !

وكان عنده رجل أبيض الرأس واللحية فقال : فكّوا وزِنوا ؟ فقال النخاس : لا تفكّوا ، فأنها إن نقصت حبّة من سبعين ديناراً لم أبايعكم ! فقال الشيخ : زنوا ، وفككنا الخاتم ووزنا الدنانير ، فإذا هي سبعون ديناراً لا تزيد ولا تنقص ، فأخذنا الجارية فأدخلناها علىٰ الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام وأبو عبد الله الصادق قائم عنده ، فأخبرنا الإمام الباقر بما كان ، فحمد الله وأثنىٰ عليه ثمّ قال لها :« ما
اسمك ؟ »
قالت : حميدة ، فقال الإمام عليه‌السلام :« حميدة في الدنيا ، ومحمودة في
الآخرة ، أخبريني عنك أبكر ، أم ثيب ؟ »
، قالت : بكر ، قال الإمام عليه‌السلام :« كيف ولا يقع في يد النخّاسين شيء إلّا أفسدوه ؟ » .

قالت : « كان يجيء فيقعد مني مقعد الرجل من المرأة ، فيسلط الله عليه رجلاً أبيض الرأس واللحية فلا يزال يلطمه حتىٰ يقوم عنّي فقال : يا جعفر ، خذها إليك ، فولدت خير أهل الأرض موسى بن جعفر عليه‌السلام »(١) .

لقد تزوّجها إمامنا الصادق عليه‌السلام وعاشت في كنفه تنعم بالسعادة والبركة في ظلّ الإمامة الوارف ، تغترف من علم الإمام وتقواه ، وتتزيّن بحلمه وعلمه ، وتتعطّر بكماله وأدبه ، وتفرّدت من بين ضرّاتها بأُمومة إمامنا أبي الحسن الأول موسى الكاظم عليه‌السلام .

ولادتها الإمام الكاظم عليه‌السلام :

نعم ، لقد اقترن الإمام الصادق عليه‌السلام بتلك المخدّرة المباركة ، والتي شاءت
_____________

(١) عوالم الإمام الجواد عليه‌السلام : ٥٣٩ ، واُنظر : الكافي ١ : ٤٧٦ / ١ ، باب مولد أبي
الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام من كتاب الحجّة ، وبحار الأنوار ٤٨ : ٥ / ٥.


الأقدار الإلٰهيّة أن تأتي بها من تلك الديار النائية مصفّاة كسبيكة الذهب ، وأن تنعم في ظلال الإمام الوارف. فكانت مأوىً ومهبطا لذريّتِه الطاهرة.

ومضت الأيّام والشهور ، وعمّت البشرىٰ بيت الإمام بولادة ابنهِ الكاظم عليهما‌السلام ، وذلك في منطقة الأبواء الواقعة بين مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة ، والتي توفّيت فيها جدّتهم الكبرىٰ سيّدة الاُمهات آمنة عليها‌السلام ، وكانت ولادة مولود السيّدة حميدة المصفّاة يوم الأحد المصادف لليوم السابع من شهر صفر المظفر سنة مائة وثمان وعشرين لهجرة الرسول المباركة.

وحينما بُشّر الإمام الصادق بمولوده السعيد حيث كان يتناول طعام الغداء مع جماعة من أصحابه ، تركهم وخفّ لاستقبال مولوده السعيد بفيض من الغبطة والسرور وهالة من الحبّ والحنان الأبوي الكريم.

ولم يقم بعدها طويلاً في منطقة الأبواء ، بل عاد إلىٰ المدينة المنوّرة ، وعلىٰ عادة أجداده الطاهرين عليهم‌السلام في استقبال ولادات أبنائهم ، فقد أوْلَم الإمام ، ودعا الناس ، واحتفىٰ بمولوده الكريم ، وأطعم ضيوفَه الكرام ثلاثة أيام. وقد توافد عليه الناس يهنّئونه بالمولود العظيم ، وهو لا يكتم مشاعر الفرح والاحتفاء بهذا المولود المبارك ويصرّح :« وددت أن ليس لي ولد غيره ، لئلّا
يشركه في حبّي أحد »
(١) .

وقد حدّث أبو بصير بهذا الحدث السعيد قائلاً : كنت مع الإمام أبي عبد الله
في السنة التي ولد فيها ابنه الكاظم ـ موسىٰ عليهما‌السلام ـ فلما نزلنا الأبواء وضع لنا أبو
عبد الله الغداء ولأصحابه ، وأكثره وأطابه ، فبينما نتغدىٰ إذ أتاه رسول السيدة
_____________

(١) حياة الإمام الكاظم عليه‌السلام / باقر شريف القرشي ١ : ٤٦.


حميدة أن الطلق قد ضربني ، وقد أمرتني أن لا أسبقك بابنك هذا. فقام الإمام أبو عبد الله عليه‌السلام فرحاً مسروراً ، فلم يلبث أن عاد إلينا حاسراً عن ذراعيه ضاحكاً سنُّه ! فقلنا له : أضحك الله سنّك ، وأقرّ عينك ، ما صنعت حميدة ؟ فقال الإمام عليه‌السلام :« وهب الله لي غلاما ، وهو خير من برأ الله ، ولقد خبرتني عنه بأمر
كنت أعلم به منها »
.

قلت : جعلت فداك ، وما خبّرتْك عنه حميدة ؟ قال الإمام عليه‌السلام :« ذكرت أنّه
لمّا وقع من بطنها وقع واضعا يديه علىٰ الأرض ، رافعاً رأسه إلىٰ السماء ،
فأخبرتها : أن تلك أمارة رسول الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمارة الإمام من بعده » (١) .

فما أقدس وأعظم هذه المرأة التي كان بطنها الطاهر وعاءً لشخص الإمامة !

كراماتها :

إنّ للسيدة حميدة المصفاة كرامات كثيرة نذكر منها ما يلي :

قال الإمام الباقر عليه‌السلام :« حميدة في الدنيا ، ومحمودة في الآخرة » (٢) .

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام :« حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب ،
ما زالت الأملاك تحرسها حتىٰ أُديت إليّ كرامة من الله لي والحجّة من
بعدي »
(٣) .

وهذه شهادة من المعصوم علىٰ عظمة هذه السيّدة المنيفة رضي الله عنها.

_____________

(١) بحار الأنوار ٤٨ : ٢ / ٢.

(٢) الكافي ١ : ٤٧٧ / ١ باب مولد أبي الحسن موسىٰ بن جعفر عليهما‌السلام من كتاب
الحجّة ، بحار الأنوار ٤٨ : ٥ / ٥.

(٣) الكافي ١ : ٤٧٧ / ٢ من الباب المتقدّم.


جدير بالذكر ، أنّ هذه المرأة الجليلة كانت رضي الله عنها من جملة أوصياء الإمام الصادق عليه‌السلام ، حيث أوصى إمامنا الصادق عليه‌السلام في ساعاته الأخيرة إلى جماعة كانت حميدة رضي الله عنها من جملتهم ، ولم يخصّ عليه‌السلام بوصيّته إمامنا الكاظم عليه‌السلام ، بل جعله ـ بعد إن دلّ على إمامته وأكّدها طيلة حياته الشريفة ـ من جملة الأوصياء ؛ حفاظاً علىٰ سلامته من بطش المنصور العباسي.

وقد تحقّقت نبوءة الإمام عليه‌السلام ؛ إذ أمر المنصور أبا أيوب النحوي أن يكتب إلى عامله في المدينة بشأن وصيّة الإمام الصادق عليه‌السلام ما هذا لفظه : « إن كان أوصى إلى رجل واحد بعينه فقدّمه واضرب عنقه ، قال : فرجع الجواب : أنّه قد أوصى إلى خمسة وأحدهم أبو جعفر المنصور ، ومحمد بن سليمان ، وعبدالله ، وموسى ، وحميدة »(١) .

وفي خبر آخر أنّ المنصور قال بعد ورود الجواب : « ليس إلى قتل هؤلاء سبيل »(٢) .

وفاتها عليها‌السلام :

لم يصل إلينا ذلك اليوم الموجع بفقد حميدة الخير ، حميدة الطهر والعفاف ،
حميدة الآل عليهم‌السلام محمودة السماء. ولكن من خلال ما مرّ في كراماتها وفضائلها ،
يمكن القول بأنها كانت من النسوة المعمّرات ، لأنها أول امرأة يتزوّجها الإمام
الصادق عليه‌السلام وفي سنّ مبكرة من عمره الشريف ، ولا يبعد أن يكون في السنة
الخامسة عشرة من عمره الشريف أو نحو ذلك كما يفهم من لسان الرواية
_____________

(١) أصول الكافي ١ : ٣١٠ / ١٣ باب ٧١ من كتاب الحجّة.

(٢) أصول الكافي ١ : ٣١٠ / ١٤ من الباب السابق.


المتقدمة في زواجه من حميدة عليهما‌السلام . وهذا يعني أنها اقترنت بالإمام الصادق عليه‌السلام في حدود سنة ٩٨ من الهجرة الشريفة ، وبقيت معه في بيته إلىٰ حين رحيله عليه‌السلام إلىٰ جوار ربّه العزيز سنة ١٤٨ه ، وبهذا تكون قد عاشت مع الإمام الصادق عليه‌السلام زهاء خمسين عاماً. وعلى هذا تكون قد أدركت إمامة ولدها الكاظم عليه‌السلام وتوفّت في زمان إمامته رضي الله عنها.

فتحية إكبار وإجلال لك يا زوج الصادق العظيم واُم كاظم الغيظ الصابر المبتلىٰ ، وسلام عليك في أمسك ويومك وغدك.

خامساً : أُم الإمام الرضا عليه‌السلام

اسمها : هي السيدة نجمة(١) من أشراف العجم ، وهي جارية مولّدة ، حيث ولدت في ديار العرب ، ونشأت مع نسائهم وبناتهم ، وتأدّبت بآدابهم.

ومن أسمائها الأخرىٰ : سكن ، وأروىٰ ، وسمانة ، وخيزران المرسية ، وشقراء ، وصقر ، وسكينة النوبيّة ، وشهد ، وسُلافة.

وروي أنّ الإمام الكاظم عليه‌السلام سمّاها (تكتم) حين ملكها ، وهو آخر أسمائها قبل ولادة الإمام الرضا عليه‌السلام ، ولما ولدته عليه‌السلام سمّاها الإمام الكاظم عليه‌السلام (الطاهرة)(٢) .

_____________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة ١ : ٣٠٧.

(٢) راجع : الاختصاص / الشيخ المفيد : ١٩٧ ، كشف الغمّة٢ : ٢٦٧ ، فرق الشيعة /
النوبختي : ٩٦ ، تراجم أعلام النساء / الأعلمي ٢ : ٢٠٧ ، بحار الأنوار ٤٩ : ٣ / ٣
و ٦ / ٧ ، و ٩ : ١٥ و ١٦ ، منتهَى الآمال / عباس القمي ٢ : ٤٠٥.


كنيتها : أُمّ البنين(١) .

قصة مجيئها إلىٰ بيت الإمام الكاظم عليه‌السلام :

شاءت الإرادة الإلهية أن تكون هذه المخدّرة الجليلة قرينة الإمام الكاظم عليه‌السلام ووعاءً لحمل شخص الإمام الرضا عليه‌السلام ، ولكن كيف وصلت هذه المرأة المباركة من ذلك المكان البعيد ؟

روى الشيخ الصدوق بالإسناد عن هشام بن أحمد قال : قال الإمام أبو الحسن الأوّل عليه‌السلام لي :« هل علمت أحداً من أهل المغرب قدم ؟ » قلت : لا. قال الإمام عليه‌السلام :« بلىٰ قد قدم رجل أحمر ، فانطلق بنا » ، وركب وركبنا معه حتى انتهينا إلىٰ الرجل ، فإذا رجل من أهل الغرب معه رقيق ، فقال الإمام له :« أعرض علينا ؟ » فعرض علينا تسع جواري ، ولكنّ الإمام أبوالحسن يقول :« لا حاجة لي فيها » ثمّ قال الإمام له :« أعرض علينا ؟ » قال النخاس : ما عندي شيء ؟ فقال الإمام :« بلى أعرض علينا ؟ » فقال النخاس : لا والله ما عندي إلّا جارية مريضة ، فقال له : ما عليك أن تعرضها ، فأبىٰ عليه ، ثمّ انصرف عليه‌السلام ، ثمّ أرسلني من الغد إليه ، فقال لي :« قل له كم غايتك فيها ؟ فإذا
قال كذا وكذا ، فقل : قد أخذتها »
. فأتيته فقال : ما أريد أن أنقصها من كذا ، فقلت : قد أخذتها ، وهو لك ، فقال : هي لك ، ولكن مَنْ الرجل الذي كان معك بالأمس ؟ فقلت : رجل من بني هاشم ، فقال : من أي بني هاشم ؟ فقلت : من نقبائهم ، فقال النخاس : أريد أكثر منه ؟ فقلت : ما عندي أكثر من هذا !

فقال النخاس : أخبرك عن هذه الوصيفة أني أشتريتها من أقصىٰ بلاد
_____________

(١) بحار الأنوار ٤٩ : ٦ / ٧.


المغرب ، فلقيتني امرأة من أهل الكتاب ، فقالت : ما هي الوصيفة معك ؟ فقلت : اشتريتها لنفسي ، فقالت المرأة الكتابية : ما ينبغي أن تكون هذه الوصيفة عند مثلك ! إنّ هذه الجارية ينبغي أن تكون عند خير أهل الأرض ، فلا تلبث عنده قليلاً حتىٰ تلد منه غلام يدين له شرق الأرض وغربها !(١)

زواجها من الإمام الكاظم عليه‌السلام :

لمّا وصلت السيدة نجمة (تكتم) وصارت في كنف سيدتها حميدة المصفّاة ، ذكرت السيدة حميدة ما رأت فيها من كرامة وهيبة حيث رأت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام فقال لها : يا حميدة ، هبي نجمة لابنك موسىٰ ، فأنّه سيولد له منها خير أهل الأرض ، فوهبتها له(٢) .

ولادتها الإمام الرضا عليه‌السلام :

مضت الأيام والشهور علىٰ زواج الإمام الكاظم عليه‌السلام بالسيدة تكتم ، وقد حملت بوليدها الرضا عليه‌السلام ، وكانت ترىٰ العجب العجاب من حملها المبارك وهو في بطنها ، حيث ذكرت الرواية عن السيدة تكتم ، قولها : لمّا حملتُ بابني (عليٌ) لم أشعر بالحمل ، وكنت أسمع في منامي تسبيحاً وتهليلاً وتمجيداً من بطني فيفزعني ويهولني ، فإذا انتبهت لم أسمع شيئاً ، فلما وضعته وقع علىٰ الأرض واضعاً يديه علىٰ الأرض رافعاً رأسه إلىٰ السماء يحرّك شفتيه كأنّه يتكلّم ، فدخل عليّ أبوه موسى بن جعفر عليهما‌السلام فقال لي :« هنيئاً لك يا نجمة كرامة لك » .

_____________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٤ / ٤ باب ما جاء في أمّ الرضا علي بن موسىٰ عليه‌السلام
واسمها.

(٢) الاختصاص / المفيد : ١٩٦.


فناولته إيّاه في خرقة بيضاء ، فأذّن في أذنه اليمنىٰ ، وأقام في اليسرىٰ ، ودعا بماء الفرات فحنّكه به ، ثمّ ردّه إليّ وقال :« خذيه فإنه بقية الله في أرضه » (١) .

عن محمّد بن زياد قال : سمعت الإمام موسىٰ بن جعفر عليهما‌السلام يقول لمّا ولد الرضا عليه‌السلام :« أن ابني هذا ولد مختونا طاهراً مطهّراً ، وليس من الأئمة أحدٌ
يولد إلّا مختوناً طاهراً مطهراً »
(٢) .

وهنا عمّت الفرحة والبشرىٰ بولادة الإمام الرضا عليه‌السلام ، وكان ذلك في المدينة المنورة في سنة ١٤٨ للهجرة المباركة المصادف ليوم الخميس لاحدىٰ عشرة ليلة خلون من شهر ذي القعدة الحرام ، وذلك بعد وفاة جدّه الإمام الصادق عليه‌السلام بخمس سنين(٣) ، ولقد أجاد الشاعر في مدحها وذرّيتها :

ألا أن خير الناس نفساً ووالداً

ورهطاً وأجداداً عليُّ المعظم

أتتنا به للعلم والحلم ثامناً

إماماً يؤدّي حجّة الله تكتم(٤)

كراماتها :

عند البحث والتنقيب في طيِّات كتب السيرة والتاريخ ، يعلم المتتبّع مدىٰ عظمة هذه السيدة ، وإليك جملة من الروايات المشيرة إلىٰ ذلك :

رُوي عن هارون أنّه قال : إنّ الإمام الكاظم عليه‌السلام عندما اشترىٰ السيدة
_____________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٦ / ٢ باب في ذكر مولد الرضا علي بن موسىٰ عليه‌السلام .

(٢) إكمال الدين وإتمام النعمة ٢ : ٤٣٣ / ١٥.

(٣) الإرشاد ٢ : ٣٠٤.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٣ / ٢ باب ما جاء في أُمّ الرضا علي بن موسىٰ عليه‌السلام
واسمها.


(نجمة) جمع قوماً من أصحابه فقال لهم :« والله ما اشتريت هذه الأمة إلّا بأمر الله
ووحيه ! »

فسُئِل عن ذلك ، فقال :« بينما أنا نائم ، إذ أتاني جدّي وأبي عليهما‌السلام ومعهما
شُقَّة حرير فنشراها ، فإذا هي قميص وفيه صورة هذه الجارية ! فقال جدّي :
يا موسىٰ ، ليكونن من هذه الجارية خير أهل الأرض من بعدك ، ثمّ أمراني
أن اسمّيه عليّاً ، وقالا لي : إنّ الله تعالىٰ يظهر به العدل والرأفة ، طوبىٰ لمن
صدّقه ، وويلٌ لمن عاداه وجحده وعانده
»(١) .

وكانت السيدة نجمة في غاية العبادة والتقىٰ ، وقد دلّت علىٰ ذلك الرواية الواردة عن أُم الإمام الكاظم عليه‌السلام (حميدة) حيث قالت عنها : إنّ نجمة لمّا ولدت الرضا عليه‌السلام كان يرتضع كثيراً ، وكان تامّ الخلقة ، فقالت : أعينوني بمرضعة ، فقيل لها : أَنقص الدر ؟ قالت : لا والله ما نقص ، ولكن عليَّ وردٌ من صلاتي وتسبيحي ، وقد نقص منذ ولدت(٢) .

وبعد ، فقد كانت نجمة رضي الله عنها قرينة لنسمة من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الكاظم عليه‌السلام ، ووعاءً لبضعة من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الرضا عليه‌السلام .

وفاتها عليها‌السلام :

لم نعثر علىٰ تاريخ وفاة أُم الإمام الرضا عليه‌السلام في شيء مما وصل إلينا من كتب
التاريخ ، بيد أنا نقدّر جهادها العظيم وصبرها في حياتها علىٰ المعاناة الكبرىٰ
_____________

(١) إثبات الوصية / المسعودي : ١٧٩.

(٢) بحار الأنوار ٤٩ : ٥ / ٧.


التي عاناها زوجها الحبيب في غيابات السجون وطوامير العتاة المردة من آل بني العباس ، وربما قد تكون قد أثرت تلك المحن والبلايا علىٰ هذه السيدة الجليلة فاختار لها الله عزّوجلّ دار الكرامة والمستقرّ الآمن ، فسلام عليها يوم ولدت ويوم حلّت معظمة في بيوت آل الله ، ويوم أرضعت وليداً من آل الله ، ويوم انتقلت إلىٰ رحمة الله.

قبرها رضي الله عنها :

وأمّا عن مكان قبر أمّ الإمام الرضا عليه‌السلام ، فهو في المدينة المنوّرة ، معلوم ومعروف ، إلّا أنّ الوهّابية البغيضة حاولت طمسه كما حاولت طمس قبور أولياء الله عليهم‌السلام في البقيع الشريف. ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ
يَنقَلِبُونَ
) (١) .

سادساً : أُم الامام الجواد عليه‌السلام

اسمها : هي السيدة خيزران(٢) ، والتي تُعدّ من أفضل نساء زمانها وأكثرهن ورعاً وتقوىً وعبادة وزهداً. ويرجع أصلها إلىٰ أهل بيت مارية القبطية زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما سيأتي في كراماتها.

ومن أسمائها الأخرىٰ : سكن المريسية ، وسبيكة ، وريحانة ، ودرّة(٣) .

_____________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢٢٧.

(٢) إكمال الدين وإتمام النعمة ١ : ٣٠٧ ، التهذيب / الطوسي ٦ : ٩.

(٣) راجع : فرق الشيعة / النوبختي : ١٠٠ ، كشف الغمّة ٢ : ٣٤٥ ، دلائل الإمامة :
٣٩٦ ، الإرشاد ٢ : ٣٥٦ ، الكافي ١ : ٤٩٢ ، باب مولد الجواد عليه‌السلام من كتاب
الحجّة ، في رحاب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ٤ : ١٦٢.


كنيتها : أُم الحسن(١) .

زواجها من الإمام الرضا عليه‌السلام :

عاش الرضا عليه‌السلام وترعرع في كنف إمامة أبيه الكاظم عليه‌السلام حيث بيت النبوّة ، وموضع الرسالـة ، ومختـلف الملائكـة ، ومهبط الوحي ،(٢) واستمرّ ينعم في ظلّـه الوارف إلىٰ أن استدعاه الرشيد في بغداد ، فأوصىٰ له بوصاياه ، وأعطاه مواريث النبوة والإمامة ، ومن تلك الوصايا ؛ ما أوصاه بالزواج من تلك المخدّرة الجليلة (خيزران) حيث أخبره بجلالة أمرها وعظم شأنها ، كيف وهي ستكون زوجته وأم ولده حجّة الله علىٰ خلقه ، وفعلاً تزوّجها فغمرتهما الرحمة الإلهية.

ولادتها الإمام الجواد عليه‌السلام :

اقترن الإمام الرضا عليه‌السلام بهذه السيدة الجليلة ، وأثمر ذلك الاقتران عن بزوغ ثمرة طاهرة وفرع لتلك الشجرة المحمدية المباركة ، وامتداد لسلسلة أهل البيت عليهم‌السلام المطهّرة ، التي قال عنها جلّ ذكره : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا
كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ
* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ
حِينٍ
) (٣) .

وأما ولادته فقد روىٰ ابن شهرآشوب بسنده عن السيدة حكيمة بنت
_____________

(١) دلائل الإمامة : ٣٩٦.

(٢) مفاتيح الجنان : ٥٤٤.

(٣) سورة إبراهيم : ١٤ / ٢٤ ـ ٢٥.


الإمام الكاظم عليه‌السلام أنها قالت : لمّا حضرت ولادة الخيزران أُم أبي جعفر عليه‌السلام دعاني الرضا عليه‌السلام فقال :« يا حكيمة أحضري ولادتها وادخلي وإياها والقابلة
بيتاً »
، ووضع لنا مصباحاً وأغلق الباب علينا ، فلما أخذها الطلق طفئ المصباح وبين يديها طست ، فاغتمت بطفئ المصباح ، فبينا نحن كذلك إذ بَدَرَ أبو جعفر عليه‌السلام في الطست ، وإذا عليه شيء رقيق كهيئة الثوب يسطع نوره حتىٰ أضاء البيت فأبصرناه ، فأخذته فوضعته في حجري ، ونزعت عنه ذلك الغشاء ، فجاء الرضا عليه‌السلام ففتح الباب وقد فرغنا من أمره ، فأخذه ووضعه في المهد وقال لي :« يا حكيمة الزمي مهده » .

قالت : فلمّا كان في اليوم الثالث رفع بصره إلىٰ السماء ، ثمّ نظر يمينه ويساره ، ثمّ قال : « أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أن محمّداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » فقمت ذعرة فزعة ، فأتيت أبا الحسن عليه‌السلام فقلت له : لقد سمعت من هذا الصبي عجباً فقال :« وما ذاك ؟ » فأخبرته الخبر ، فقال :« يا حكيمة ما ترون من عجائبه أكثر » (١) .

أجل لقد كانت السيدة خيزران فَرِحَةٌ بهذا المولود ، وكان الإمام الرضا عليه‌السلام يشاطرها السرور ، فقد كان عليه‌السلام يناغيه طول ليلته في مهده(٢) .

وأما زمان ولادته عليه‌السلام فقد اختلفت الروايات في ذلك ، فقيل : إنّ ولادته
كانت في شهر رمضان المبارك لسبع عشرة ليلة مضت منه ، وقيل : في النصف منه
كوقت ولادة جدّه الإمام الحسن المجتبىٰ عليه‌السلام ، وذكرت رواية أخرىٰ أنّ ولادته
كانت في شهر رجب الأصبّ ، في منتصفه ، أما ابن عيّاش فذكر أن ولادته كانت
_____________

(١) بحار الأنوار ٥٠ : ١٠ / ١٠.

(٢) عيون المعجزات : ١٢١.


في اليوم العاشر من شهر رجب المصادف ليوم الجمعة من سنة ١٩٥ للهجرة المباركة ، وعلىٰ هذا فقد ورد في زيارته في دعاء الناحية المقدسة :« الّٰلهُمَّ إنّي
أسالك بالمولودين في رجب محمّد بن علي الثاني ، وابنه علي بن محمّد
المنتجب »
(١) .

وكان محل ولادته في مدينة جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

كراماتها :

أشارت الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام بفضلها ، موضحَةً عظمتها ، نذكر منها :

ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحقّ ولدها الإمام الجواد عليه‌السلام ، وفيه إشارة صريحة إلىٰ عظمة أُمه عليهما‌السلام ، في حديث جاء فيه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله :« بأبي ابن خيرة الإماء
النوبية الطيّبة الفم المنتجبة الرحم »
(٢) .

وما ورد عن يزيد بن سليط الزيدي عندما التقى الإمام الكاظم في طريق
مكّة المكرّمة ، فقال له الإمام عليه‌السلام :« يا يزيد ، وإذا مررت بهذا الموضع
ولقيته وستلقاه ، فبشّره أنه سيولد له غلام أمين مأمون مبارك ، وسيعلمك
أنّك لقيتني ، فأخبره عند ذلك أن الجارية التي يكون منها هذا الغلام جارية
من أهل بيت مارية جارية رسول الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله أم إبراهيم ، فإن قدرت أن تبلغها _____________

(١) مفاتيح الجنان : ١٣٥ من أدعية شهر رجب.

(٢) الكافي ١ : ٣٢٣ / ١٤ باب الإشارة والنصّ على أبي جعفر الثاني عليه‌السلام من كتاب
الحجّة.


منّي السلام فافعل » (١) .

ولا شكّ في أن طلب الإمام الكاظم عليه‌السلام من يزيد بن سليط أن يبلّغ سلامه عليها ، يكشف عن محاولته عليه‌السلام بتسليط الأضواء علىٰ عظمة وشخصية هذه السيدة الجليلة.

وقال الإمام الرضا عليه‌السلام :« قد ولد لي شبيه موسىٰ بن عمران فالق البحار ،
وشبيه عيسىٰ بن مريم قُدِّستْ أُمٌّ ولدته ، قد خلقت طاهرة مطهّرة »
(٢) .

وقال الإمام العسكري عليه‌السلام في حقّها :« خُلقت طاهرة مطهّرة » (٣) .

وفاتها :

للأسف الشديد إنّ أغلب أُمهات المعصومين عليهم‌السلام لم يصلنا الشيء الكثير عنهنّ ، لا سيّما ما يرتبط بتاريخ وفاتهن ، ومن بين تلك الأُمهات الطاهرات التي غفل التاريخ سنة وفاتها هي السيدة خيزران رضي الله عنها أُم الإمام الجواد عليه‌السلام .

فسلام عليك أيتها الطاهرة المطهّرة ، يوم اقترنت بالرضا من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويوم وَلَدْتِ الجواد من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويوم التقيت عند ربّك بمحمّد وآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

سابعاً : أُم الإمام الهادي عليه‌السلام

اسمها : هي السيدة سمانة(٤) ، كانت من أفضل نساء عصرها حيث لا يوجد
_____________

(١) الكافي ١ : ٣١٥ / ١٤ باب الإشارة والنصّ علىٰ أبي الحسن الرضا عليه‌السلام من كتاب
الحجّة.

(٢) عوالم الإمام الجواد عليه‌السلام : ٢١ ، عيون المعجزات : ١٢١.

(٣) عوالم الإمام الجواد عليه‌السلام : ٢٠.

(٤) الكافي ١ : ٤٩٨ باب مولد أبي الحسن علي بن محمّد عليهما‌السلام ، من كتاب الحجّة ،
الإرشاد ٢ : ٣٠٧ ، إثبات الوصية : ٢٢٠.


لها مثيل في الزهد والتقوىٰ ، وكانت دائمة الصيام والقيام ، كيف وإن الله عزّوجلّ جعلها وعاءً لسرّه المكنون ، فهي زوجة الإمام الجواد وأُم الإمام الهادي ، وكانت تلك السيدة جارية مولدة نشأت في ديار العرب ، فتعلّمت الأدب والمعاشرة من ذلك المجتمع الذي نمت فيه القيم والمثل العليا ومكارم الأخلاق ببركة الإسلام الحنيف.

ومن أسمائها الأخرىٰ : سوسن ، وجمانة ، وغيرها(١) .

كنيتها : أُم الفضل(٢) .

لقبها : السيدة(٣) .

زواجها من الإمام الجواد عليهما‌السلام :

قال محمّد بن الفرج بن إبراهيم بن عبد الله بن جعفر : دعاني الإمام أبو جعفر (الجواد) محمّد بن علي بن موسى عليهم‌السلام ، فأعلمني أن قافلة قدمت فيها نخَّاس ومعه جواري ، ودفع لي سبعين ديناراً ، وأمرني بابتياع جارية وصفها لي ، فمضيت وعملت بما أمرني ، وكانت تلك الجارية أم أبي الحسن الهادي عليه‌السلام ، وروي أنّ اسمها سمانة(٤) .

_____________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة ١ : ٣٠٧ باب ٢٧ ، خبر اللوح ، فرق الشيعة /
النوبختي : ١٠٢ ، عوالم الإمام الجواد عليه‌السلام : ٥٣٩ ، بحار الأنوار ٥٠ : ١١٥ / ٣ باب
تاريخ الإمام أبي الحسن الهادي عليه‌السلام ، باب (٢٩).

(٢) بحار الأنوار ٥٠ : ١١٤ / ٢ ، منتهىٰ الآمال ٢ : ٥١٩.

(٣) دلائل الإمامة : ٤١١.

(٤) دلائل الإمامة : ٤١٠ / ٣٦٨.


وعندما وصلت تلك السيدة الجليلة تزوّجها الإمام الجواد عليه‌السلام ، وعاشت في كنفه ، وهي تغترف من نمير الإمامة ومنهلها العذب رشفات الرحيق المختوم.

ولادتها الإمام الهادي عليه‌السلام :

اقترنت السيدة سمانة المغربية بالإمام الجواد عليه‌السلام ، ومضىٰ علىٰ زواجها المبارك مدّة من الزمن ، فحملت بولدها الهادي عليه‌السلام .

وفي يوم من الأيام المباركة أطلّ علىٰ بيت الإمامة كوكب درّي ، أنار البيت العلوي ، فزاده بهجة وضياءً ، وقد أُضيفت بولادته إلىٰ بيت الرسالة والإمامة ومقرّ الوصية والخلافة شعبة من دوحة النبوة منتضاة مرتضاة ، وثمرة من شجرة الرسالة مجتناة مجتباة.

أما ولادته فقد اختلفت الروايات ، فقد ذكر ابن عياش : أنها كانت في الثاني أو الخامس من شهر رجب الأصب ، فيما ذكرت رواية أخرىٰ : أن ولادته كانت في النصف من شهر ذي الحجّة الحرام من سنة (٢١٢) للهجرة المباركة قرب المدينة المنورة في موضع يقال له : (صريا) أو (صربا)(١) .

كراماتها :

يكفي في جلالة هذه السيدة وعلوّ شأنها وسموّ مقامها ما تحدّثت عنه الرواية
الواردة عن ولدها الإمام الهادي عليه‌السلام والمرويّة عن محمّد بن الفرج وعلي بن
مهزيار : حيث قال عليه‌السلام :« اُمّي عارفة بحقّي ، وهي من أهل الجنّة ، لا يقربها
شيطان مارد ، ولا ينالها كيد جبّار عنيد ، وهي مكلوءة بعين الله التي لا تنام ،
_____________

(١) الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ٢٦٥.


ولا تتخلف عن أُمّهات الصدّيقين والصالحين » (١) .

وفاتها عليها‌السلام :

مرّة أُخرىٰ نلتقي مع التاريخ الذي هضم حقّ الآل وبخسهم حقوقهم في كل شيء حتىٰ قام حماته من الأوغاد علىٰ حرق تراث الشيعة فلم يصلنا منه إلّا النزر القليل ، وهكذا ضاع علينا تاريخ وفاة هذه المرأة الجليلة كما ضاعت تواريخ معظم أُمهات المعصومين عليهم‌السلام .

فسلام عليكِ يا زوجة الجواد ، ويا أُم الهادي ، ويا جدّة العسكري عليهم‌السلام يوم دخلت بيوت آل الله ويوم كنت في لقاء الله وشفاعة آل الله.

ثامناً : أُم الإمام العسكري عليه‌السلام

اسمها : هي السيدة سوسن(٢) ، كانت في نهاية العفّة والصلاح والورع والتقوىٰ ، وفي مقدمة العابدات العارفات في زمانها ، وكانت في بلدها من الأشراف ، وفي مصاف الملوك ، ويكفي في فضلها أنّها كانت مفزعاً وملجأً لشيعة أهل البيت عليهم‌السلام في زمن محنة الشيعة أثناء الغيبة الصغرىٰ للإمام المهدي عجل الله تعالىٰ فرجه الشريف.

ومن أسمائها الأخرىٰ :

_____________

(١) دلائل الإمامة / الطبري الإمامي : ٤١٠ / ٣٦٩ / ٢ طبعة مؤسسة البعثة ـ قم.

(٢) الكافي ١ : ٥٠٣ باب مولد أبي محمّد الحسن بن علي عليهما‌السلام ، كتاب الحجّة ، دلائل
الإمامة : ٢٢٠ ، كشف الغمّة ٢ : ٤١٥ ، بحارالأنوار ٥٠ : ٢٣٦.


حديث ، وحديثة ، وعسفان ، وسليل ، وسمانة(١) ، ولها أسماء أخرىٰ(٢) . إلّا أن أشهر أسمائها : سوسن ، وحديث.

كنيتها : أُم الحسن ، وتعرف أيضاً بأُم أبي محمّد ، كما سيأتي في كراماتها.

لقبها : الجدّة ، ويقصد بهذا اللقب جَدَّة الإمام المهدي أرواحنا فداه ، كما سيأتي ذلك في كراماتها أيضاً.

زواجها من الإمام الهادي عليهما‌السلام :

في مدينة طيبة حيث أعزّ بيوت المجد والشرف ، ذلك بيت النبوّة ، شاءت الإرادة الإلهية أن يجتمع النور بالنور حيث يقدّر الله عزّوجلّ بأن يؤتىٰ بتلك السيدة الجليلة والمخدّرة المنيفة من المنائي البعيدة لتكون زوجة له عليه‌السلام وأمّا لولده العسكري عليه‌السلام فيما بعد ، فهم أصلاب شامخة وأرحام مطهّرة.

ولادتها الإمام العسكري عليه‌السلام :

بعد أن تزوّج الإمام الهادي عليه‌السلام من السيدة سوسن ، عاشت تنعم في كنفه وهي تحظىٰ ببركات الإمامة ، ومضت الأيام والشهور وقد حملت بوليدها ، وفي ربوع المدينة المنورة حيث مهبط الوحي وموطن الملائكة الهداة ومدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، وُلد الإمام العسكري عليه‌السلام في اليوم العاشر من شهر ربيع الثاني ، وقيل في الثامن منه ، وقيل الرابع في سنة ٢٣٢ للهجرة المباركة.

_____________

(١) الكافي ١ : ٥٠٣ من الباب المتقدّم ، التهذيب ٦ : ٩٢ ، فرق الشيعة : ١٠٥ ، إثبات
الوصية : ٢٤٦ ، إكمال الدين وإتمام النعمة ١ : ٣٠٧ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٣٥ / ٢.

(٢) وردت لها رضي الله عنها أسماء أخرىٰ ، وقد جرت العادة علىٰ تغيير إسم
الجواري عند شرائها ، راجع : دلائل الإمامة : ٢٢٠.


خروجها من سامراء إلىٰ المدينة المنورة وعودتها إلىٰ سامراء :

عندما اقتربت وفاة الإمام العسكري عليه‌السلام ، ولعلمه بما سيحدث علىٰ أهل بيته من ظلم واضطهاد ، فلذا طلب من أُمّه وأهله مغادرة (سُرَّ من رأىٰ) لأداء مراسم الحج ، والعيش بعيداً عن أنظار السلطة الجائرة ، ولكي يتفرّغ لترتيب وضع القواعد الشعبية بعد غيبة الإمام المنتظر عجل الله تعالىٰ فرجه الشريف.

روى المسعودي عن أحمد بن إسحاق قال : دخلت علىٰ الإمام العسكري عليه‌السلام فقال :« يا أحمد كيف حالكم فيما كان الناس من الشكّ
والارتياب ؟ »
.

قلت : يا سيدي ، لمّا ورد كتابكم يخبرنا بمولد سيدنا محمّد المهدي عجل الله تعالىٰ فرجه الشريف ، لم يبقَ منا رجلٌ ولا امرأة ولا غلام بلغ الفهم إلّا قال بالحقّ ، فقال الإمام :« أما علمتم أن الأرض لا تخلو من حجّة ! »

ثم طلب الإمام العسكري عليه‌السلام من والدته (السيدة سوسن) أن تحجّ البيت سنة تسع وخمسين ومائتين ، وعرّفها ما يناله في سنة ستين ، وأحضر ولده الإمام المهدي ، فأوصىٰ إليه وسلّم إليه الاسم الأعظم ومواريث الإمامة والسلاح ، ثم خرجت والدته (السيدة سوسن) مع حفيدها الإمام المهدي وأُمه (علىٰ رواية) جميعاً إلىٰ مكّة المكرّمة(١) .

وبعد شهادة الإمام العسكري عليه‌السلام عادت مرّة أُخرىٰ إلىٰ (سُرَّ من رأىٰ) فما
كان من بني العباس إلّا وقد فتّشوا منزل الإمام وعرّضوا عيال الإمام وأهل بيته
إلىٰ أشدّ المضايقات والتنكيل ، وظلّت السيدة (سوسن) صابرة محتسبة
_____________

(١) إثبات الوصية : ٢١٧.


مضطلعة بدورها القيادي والسياسي ، وقد أكّد ذلك الدور المشرق الرواية الواردة عن السيدة حكيمة عليها‌السلام بنت الإمام الجواد عليه‌السلام عندما سألها أحمد بن أبراهيم قائلاً : فإلىٰ من تفزع الشيعة ؟ قالت السيدة حكيمة : إلىٰ الجدّة أُم أبي محمّد عليه‌السلام (١) .

كراماتها :

وردت عدّة روايات تشير إلىٰ تألّق نجم هذه السيدة وعلوّ شأنها.

ومنها : لمّا أُدخلت السيدة أُم العسكري علىٰ الإمام الهادي قال في حقّها :« سليل ، مسلولة من الآفات والعاهات والأرجاس والأنجاس » . ثمّ بشّرها بولادة حفيدها الحجّة المنتظر عجل الله تعالىٰ فرجه الشريف قائلاً لها :« سيهب
الله حجّته علىٰ خلقه يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً »
(٢) .

وفي الخبر الوارد عن أحمد بن إبراهيم حينما سأل السيدة حكيمة خاتون بنت الإمام الجواد عليه‌السلام قال : قلت لها : أين الولد ؟ فقالت : مستور. قلت : إلىٰ من تفزع الشيعة ؟ قالت : إلىٰ الجَدَّة أُم أبي محمّد(٣) .

وجاء في رواية أحمد بن عبيدالله بن يحيىٰ بن خاقان ، وهو من رجال البلاط : أنّ أمّ العسكري عليه‌السلام ادّعت وصيته ، فقسم ميراثه بينها وبين أخيه جعفر ، وثبت ذلك عند القاضي(٤) .

_____________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة ٢ : ٥٠١ / ٢٧.

(٢) إثبات الوصية / المسعودي : ٢٠٧ ، تراجم أعلام النساء / الأعلمي ٢ : ٢١٤.

(٣) تواريخ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والآل / محمد تقي التستري : ٩٤.

(٤) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق ١ : ٤٣ المقدّمة.


وأخبر الإمام العسكري عليه‌السلام والدته بوقت وفاته ، وقد أوصاها بوصايا عدّة ، وقد بقيت هذه المرأة حيّة بعد وفاته عليه‌السلام تدير شؤون شيعة أهل البيت عليهم‌السلام ثمّ ماتت بعده ودفنت بجنب ولدها العسكري عليه‌السلام (١) .

عن محمّد بن صالح قال : لمّا ماتت الجدَّة ـ أم الحسن العسكري ـ أمرت أن تُدفن في الدار ؟ فنازعهم جعفر وقال : لي الدار لا تُدفن فيها ! فخرج الحجّة المنتظر عليه‌السلام فقال :« يا جعفر أدارك هي ؟ » (٢) ثمّ غاب عنه ولم يره بعد ذلك.

تلك إذن كرامات تدلُّ علىٰ عظمة تلك السيدة الجليلة بما تمتاز به من غاية الشرف ومنتهىٰ الفضل ، وهي إحدى الأبواب الواسطة بين الإمام الحجّة المنتظر عليه‌السلام وقواعده الشعبية.

وفاتها عليها‌السلام :

بعد عودتها من المدينة المنورة إلىٰ سامراء وحضورها شهادة ولدها الإمام العسكري عليه‌السلام ، ساءت صحّتها رضي الله عنها ، كما تظهر وصيتها بأن تُدفن بالدار ، أي دار زوجها وابنها العسكريين عليهما‌السلام !(٣)

وأما تحديد تاريخ وفاتها بالضبط فلا سبيل إليه ، ولكن من الثابت أنه كان
في أوائل الغيبة الصغرى لإمام العصر والزمان أرواحنا فداه ، أي بعد وفاة ولدها
الإمام العسكري عليه‌السلام بقليل ، كما يفهم من الرواية المتقدّمة بخصوص معارضة
جعفر في دفنها رضي الله عنها في دار الإمامين الهادي والعسكري عليهما‌السلام طمعاً منه
_____________

(١) إثبات الوصية : ٢١٧ بتصرّف.

(٢) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق ٢ : ٤٤٢ / ١٥.

(٣) إكمال الدين وإتمام النعمة ٢ : ٤٤٢ / ١٥.


بها.

ومهما يكن فإن لأُم أبي محمّد عليه‌السلام دوراً عظيماً قبل وفاتها رضي الله عنها ، إذ كانت الواسطة بين حفيدها العظيم المنقذ وشيعته بعد وفاة زوجها الإمام العسكري عليه‌السلام .

فسلام عليكِ يا زوجة الهادي ، ويا أُم العسكري ، ويا جدّة من سيملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً ، وطبتم وطابت الأرض التي فيها دُفنتم ورزقنا الله شفاعتكم يوم الورود.

تاسعاً : أُم الإمام المهدي عليه‌السلام

اسمها : السيدة المعظّمة نرجس عليها‌السلام (١) بنت ملك الروم.

ومن أسمائها الأخرىٰ : صقيل ، ومليكة ، وريحانة ، وسوسن ، وحكيمة(٢) .

زواجها من الإمام العسكري عليه‌السلام :

إنّ كيفية وصول أُم الإمام المهدي عليه‌السلام (السيدة نرجس) إلىٰ الإمام العسكري عليه‌السلام
كانت عن طريق ابتياعها من قبل بشر بن سليمان النخّاس ، الذي ينتهي نسبه
إلى الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري ، وبأمر من الإمام الهادي عليه‌السلام بعد أن
فقهه في أمر الرقيق ، فكان لا يبتاع ولا يبيع إلّا بإذنه عليه‌السلام ، وهكذا وصلت إلىٰ
بيت الإمام الهادي عليه‌السلام ، وأعطاها إلىٰ أُخته السيدة حكيمة بنت الإمام
_____________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة ١ : ٣٠٧.

(٢) إكمال الدين وإتمام النعمة ٢ : ٤١٧ / ١ ، و ٤٣٢ / ١٢ ، الغيبة / الطوسي : ٢١٠
/ ١٧٨ ، رياحين الشريعة : ٣ ، إحقاق الحقّ / القاضي نور الله التستري ١٣ : ٨٩.


الجواد عليه‌السلام ، قائلاً لها :« يا بنت رسول الله ، خذيها إلىٰ منزلك وعلّميها
الفرائض والسنن ، فإنّها زوجة أبي محمّد واُم القائم »
(١) .

وأما عن اقترانها بالإمام العسكري عليه‌السلام ، فقد ذكرت ذلك روايات عدّة ، ومنها ما اختاره الفيض الكاشاني من رواية ثقة الإسلام ، والشيخ الصدوق ، وشيخ الطائفة وغيرهم من المحدّثين وبأسانيد معتبرة عن السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد عليه‌السلام أنها قالت : كانت لي جارية يقال لها نرجس ، فزارني ابن أخي ـ الإمام العسكري ـ فأقبل يحدّق النظر إليها. فقلت له : يا سيدي لعلّك هويتها ، فأرسلها إليك ؟ فقال :« لا يا عمّة ، لكني أتعجّب منها ، إنا معاشر الأوصياء
لسنا ننظر نظر ريبة ولكنا ننظر تعجّباً ! »
(٢) .

فقلت : وما أعجبك ؟ فقال عليه‌السلام :« سيخرج منها ولد كريم علىٰ الله عزّوجلّ
الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً »
.

فقلت : فأرسلها إليك يا سيدي ؟ فقال عليه‌السلام :« استأذني في ذلك أبي عليه‌السلام » قالت : فلبست ثيابي وأتيت منزل أبي الحسن عليه‌السلام فسلّمت وجلست ، فبدأني عليه‌السلام وقال :« يا حكيمة ابعثي نرجس إلىٰ ابني أبي محمّد » قالت ، قلت : يا سيدي ، علىٰ هذا قصدتك علىٰ أن أستأذنك في ذلك ، فقال لي :« يا مباركة ، إنّ الله تعالىٰ
أحبّ أن يشركك في الأجر ، ويجعل لك في الخير نصيباً »
.

قالت حكيمة : فلم ألبث أن رجعت إلىٰ منزلي ، وزيّنتها ووهبتها لأبي محمّد عليه‌السلام ،
_____________

(١) كتاب الغيبة / الطوسي : ٢١٤ / ١٧٨.

(٢) دلائل الإمامة : ٤٩٩ / ٤٩٠ ، باب معرفة ولاده الإمام الحجّة عليه‌السلام في أية ليلة
وأي شهر وأين ولد ؟


وجمعت بينه وبينها في منزلي ، فأقام عندي أياماً ثمّ مضىٰ إلىٰ والده عليهما‌السلام ، ووجّهت بها معه(١) .

ولادتها الإمام المهدي المنتظر عليه‌السلام :

تزوّج الإمام العسكري عليه‌السلام بالسيدة نرجس عليها‌السلام ، ومضت بهما الأيّام وغمرتهما السعادة الإلهيّة ، وفي أثنائها رحلَ الإمام الهادي عليه‌السلام ، شهيداً مظلوماً إلىٰ بارئه ، فتبوّأَ الإمام العسكري عليه‌السلام منصب الإمامة.

ومضت الأيام والسيدة نرجس في كنف الإمام العسكري عليه‌السلام ، حيث البركات النازلة عليهما صباح مساء ، وما أن حملت بمولودها المبارك حتىٰ غمرتها هالة من النور والجمال ، ولذا سُمّيت صقيل ، وفي أحد الأيام بعث الإمام العسكري عليه‌السلام إلىٰ عمّته حكيمة بنت محمّد بن علي عليه‌السلام . فقال : يا عمّة ، اجعلي إفطارك الليلة عندنا ، فإنّها ليلة النصف من شعبان ، وإنّ الله تبارك وتعالىٰ سيظهر في هذه الليلة الحجّة ، وهو حجّته في أرضه.

قالت : فقلت : ومن أُمّه؟ قال لي :« نرجس » . قلت : جعلت فداك ما بها أثر ؟ فقال :« هو ما أقول لك » .

قالت : فجئت فلما سلّمت وجلست جاءت تنزع خفّي وقالت لي : يا سيدتي كيف أمسيت ؟ فقلت : بل أنت سيدتي وسيدة أهلي ! قالتْ : فأنكرتْ قولي وقالتْ ما هذا يا عمّة ؟ قالتْ : فقلتُ لها : يا بنية إنّ الله سيهب لك في ليلتك هذه غلاماً سيداً في الدنيا والآخرة ، قالت : فخجلتْ واستحيتْ !

_____________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق ٢ : ٤٢٦ / ٢ ، نوادر الأخبار / الفيض
الكاشاني : ٢١٥.


فلمّا أن فرغت من صلاة العشاء الآخرة أفطرت وأخذت مضجعي فرقدت ، فلمّا أن كان في جوف الليل قمت إلىٰ الصلاة ففرغت من صلاتي وهي نائمة ليس بها حادث ، ثمّ جلست معقّبة ، ثمّ اضطجعت ثمّ انتبهت فزعة وهي راقدة ، ثمّ قامت فصلّت ونامت.

قالت حكيمة : وخرجت أتفقّد الفجر ، فإذا أنا بالفجر الأوّل كذنب السرحان وهي نائمة ، فدخلني الشكوك ، فصاح بي أبو محمّد عليه‌السلام من المجلس ، فقال : لا تعجلي يا عمّة ، فهاك الأمر قد قرب. قالت : فجلست وقرأت ألم السجدة ويس ، فبينما أنا كذلك إذ انتبهتْ فزعة فوثبتُ إليها. فقلتُ : اسمُ الله عليك ، ثمّ قلتُ لها : أتحسّين شيئاً ؟ قالت : نعم يا عمّة. فقلت لها : اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلتُ لك.

قالت : فأخذتْني فترة وأخذتْها فترة ، فانتبهتُ بحسّ سيدي ، فكشفتُ الثوب عنه ، فإذا به عليه‌السلام ساجداً يتلقّى الأرض بمساجده ، فضممتُه إليّ ، فإذا أنا به نظيف متنظّف ، فصاح بي أبو محمّد عليه‌السلام :« هلمّي إليّ ابني يا عمّة » .

فجئت به إليه ، فوضع يديه تحت إليتيه وظهره ، ووضع قدميه علىٰ صدره ، ثمّ أدلىٰ لسانه في فيه ، ومرَّ يده علىٰ عينيه ومفاصله ثمّ قال عليه‌السلام :« تكلّم
يا بني »
، فقال :« أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمّداً
رسول الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله » . ثمّ صلّىٰ علىٰ أمير المؤمين وعلىٰ الأئمة عليهم‌السلام إلىٰ أن وقف علىٰ أبيه ثمّ أحجم.

ثمّ قال أبو محمّد العسكري عليه‌السلام :« يا عمّة اذهبي به إلىٰ أُمّه ، ليسلّم عليها ،
وائتني به »
. فذهبت به فسلّم عليها ورددته ، فوضعته في المجلس ، ثمّ قال :« يا عمّة إذا كان يوم السابع فأتينا » .


قالت حكيمة : فلما أصبحت جئت لأسلم علىٰ أبي محمّد عليه‌السلام وكشفت الستر لأتفقّد سيدي عليه‌السلام فلم أره ، فقلت : جعلت فداك ، ما فعل سيدي ؟ فقال :« يا عمّة استودعناه الذي استودعته أُم موسى عليه‌السلام » .

قالت حكيمة : فلما كان في اليوم السابع ، جئت فسلّمت وجلست فقال :« هلمّي إلي ابني » فجئت سيدي عليه‌السلام وهو في الخرقة ، ففعل به كفعلته الاُولىٰ ، ثمّ أدخل لسانه في فيه كأنه يغذيه لبناً أو عسلاً ، ثمّ قال :« تكلّم يا بني » ، فقال :« أشهد أن لا إله إلّا الله » وثنىٰ بالصلاة علىٰ محمّد وعلىٰ أمير المؤمنين وعلىٰ الأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين حتىٰ وقف علىٰ أبيه عليه‌السلام ثمّ تلا هذه الآية :بِسْمِ الله الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ
* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ
فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ
) (١) (٢) .

أمّا وقت ولادته فالمشهور أنها كانت في ليلة الجمعة الخامس عشر من شعبان المعظم من سنة ٢٥٥ للهجرة المباركة(٣) ، وأمّا محل ولادته فمدينة سامراء المقدسة.

وقد استبشر الإمام العسكري عليه‌السلام بمولوده المبارك ، حيث روى الشيخ
الصدوق بالإسناد عن أبي جعفر العمري ، قال : لما ولد السيد عليه‌السلام قال أبو
محمّد عليه‌السلام :« ابعثوا إلىٰ أبي عمرو » ـ يعني عثمان بن سعيد ـ فبعث إليه ، فصار
_____________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٥ ـ ٦.

(٢) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق ٢ : ٤٢٣ / ١.

(٣) المصدر السابق : ٤٣٠.


إليه ، فقال له :« اشتر عشرة آلاف رطل خبز وعشرة آلاف رطل لحم وفرّقه » ـ أحسبه قال : علىٰ بني هاشم ـ ،« وعقّ عنه بكذا وكذا شاة » (١) .

كراماتها عليها‌السلام :

لأُم الإمام المهدي عليه‌السلام كرامات كثيرة وفضائل شتّىٰ ، حيث كانت من أفضل النساء في عقلها ودينها ، وكانت من الورعات التقيّات والصالحات العابدات القانتات ، وكانت في غاية العلم والفقاهة والتبحّر في أحكام الدين ، وللإحاطة في عظمة وكنه هذه المخدّرة الجليلة ينبغي الرجوع إلىٰ بعض الفقرات الواردة في زيارتها حتّىٰ تتجلّىٰ مواصفاتها الرائعة والعالية ، وكيف استودعها ربّ العزّة والجلال لتكون مأوىً للإمام المهدي عليه‌السلام :

« السلام علىٰ والدة الإمام ، والمودعة أسرار الملك العلّام ، والحاملة
لأشرف الأنام ، السلام عليكِ أيتها الصدّيقة المرضيّة ، السلام عليكِ يا شبيهة
أُم موسىٰ ، وابنة حواريّ عيسىٰ ، السلام عليكِ أيتها المنعوتة في الإنجيل ،
المخطوبة من روح الله الأمين ، ومن رغب في وصلتها محمّد
صلى‌الله‌عليه‌وآله سيد
المرسلين ، والمستودعة أسرار ربّ العالمين ، السلام عليكِ وعلىٰ آبائكِ
الحواريين ، السلام عليكِ وعلى بعلك وولدكِ ، السلام عليكِ وعلىٰ روحكِ
وبدنكِ الطاهر »
(٢) .

على أن في زيارتها تلك مقاطع رائعة تكشف عن عظمة هذه المرأة وسمّوها ،
_____________

(١) إكمال الدين وإكمال النعمة ٢ : ٤٣١ / ٦ ، بحار الأنوار ٥١ : ٥ / ٩.

(٢) مفاتيح الجنان / عباس القمي : ٥١٨ ، زيارة أُم القائم عليه‌السلام الواردة عن السيد ابن
طاووس رحمه‌الله .


وها نحن نذكر بعضاً من تلك المقاطع :

« أشهد أنك أحسنت الكفالة ، وأدّيت الأمانة ، واجتهدت في مرضاة الله ،
وصبرت في مرضاة الله ، وحفظت سرّ الله ، وحملت ولي الله ، وبالغت في
حفظ حجّة الله ، ورغبت في وصلة أبناء رسول الله ؛ عارفة بحقّهم مؤمنة
بصدقهم ، معترفة بمنزلتهم ، مستبصرةً بأمرهم ، مشفقة عليهم ، مؤثرة هواهم ،
وأشهد أنكِ مضيت علىٰ بصيرة من أمركِ ، مقتدية بالصالحين ، راضية
مرضية ، نقية زكية ، فرضي الله عنك وأرضاكِ ، وجعل الجنّة منزلكِ ومأواكِ ،
فلقد أولاك من الخيرات ما أولاك ، وأعطاك من الشرف ما به أغناك ، فهنّاك
الله بما منحك من الكرامة وأمراك »
(١) .

لقد أحاطتها رعاية الله عزّوجلّ من قبل وصولها إلىٰ أهل البيت عليهم‌السلام ، ورافقتها العناية الإلهية بحملها الإمام المهدي عليه‌السلام في روايات كثيرة لا حاجة إلىٰ تتبّعها ، ولو لم يكن من فضلها إلّا أنها أُم خاتم الأئمّة عليهم‌السلام ومهدي هذه الأُمة لكفىٰ.

لقد شاءت الإرادة الإلهية لهذه السيدة الجليلة أن تكون أُمّاً لخاتم الأوصياء (عجّل الله تعالىٰ فرجه الشريف) وفقاً لعدّة مقوّمات ، تستفاد من الروايات الواردة في طريقة وصولها إلىٰ بيت الإمام عليه‌السلام منها :

أوّلاً : تمكّنها من اللغة العربية بطلاقة (كما هو معلوم من الخبر).

ثانياً : امتناعها من السفور وتحاشي يد اللامس !

ثالثاً : رفضها أي مشترٍ يتقدّم لشرائها ، وإصرارها علىٰ بائعها في تعيين مشتريها وأن يتمّ بموافقتها ، معلّلةً ذلك بأنها تريد الذي يسكن إليه قلبها.

_____________

(١) مفاتيح الجنان / عباس القمي : ٥١٨ ، زيارة أُم القائم عليه‌السلام .


رابعاً : إنها عليها‌السلام رغبت رغبة شديدة بالإمام العسكري عليه‌السلام ، وبكت بكاءً شديداً عليه ، بل وهدّدت بالانتحار إذا لم يبعها منه !

وفاتها :

إن الصحيح الثابت أنها توفّيت في زمان الغيبة الصغرىٰ لإمام العصر والزمان عليه‌السلام بعد وفاة زوجها الإمام العسكري عليه‌السلام بقليل.

ويدلُّ عليه أنها كانت مع أُم الإمام العسكري عليه‌السلام في المدينة المنورة وعادتا إلىٰ سامراء في الوقت الذي استُشهد فيه الإمام العسكري عليه‌السلام ، وحضرتا جنازته الشريفة ، مع عقيد الخادم(١) .

هذا زيادة على الروايات الكثيرة المصرّحة بالموقف الخسيس الذي وقفه المعتمد العباسي بعد شهادة الإمام العسكري عليه‌السلام ، حيث قبضوا علىٰ السيدة أُم الإمام المهدي عليه‌السلام مُطالبيها تسليم ولدها (المهدي) ، فأنكرته وادّعت أنها حامل لتغطّي (حال ولدها الإمام عليه‌السلام ) وظلّت حبيسة السجن (وهم ملازمون لها) مدّة سنتين أو أكثر حتىٰ تبيّن لهم بطلان حملها ، فقُسّم ميراث الإمام العسكري بعد ثبوته عند قاضي قضاة بني العباس بين أُمه وأخيه جعفر ، وادّعت أمّه وصيّته(٢) .

وظلّت السيدة علىٰ تلك الحال المزرية حتىٰ فوجئ بنو العباس بموت عبيدالله بن يحيىٰ بن خاقان ، وخروج صاحب الزنج في البصرة علىٰ حكمهم ، فشُغلوا عن السيدة ، فخرجت من أيديهم(٣) .

_____________

(١) بحار الأنوار ٥٠ : ٣٣١ / ٣.

(٢) إكمال الدين وإتمام النعمة ١ : ٤٣ ، بتصرّف.

(٣) إكمال الدين وإتمام النعمة ٢ : ٤٧٦ / ٢٥ ، بتصرف.


وأما ما ورد مخالفاً لذلك من أنها تُوفّيت في حياة الإمام العسكري ، وبعد ما ولدت الإمام المهدي عليه‌السلام بقليل ، فهو خبر ضعيف منقول عن جارية أبي علي الخيزراني(١) ، ولا يعوّل عليه.

وأما تحديد تاريخ وفاتها بالضبط ، فلا يمكن الوصول إليه ، ويمكن تقديره بما بعد سنة ٢٦٠ ه ، أي في أوج اضطهاد العباسيين لأسرة الإمام العسكري عليه‌السلام ، وأما مكان دفنها عليها‌السلام ، ففي سامراء إلىٰ جنب زوجها الإمام العسكري عليه‌السلام .

فسلام عليكِ يوم وُلدتِ ويوم اقترنت بالإمام العظيم أبي محمّد الزكيّ الطاهر ، ويوم أنجبتِ المهدي الموعود المنتظر ، ويوم عُذّبت في سبيل الله ، ويوم رحلتِ إلىٰ جوار الله راضية مرضية ورحمة الله تعالىٰ وبركاته.

_____________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة ٢ : ٤٣١ / ٧.


المحتويات

مقدمة المركز ٥

مقدمة المؤلّف ٧

* توطئة في بيان دور المرأة وجهادها في الإسلام ١١

القسم الأول :

أُمهات أصحاب الكساء عليهم‌السلام ١٨

ـ أولاً : أُم خاتم الأنبياء والمرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ١٨

اسمها ١٨

ولادتها ١٨

أسرتها ١٨

أبوها ١٩

جدّها لأبيها ٢٠

جدّتها لأبيها ٢٠

أُمّها ٢٠

جدّتها لأمّها ٢٠

والدة جدّتها لأمّها ٢٠

كراماتها ٢٠

خطوبتها عليها‌السلام ٢٢

عشية زواجها من عبدالله عليهما‌السلام ٢٥

شمائلها وصفاتها عليها‌السلام ٢٦


حملها بسيد الكائنات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ٢٧

وفاة زوجها عليه‌السلام ٢٩

ولادتها سيد الكائنات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ٣٠

تاريخ الولادة الميمونة ٣١

كيفية الولادة المباركة وما رافقها من أحداث ٣١

آمنة تبشّر عبد المطلب بحفيده الجديد ٣٢

بعدما جفّ لبن اليتيم حزناً علىٰ عبدالله ٣٣

رحلتها إلىٰ يثرب ووفاتها عليها‌السلام ٣٤

ـ ثانياً : اُم سيد الأوصياء أمير المؤمنين عليه‌السلام ٣٨

اسمها ٣٨

أبوها ٣٨

أُمّها ٣٨

كراماتها ٣٨

زواجها من أبي طالب عليهما‌السلام ٤١

أولادها ٤٣

ولادتها أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ٤٣

وفاتها وما فعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في تجهيزها ودفنها عليها‌السلام ٤٥

ـ ثالثاً : أُم سيدة نساء العالمين عليهما‌السلام ٤٨

اسمها ٤٨

أبوها ٤٨

جدّها ٤٨

أُمّها ٤٩

جدّتها ٤٩


كنيتها ٤٩

ألقابها ٤٩

فضلها وكرامتها ٥٠

تكامل المسيرة الإيمانية للسيدة خديجة عليها‌السلام ٥٥

تجارة السيدة خديجة عليها‌السلام ٥٨

زواجها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ٦٠

ولادتها الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ٦٥

وفاتها عليها‌السلام ٦٦

ـ رابعاً : أُم السبطين الحسن والحسين عليهم‌السلام ٦٩

أسماؤها وكناها وألقابها عليها‌السلام ٦٩

شمائلها عليها‌السلام ٧٠

ولادتها ٧١

الآيات النازلة في شأنها ٧١

كراماتها وخصائصها ٧٣

خطوبتها عليها‌السلام ٧٧

جهازها عليها‌السلام ، وأثاث بيتها ٧٧

زواجها عليها‌السلام ٧٨

مراسيم الزفاف ٨١

الوليمة ٨٣

دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للعروسين ٨٤

تاريخ الخطبة والزواج ٨٥

أولادها عليها‌السلام ٨٦

الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام يوم وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ٨٦


الأحداث التي جرت علىٰ فاطمة عليها‌السلام بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ٩٠

أسباب مطالبة الزهراء عليها‌السلام بفدك ٩٤

ركائز الثورة الفاطمية ٩٥

الخطبة الاولى ٰ ٩٧

الخطبة الثانية ١٠١

وصية الصديقة فاطمة عليها‌السلام ١٠٣

وفاة الصديقة فاطمة عليها‌السلام ١٠٦

سبب وفاة الصديقة فاطمة عليها‌السلام ١٠٧

دفن الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ١٠٧

محل دفنها عليها‌السلام ١٠٩

تاريخ وفاتها عليها‌السلام ١١٠

أبعاد وصيّة الزهراء عليها‌السلام ١١٠

القسم الثاني :

أُمهات الأئمة المعصومين التسعة من ذرّية الإمام الحسين عليهم‌السلام ١١٢

ـ أولاً : أُم الإمام السجاد زين العابدين عليه‌السلام ١١٢

اسمها ١١٢

تاريخ وصولها إلىٰ المدينة المنورة ١١٣

خطوبتها عليها‌السلام ١١٥

ولادتها الإمام السجاد عليه‌السلام ١١٧

كراماتها ١١٧

وفاتها عليها‌السلام ١١٨


ـ ثانياً : أُمّ الإمام الباقر عليه‌السلام ١١٩

اسمها ونسبها ١١٩

كنيتها ١١٩

زواجها من الامام السجاد عليه‌السلام ١٢٠

ولادتها الإمام الباقر عليه‌السلام ١٢٠

محنتها في كربلاء ١٢١

فضائلها وكراماتها عليها‌السلام ١٢٢

وفاتها عليها‌السلام ١٢٣

ـ ثالثاً : أُم الإمام الصادق عليه‌السلام ١٢٣

اسمها ١٢٣

أبوها ١٢٤

أُمّها ١٢٤

أُختها ١٢٤

كنيتها ١٢٤

زواجها من الإمام الباقر عليه‌السلام ١٢٥

ولادتها الإمام الصادق عليه‌السلام ١٢٥

كراماتها وفضائلها ١٢٦

وفاتها عليها‌السلام ١٢٧

ـ رابعاً : أُم الامام الكاظم عليه‌السلام ١٢٧

اسمها ١٢٧

لقبها ١٢٨

زواجها من الإمام الصادق عليه‌السلام ١٢٨

ولادتها الإمام الكاظم عليه‌السلام ١٢٩


كراماتها ١٣١

وفاتها عليها‌السلام ١٣٢

ـ خامساً : أُم الإمام الرضا عليه‌السلام ١٣٣

اسمها ١٣٣

كنيتها ١٣٤

قصة مجيئها إلىٰ بيت الإمام الكاظم عليه‌السلام ١٣٤

زواجها من الإمام الكاظم عليه‌السلام ١٣٥

ولادتها الإمام الرضا عليه‌السلام ١٣٥

كراماتها ١٣٦

وفاتها عليها‌السلام ١٣٧

قبرها عليها‌السلام ١٣٨

ـ سادساً : أُم الامام الجواد عليه‌السلام ١٣٨

اسمها ١٣٨

كنيتها ١٣٩

زواجها من الإمام الرضا عليه‌السلام ١٣٩

ولادتها الإمام الجواد عليه‌السلام ١٣٩

كراماتها ١٤١

وفاتها ١٤٢

ـ سابعاً : أُم الإمام الهادي عليه‌السلام ١٤٢

اسمها ١٤٢

كنيتها ١٤٣

لقبها ١٤٣

زواجها من الإمام الجواد عليهما‌السلام ١٤٣


ولادتها الإمام الهادي عليه‌السلام ١٤٤

كراماتها ١٤٤

وفاتها عليها‌السلام ١٤٥

ـ ثامناً : أُم الإمام العسكري عليه‌السلام ١٤٥

اسمها ١٤٥

كنيتها ١٤٦

لقبها ١٤٦

زواجها من الإمام الهادي عليهما‌السلام ١٤٦

ولادتها الإمام العسكري عليه‌السلام ١٤٦

خروجها من سامراء إلىٰ المدينة المنورة وعودتها إلىٰ سامراء ١٤٧

كراماتها ١٤٨

وفاتها عليها‌السلام ١٤٩

ـ تاسعاً : أُم الإمام المهدي عليه‌السلام ١٥٠

اسمها ١٥٠

زواجها من الإمام العسكري عليه‌السلام ١٥٠

ولادتها الإمام المهدي المنتظر عليه‌السلام ١٥٢

كراماتها عليها‌السلام ١٥٥

وفاتها ١٥٧

المحتويات ١٥٩