عاشوراء فى الفكر الازهرى
خطبة الجمعة التاريخية التى ألقاها الفقيد الراحل الشيخ عبدالحميد كشک بمناسبة يوم عاشورا و ذكري إستشهاد أبى الاحرار أباعبدالله الحسين بن على (ع ) فى مسجد السيدة زينب (ع) فى القاهرة فى نهاية الستينيات من القرن الماضى حيث كان لها الصدأ الكبير و الهام.. و من أجل توعية الجيل الحاضر بمبادئ ثورة الحسين (ع) ارتأينا نشر هذه الخطبة القيمة راجين من الله القبول.
اللهم و علي الايمان الكامل، و الكتاب و السنة توفنا و انت راضى عنا، و أشهدُ أَنَّ لا إله إلاّ الله إذا جمع الله ألاوّلين و الاخرين لميقاتٍ يومٍ معلوم، نادي منادى من قبل الله تعالي: يا اهل الموقف هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الّذي كنتم به تكذبون. أيّها المظلوم تقدم، أيّها الظالم لاتتكلم... إبن آدم أَمّا والله لو علِم ألانام لِما خَلقوا ولما غفروا و ناموا
حياةٌ ثُم موتٌ ثُم بعثٌ وميزانٌٌ وأهوالٌ جسام
و نحنُ إذا أُمرنا أو نُهينا كأهل الكهف أيقاظاً نيام
و أشهد أنا سيدُنا و نبينا و عظيمنا و حبيبنا محمد رسول الله يُنادى علي الامة فيقول كلُكم يدخل الجنّة إلاّ من أبا. قالوا و من يأبا يا رسول الله؟ قال الحبيب المصطفي من اطاعنى دخلَ الجنّة و من عصانى فقدَ أبا. سيدى أباالقاسم يا رسول الله. أكرم َ بخلق نبي زانهُ خُلُق بالحلم مُتصف بالحُسن متسمّ. كأنّهُ و هو فردٌ فى جلالتهِ فى عسكرٍ حين تلقاهُ و فى حشم. صلّي عليک الله يا عَلَم الهدي. ما هبت النسائم و ما ناحت علي الايک الحمائم. أما بعدُ فيا حُمات الاسلام و حرّاس العقيدة. بعد غدٍ يطالُعنا يوم عاشوراء. و ما عاشوراء؟ إننى مع الدرسُ الخامس و الخمسين و المئه أقول لِحضراتكم إنّ للِتاريخ أيّاماً يقفُ فيها مرفوع الرأس مُشرأبُّ العنق عالى الهامة و إنّ للاسلام أيّاماً كتبت بحروفٍ من نور علي صُفحاتٍ من ذهب. يوم عاشوراء هو يوم النجاة و يوم الجهاد. أماّ يوم النُجاة فهو يومٍ نجّي الله فيه موسي من فرعون فصامهُ موسي و صامته بنو اسرائيل من بعده. و قال النبىّ محمد (ص) لِبني اسرائيل أنا أولي بموسي منكم فصامه الحبيبُ المصطفي. هذا يوم النجاة أمّا يوم الجهاد. فقد كان ذلک بعد وفاة النبى بخمسين عاماً. بعدما لحق الحبيب المصطفي بالرفيق إلاعلي، و مضي علي ذلک خمسون عاماً. كان يوم عاشوراء يوم الجهاد الحق، و كيف كان ذلک كذلک؟ لكى أبدأ المسئلة من أولها، اسمحو لي أيّها الاخوة أن أذهب بكم الآن الي دار عبدالله بن عباس أستيقض بن عباس ذات صباح. فقال: انا لله و إنّا اليه راجعون، كلمةٌ خطيرة ... يقال: إذا اشتدَّ البلاءُ و أحتدم الخطبُ و إذ لهمت الاُمور. فقال لهُ أهل بيته خيراً يا إبن عباس؟ فقال ابنُ عباس لقد رأيت رسول الله (ص) فى المنام (و النبّى يقول من رآني فى المنام فقد رآني حقّاً، فإنَّ الشيطان لايتمثل فى صورتي) فأعطاني زجاجةً مليئة بالدم و قال لي يا أبن عباس هذا هو دمُ الحسين (ع) و اصحابه، دم الحسين! من الحسين؟ ابن فاطمة؟ و من فاطمة؟ ريحانة رسول الله؟ فاطمة! هذا دمُ ابنها؟ نعم ... و من أي الاخبار و من أي وكالاتٍ الانباءٍ جئتُ بهذا النبأ المُفجع يابن عباس؟ من رسول الله! ماذا حدث؟ أِي هولٍ حدث؟ إنَّ فاطمة (ع) لُقّبت بالزهراء لانّ الله لم ينزل عليها دمُ الحيض طول حياتها، إمرأتان فى التّاريخ أعفاهم الله من دَّمُ الحيض مريم البتول و فاطمة الزهراء. ولدت الحسين بعد المغربِ فقامت و أغتسلت و صلّت العشاء. أي مأساة؟ أي فجيعةٍ حدثت يوم العاشر من المحرم فى العام الحادي و الستين من الهجرة؟ الزمان، بعد وفات النّبىُّ بخمسين سنة. المكان، العراق... بالقرب من نهر الفرات.
و من هنا استطيعُ أن انطلق بحضراتكم بعد ما امسكتُ بالطَّرف الاول من خيط المأساة. تعالوا لنتحرک مع وفد الحسين، الحسين الآن يغادرُ المدينة المنورة، مدينة جدّه ... جدّه الذي قال حسين منّى و انا من حسين أحَبّ الله من أحبَّ حسيناً.
فتيً كان عذب الروح لامن غظاظةً و لكن كبراً أن يقال به كبرُ
فَتيً مات بين الطعنِ و الضرب ميتةً تقومُ ما قام النّصرُ لو فاتهُ النّصرُ
و ما مات، حتّي مات مضرب سيفه من الطعن و أعتّلت عليه القنا السُّمَّر
تردّيَ ثيابَ الموت حُمرا فما دَجي لها الليلُ إلا و هي من سُندُس خُضرٌ
يا حُسين عليک سلام الله وقفاً فإني رأيتُ الكريمُ الحُرَّ ليسَ لهُ أُمرٌ
إذا شجراتِ العُرفِ جُلت اوصوله ففى أي فَرعٌ يوجد الورقُ النظر
إننى عندما ازور بكم الآن الحسين و زينب، فلاازورُهما إلاّ لانظر إليهما نظَرةً عاليةً تناطحُ الجوزاء و تزاحمُ الشمسُ فى الجلاء أزور الحسينَ علي أنّهُ جَهاد و عقيده و أزور زينب علي أنّها عقيدةٌ و جهاد، و إذا أُصيبَ المُسلمون بالافلاس الفكري، رُزقُوا الجَدَل و مُنِعَوا العمل! أنا لاأُريدُ أنَّ أطوف فى أُمورٍ اُجنِّحُ بها فى خيالٍ عقيم. أنا لو زُرتُک يا بن بنت رسول الله إنّما أزورُک لالتَمِسُ منک العبرة، و إذا ما زُرتُكي يا زينبٌ، يا من يوم ولدتى و قيلَ لابيک سمّها، قال والله لااسبَقُ رسول الله بتسميتها. فلمّا ذهب إلي النبي و قال لهُ يا رسول الله لقد رُزقتُ بِأُنثي فسمّها فقالُ: الحبيبُ المصطفي ما كنتُ لاسبقَ الله بتسميتها، و إذا بالامين جبريل ينزل علي الحبيب المُصطفي و يقولُ لهُ يا رسول الله، السّلامُ يقرُئک السَّلام و يقول لک سَّمها زينب، الله، اسمٌ كريم، فهو الكريمُ ابن الكريم و جدّهُ خير الانام و سيد الشفعاء، تحَرّک الحسين مع اثنين و سبعين من آل بيت المُصطفي فأخذَ أولادهُ جميعهم، أخذَ علي و أبابكر و القاسم. و أخذ أولاده و أخذ إخوتهِ و أخذَ أولاد إخوتهِ و تحرک إلي بلاد العراق ليُقاومَ ظُلم يزيد و بن زياد. عندما أتكلمُ عنِ الحسين أشعرُ بأنَّ جسمي تنتابُه رعدةٌ شديدة و كأنِّي أقفُ فى و هدةٍ سحيقة و أطيلُ بناظري إلي قمَّةٍ شمَّاء تنخلعُ الرقاب عند ضراعة. عندما انتقلُ إلي الحسين، و عندما أذهبُ إلي كربلا، و كانت كربلا كربٌ و بلاءً. إنني عندما أُخاطبُ الحسين فإنما أنظر إلي آُستاذٍ كبيرٍ يتربع علي منصَّةِ التضحية حيثُ آل بيته يعانقونَ المنايا و يفتحونَ أذرعتهم يستقبلونَ الموت و يبيعونَ الارواح فى أسواق الموت، بثمنٍ هوَ الجنَّة، و الآن يمرُّ الحسين علي قبر المصطفي و يقرئهُ السلام و يذهَبَ متوجهً إلي مكة و يطوف بالبيت الحرام و كأنَّ النخيلَ يودَّعَهُ و يقرءهُ السّلام فى المدينة و يتوجهُ الحسينُ بعد ذلک إلي بلاد العراق، و ما أدراک ما بلاد العراق؟ ذهب الحسين إليهم بعد ما ارسلوا اليه بالبيعة، بايعوه علي أن يكونَ إماماً بَدَلَ يزيدُ الطاغيه و لكنَّ الحسينُ فى أثناء سَيره عندما ذَهَبَ ليأخُذَ عليهمُ البيعة قابلهُ رجلٌ إسمُهُ "الفرزدق"، فقال لهُ الحسين من أين يا فرَزدَق؟ قال: من العراق، قال الحسين: فكيفَ حالُ النّاس هناک؟ فماذا قال لهُ الفرزدق، إسمعوا ما قال كلمةٌ موجزة و لكنها تعطي التعبير كلّه. قال لهُ يابن بنت رسول الله قلوب النّاس معک و لكنّ سيوفهم عليک! ماذا حدث؟ قلوب النّاس مَعَک هذا أمرٌ لا جدالَ فيه فهو ابن بنت النّبي، هو الامامُ العادل، هو ابنُ علي و لكنَّ سيوفهم عليک! آهٍ من لكنَّ! و آهٍ مما بعدها، لكن و لكنَّ حرف استدراک يُفيدُ تعقيبُ الكلام بِنَفي ما يتوهَم ثبوته أو إثبات ما يتَوَهم نَفيهُ. قلوب النّاس معک حقيقة، لكنّ سيوفهُم عليک، كلمةُ مُرّه من الّذي حدث؟ لقد أرسلوا إلى يبايعُوننى فكيفَ تحوّلت أيديهم إلي سيوفٍ بتارة؟ نعم! إنَّ يزيد و بن زياد إشتروا النفوس بالمال و ليس معَ الحسينُ مال، و آهٍ مِنَ المال لهُ سحرُ فللدنانير بريقها و للدراهم رَنينُها. آهٍ منَ المال!
فصاحة ُ حسَّان ٍ و خط بن مقلةٍ و حكمة لُقمان و زُهد ابن أدهمِ
لو أجتَمَعوا فى ألمرء و المرءُ مفلسٌ و نادوا عليه لايباعُ به دُرهم
إشتري يزيد النّاس بالمال، إشتري يزيد وَ عاملهُ علي الكوفة بنُ زياد و كلاهما شرٌّ من الآخر إشتريا النّاس بالمال و ذَهَب الحسين إلي الميدان و لم يَجدُ معه إلاّ اهل بيت رسول الله (ص) لكنّ الحقّ هو الحق، الحقُ لايتعدد فماذا بعد الحق إلاّ الظلال، إن الحسين لابُدَّ أنّ يخوض معركة الشّرف ولابدّ إنّ يخوض معركة العزّه ولابدّ ان يقاوم الظُلمَ أي كان نوعه. و نزلَوا فى مكانٌ إسمُهُ كربلاء بالقرب من النهر الفرات. و اقتربت الايّام و تحركت أثقل من الجبال. و جاء يوم العاشر من المحرم و فى العام الحادي و الستين منَ الهجرة، كان الحسين علي رأس جيش تعدادهُ إثنان و سبعون و كان ابنُ زيادٍ القائدُ العامُ لقوات يزيد علي رأسِ جيشٍ تعداده أربَعة آلاف ذئب!! إثنان سبعون فيهم الآطفال و النساء! فيهم زينب بنت علي، فيهم زينبٌ بطلةُ كربلاء. إقرأوا التاريخ وقفوا عند أيام الله! إنّ يوم عاشوراء يومٌ من ايّام الله، يومٌ فاضت فيه أرواح آل بيت رسول الله فى كربلاء! و بات الحسين ليلة عاشوراء يجّهز للمعركة و كان الحسين نبيلاً، و كان جليلاً، كان انساناً فاضلاً، إجتمع بقومه و التقي بآل بيته و جمع الجيشُ الّذي معه قبل المعركة بليلة، و قال لهم يا آل بيت النّبي إنّ القوم لايريد أحَدَ منكم إنّما يُريدوننى أنا فمن أراد منكم أن يرجع إلي المدينة سالماً فَوالله الّذى لا إله الا غيرُه لقد أذنتُ لكم بالرجوع جميعاً! و َدَعونى وحدى، لک الله! لک الله يا اباعبدالله! لک الله يابن فاطمة لک الله مع أهل العراق يا ابن فاطمة الّذين خانوک و بأيديهم قتلوک، إنها ليلة، إنها ليلةُ لاتنسي فى التاريخ، قال الحسين لصحبه إرجعوا سالمين فى جنحِ اللّيل فإنَّ القوم لايريدونَ إلاّ أنا و سأظلُّ مستمسكاً بسيفى مادام سيفى فى يدى، إرجعوا، و عند إذن سمع للقوم ضجيجاً و عويلا و قالوا لانتركک وحدک يابن بنت رسول الله ماذا نقولُ للرسول يوم القيامة لو تركناک وحدک؟ نحن معک يا حسين .... قالوا هذه الكلمة و هم يعلمون علم اليقين أنّ بينهم و بين دخول الجنّة ليلةً واحدة. ليلة إذا ولّت أدبارُها - فتحت الجنّةُ أبوابها. و أشرق الصباح و وقف جيشُ ابن زيادٍ أمير الكوفه، وقف علي مقربةٍ من جيش الحسين، أن الحسين لم يكن علي رأس جيشٍ، بل إنّما كان علي رأس كوكبةٍ منَ الملائكة و وقف قائد الجيش، أمام الحسين و قبل أن ينزلَ الحسين المعركة بلحظات أخَذَتهُ غفوة، فنام و كانت بجانبه زينب، أُخته، فلمّا أستيقظَ من النوم قال لهُا يا زينبُ لقد رأيتُ رسول الله (ص) الآن فى المنام و قال لي يا حُسين إنک عما قليلٌ ستكون عندنا، عندنا أين؟ و هل يسألُ عن العنديّةُ. إذا كانت عند رسول الله؟ عندنا من فمِّ رسول الله يعنى فى الجنّة، لكن زينب بكت، بكت لانها منذُ سنواتٍ فقدت آُمها فاطمة و تركتها فاطمة عندها من العمر خمس سنوات، و بعد ذلک فقدت أباها عليُّاً شهيداً وهو يصلّي الفجر بالمسلمين فى كوفةِ العراق، و بعد ذلک فقدت الحسنُ أخاها بعد ما دسَّ لهُ سمُّ و مات مسموماً، و هى الآن، و بعد قليل ستفقّدُ البقيةُ الباقية لها و هو الحسينُ الغالى، يا للفجيعة!! أنا لاأجدُ تعبيراً يسعفنى الآن عن زينب و لكن يكفى أن أقول إنّها جبلٌ من جبال الصَّبر، يا زينب إننى عمّا قليلٍ سأكون عند رسول الله، و علمت زينب بأنَّ الحُسين سيسبُقها إلي الدار الآخرة، و دارت رحي الحرب، و أخذَ أصحاب الحسين، لاأقولُ يسقطون علي الارض، أستغفر الله، إنّما اقول يصعدون إلي الفردوس الاعلي. وقف ابنه علي، على بن الحسين، و كان شاباً فى زهرةٍ العمر لمّا رأي السهام تناولت أباهُ من كل جانب، وقفَ يدفَع السهام عن أبيه بصبر حتّي خرَّ بين يدى أبيه شهيداً، و حمل الحسين ابنه إلي خيمة زينب لِتستقبلُ إبن أخيها الشهيد. أبَعدَ هذا البلاءُ بلاء؟ أبَعدَ هذا الصبرُ صبر؟ قائدٌ يحملُ جثمان إبنه و المعركةُ فى شدّةِ حرارتِها و قد دّارت رَحاها بعنف، صمتت الالسنةُ و نطقت الاسِّنة و خطّبت السيوفُ علي منابرُ الرقابِ. الحسينُ يحملُ عليُّاً إبنه يحملُ ابنه فى زهرة شبابه و ميعة صباه، يحملُ غصناً أخضر، نبّياً، عبداً طريّاً. تسيلُ دمائه يحملُه إلي زينب لِتستقبلهُ زينب. و إذا بالقاسمُ إبن الحسن، و كان فى سن الصبي، يُنادى علي عمه ياعماه لقد أشتدّ بى العطش لقد بلغ من لئمَ القوم أنّهم منعوا الماء عن الحسين و القاسمُ ينادى و هو عطشان و يردُّ عليه الحسين و يقول له يا قاسم يعزُّ علي عمک أن تناديه فلايردُّ عليک، فى يوم قل ناصروه و كثر عاثره، يا قاسمُ تحملُ قليلاً سنشربُ من حوض رسول الله.
أيّها الاخوة الاعزاء: إنّ الموقف لاتشرحهُ العبارة. و لايعبّر عنه البيان و لا اللسان و لا الجنان و لا البَنان. ولو أننى أُوتيت سحر البيان الّذى تخرُّ لهُ العمالقة، و منحت ريشةً من الجنّة و أعطيت قُدرة التصوير علي التعبير، مأستطعتُ أن أصف هذا المشهدَ الرهيب! يوم عاشوراء، يوم كربلاء. الحسين بن علي يموت عطشان و امواج الفرات تتكسر بجانبه تترقرق أمواج:
تموت الاسد فى الغابات جوعاً و لحمُ الظأن يُرمي لِلكلاب
و ذو جهلٍ ينامُ علي حريرِ و ذو علمٍ ينامُ علي التراب
إنَّها الدنيا، الحسينُ لايجدُ قطرات ماء يسقى القاسم و نهر الفرات تَحنُّ أمواجهُ إلي الشاطئ، و أهل العراق يصنعون جداراً بشريّاً يحولُ بينه و بين الماء! أي بلاءٍ هذا؟ بل أي مصيبةٍ تلک؟ و أخذ من حول الحسين يصعدون بالارواح شُهداء، حيثُ أعلنتُ الجنَّة حالة الطوارئ و أعدَّت الاسِّرَّةِ الخضراء ولم يبقي فى الموقف إلاّ الحسين وحده، الحسين أمام أربعة ألاف أبعد هذه الشجاعة، شجاعةُ؟ إنَّهُ ابن على! إنّهُ ورث الشجاعةُ كابراً عن كابر، إنّه سليلُ بيتٍ قدّم الشُهداء، إنّه سليل بيتٍ علي رأسهِ محمدٌ بطل الانبياء إنّهُ من النَبع ِ الطاهر و العترة الصافيه، إنّهُ إبن فاطمة، فاطمةُ التى قال عنها أبوها: رضي فاطمةُ من رضاى و سخطُها من سخطى، من أرضي فاطمة فقد أرضانى و من أسخطها فقد أسخطنى.
معاشرة السادة، الميدان الآن مع الحسين وحده، و حولهُ أربعةُ آلاف ذئبً هنا مدرسةُ محمد (ص). يقولُ فيها الحبيبُ المصطفي البرُّ لايبلي و الذَّنبُ لايُنسي و الدّيّانُ لايموت. الدّيان لايموت، إعمل ما شئت كما تدينُ تدان:
و كم من جبالٍ قد علَت شُرَفاتها رجال ٌ فزالوا و الجبالُ، جبالُ.
كل إبن آدم خطّاءٌ وخير الخطّائينَ التوّابون
نحنُ الآن فى ميدان كربلاء، الحسينُ علي فُرُس الجهاد و زينبُ تنظر الآن إلي أخيها و رماحُ أربعة الآفٍ تصوبُ حول جسمه الطاهر الحسينُ يقاتل إلي آخر رمق، إلي أن سقط عن فرسه، البطل الآن مُسجّيً و مضرج فى دماءه، البطل الآن ينام علي الارض و كان يومها يلبسُ جبّة رسول الله (ص) كان يومُها يلبس أثواب جدّه، البطل الآن ينام علي أرض كربلاء و أهل العراق لم يكتفوا بهذا، زينب الآن تنظرُ و لاتملک من الامرُ شيئا، أخوها تتَفجّرُ الدماءُ من جسَده، لايِجد من يبلّ شفتيه بقطرات ماءٍ. ولم يكتف القوم بهذا!!! إلاّ اللئيمَ، لئيم، و لكنَّ الحسين هو الحسين مازاده الامر إلاّ إيماناً و تسليماً:
إنّ الجواهرُ فى الترابِ جواهرٌ و الاسد فِى قفصُ الحبيب أسود
السَّبعُ سبع و إن كلّت مخالِبُهُ و الكلبُ كلبٌ و إن قلدّته الذهبا
و بين زينب و الحسين خطوات، لكنّها لاتستطيعُ أن تخطوه، وقد طعن مئة و ثمانين طعنة، ما بين ضربةٍ بسيفِ و طعنةٍ برُمح و رميةٍ بسهم. ماذا يُريدُ القومُ منه؟ وقد تمزقت ثيابه وقد تفجّرت الدماءُ من جسده الشريف، فماذا يريدُ القوم؟ يُريدون أن يفصلوا الرأس الشريف عن الجسد!! هكذا إقتضت الاوامرُ العسكريةُ من قيادة إبن زياد، من قيادة اللئيم، من قيادة الفاسق الفاجر، هكذا لايكتفُى الباطلٌ إلاّ أن يشربَ الدماء و يمتصَ العروق. إنّهم أن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى ملتهم. هكذا يريدُ الباطل، و أقدم أحدهم علي الرأس الشريف ليقطعها فأرتجفت يداهُ فلم يقدر و رَجعَ، الرأس، أي رأسٍ هذا؟ رأسٌ وضع فى حجر المصطفى، رأسُ قبّلهُ المصطفي فى فمّه، رأسٌ كان يتألّق نوراً و رحمة، رأس من هذا الذى تريدون أن تقطعوه؟ و توافد القوم علي الرأس ليفصلوها و القلوبٌ ترتجفُ، و عند إذن إنبعث أَشقاها، رَجلُ يُسمُي "شمرَ بنَ ذى الجوشن" الله أعلم أنّ كان يهودياً أو كان كافراً لكنّه وضعَ الشهادتينِ عنواناً زائفاً:
كالقبر حفّتهُ الزهورَ اوتحتُهُ عسلٌ دفينُ
إذا بشمّرَ يأتى علي الرأس و يفصلهُا بسيفه لتحملُ إلي إبن زياد فى مدينة الكوفة، و زينبُ بعينها تراه، لكم الله يا آل بيت المصطفي، فصل الرأس و لم يكتف القوم بهذا، إنّ الّذين فعلوا هذه الافعال لايمكن ُ أن نحكمُ علي قلوبهم إلاّ إنّها كالحجارة، أستغفروا الله إننى أظلمُ الحجارة عندما اُشبه بها القلوبَ بها، و من الحجارة لما يتفجّر منهُ الانهار، و إن منها لما يشققُ و يخرج منها الماء و إنّ منها لما يهبطُ من خشيةِ الله و لكن ماذا؟ فصل ُالرأس و أسرت النساء وقعت زينبُ أسيرةً مع بقيّة النساء، و رأس بن بنت المصطفي محمولٌ إلي قصر بن زيادٍ فى الكوفة! إنّ فى قصة الحسين مآسى، هذه المآسي، لاتشرحُها العبارات. و أخذت زينب و من معها إلي قصر بن زياد يتقدّمهم الرأس الشريف! فماذا عن الجسد؟ هل ترک الجسد هكذا؟ ينام فى ثري كربلاء؟ لا! لقد صَدرَ الامرُ من إبن زياد أن يداس الجسد الشريف بأقدام الخيّالة و جىءَ بالخيل و أخذت تروح و تغدوا علي هذا الجسد الشريف لكنّ هذا كلّه لايُأثّر لانّ الجسد فى مقعد صدقٍ عند مليک مقتدر "و لاتحسبنّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون، إنّما يؤخرهم ليوم تشخصُ فيها الابصار، مهطعينَ مقنعي رؤوسُهم لايرتدُ إليهم طرفهم و أفئدتهم هواء، و أنذرالناس يوم يأتيهم العذاب، فيقول الذين ظلموا ربّنا أخَّرنا إلي أجلٍ قريب، نجب دعوتک و نتبع الرُسل، أولم تقولوا اقسمتُم من قبل، ما لكم من سوال، و سكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم و تبين لكم كيف فعلنا بهم و ضربنا لكم الامثال، وقد مكروا مكرهم و عندالله مكرهم، و إن كان مكرهم لتزول منه الجبال، فلاتحسبنّ الله مخلف وعده رُسله، إنّ الله عزيزٌ ذو انتقام، يوم تُبدّل الارض غير الارض و السّماوات و برزوا لله الواحد القهار، و تري المجرمين يومئذ مقرنين بالاصفاد، سرابيلهم من قطران، و تغشي وجوههم النّار، ليجزي الله كلُّ نفسٍ ما كسبت إنّ الله سريع الحساب، هذا بلاءُ للناس و لينظروا به، و ليعلموا أنّما هو إله واحد و ليذكر اولوا الالباب". إنّ يوم كربلاء يومٌ لاينسي مَدي َ الدهر، ديس الجسد كما يُداس عرينَ الاسود من الثعالب، و أخذت زينب و من معها من آل البيت أسيرةً.
مدارس آيات خلت من تلاوةِ و منزل وحي مقفر العرصات
بنات زيادٍ فى القصورِ مقيمةٌ و بنت رسول الله فى الفلوات
و أدخل الرأس الشريف علي اللئيم! علي إبن زياد، و نظر إبن زياد إلي الرأس الشريف، و قرأ "ما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت ايديكم". فردّ عليه الطفل الصغير"علي ابن الحسين" و قال له كذبت يا فاجر "ما أصاب من مصيبةٍ إلاّ بإذن الله، و من يؤمن بالله يهدى قلبه و الله بكل شىءٍ عليم" و إذا بطاغية العراق، إبن زياد يقول لزبانيته خذوه فاقتلوه، اُقتلوا طفلاً!! يا فاجر، إنّ الفسق لايميّز بين الصغار و الكبار إنّهُ الظلمُ إذا حلّ بأرض قوم و إذاً بزينب تهبُّ كالاسد و تقول لهُ يابن زياد إقتلوني قبل أن تقتلوهُ فأنا لااطيقُ ان أتحمّل مصرعَ ابن أخي، أقتلوني قبله، و تقفُ زينبُ حاجزاً حصيناً بين الظالمين و بين ابن أخيها فيعفو ابن زياد. و تمرُّ الرأسُ بالامصار و ماعاشت زينب بعد فجيعة الحسين إلاّ سنةً واحدة قضتها فى خلوةٍ مع الله، تعبده، قضتها صائمةً قائمةً حتي لُقيت الله.
كان يوم عاشوراء يوم نجات و يوم تضحية و جهاد. إنّ الحسين رضى الله عنه بلغ من كرم الاخلاق أن جارية له دخلت ببعض عيدان الريحان فأهدتها اليه فقال لها الحسين اذهبى فانت حرة، فقال الجالسون يا ابن بنت المصطفي اتعتُقها من أجل عودٍ من الريحان فقال الحسينُ إننى ذكرتُ قول الله تعالي إذا حُييتم بتحية فحيّوا بأحسنِ منها. فلمّ أجدُ أحسنَ من عود الريحان إلاّعتقها. فتي كان عذب الروح لامن غضاضة و لكن كبراً أن يقال به كبرُ
مافتي مات بين الطعن و الضرب ميتةً تقوم مقام النصر لوفاته النصر
وما مات حتي مات موضع سيفه من الضرب و أحتلت عليه القنا السمر تردي ثياب الموت حمراً فما دجي لها الليل إلاّ و هى من سُندسٌ خضرٌ
عليک سلام الله يا حسين وقفاً فأنني رأيت الكريمُ الحرَّ ليس لهُ عمر
فماذا حدث بعد إستشهاد الحسين؟ فأمَّا ابن زيادٍ فقد اُصيبُ بالصَّرع و كان يجري فى الصحراء حتي مات و أكلته الكلابُ العاوية. أمّا شمر الذى فصل الرأسُ عن الجسد، فقبل أن يموت اُصيب بمرض إسمُهُ الاستسقاء، يطلب الماء ليشرب لشدّة العطش و بعد أن يشرب الاناء كلّه و عندما ينزلهُ عن فمّه يستغيث أنا عطشان فاسقونى. أمّا يزيدُ فقد مات مجنوناً ولم يعمّر بعد الحسين إلاّ قليلاً "جزاءً وفاقا، إنّهم كانوا لايرجون حسابا و كذبوا بأياتنا كذّابا، و كل شيئاً أحصيناهُ كتابا فذوقوا فلن نزيدكم إلاّ عذابا" و"لاتحسبنّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون". اما الحسين فهو فى الفردوس الاعلي، بطل الجهاد، بطل التضحية قام إلي امام ظالم فأمره و نهاه، فقتله. الحسين عقيدة و جهاد، الحسين إذا ذكرتموه فألتمسوا منه دروس الجهاد....